مجلة الرسالة/العدد 799/أول ما عرفت شوقي
مجلة الرسالة/العدد 799/أول ما عرفت شوقي
(بمناسبة ذكراه السادسة عشرة)
عرفت شوقي عن عيان سنة 1927 في المهرجان الذي أقيم لتكريمه في القاهرة. عرفني به صديقي الأستاذ محمد كرد علي، وكان قد وفد فيمن وفدوا من أقطاب الأدب وأعيان العرب ليشاركوا مصر في تكريم شاعر العربية العظيم؛ فذهبت إليه في فندق الكنتنتال أزوره، فوجدته بالشرفة جالساً في قلادة من أولى الفضل يتوسطها شوقي، فلما رآني مقبلا هش لي ورف على، وقال لشوقي وهو يبتسم ويتهلل: هذا هو الرجل الذي أنصفك! فلما استسماني الشاعر النابه عجب الأستاذ كرد على ألا يكون بيننا تعارف ونحن نعيش في بلد واحد ونسير في طريق واحد. وسماني له، فتلقاني ببشره وشكره وأنسه، ثم توثقت بيني وبينه أسباب المودة سنتين كاملتين رحلت بعدهما إلى العراق. وفي أثناء مقامي ببغداد اصطفاه الله لجواره، فلم أره بعد ذلك إلا رؤيا، ولم أتمثله إلا ذكرى!
كان الأستاذ كرد علي يشير بإنصافي إلى مقال نشرته يومئذ في العدد الخاص بتكريمه من (السياسة الأسبوعية) عنوانه (ما لشوقي وما عليه)؛ وكن كثر ما كتب في هذا العدد عن شوقي أقرب إلى النكير وأدنى إلى الجراح، فداخل شوقي ظنون من إخراج هذا العدد، وحك في صدره أشياء من جهة هيكل؛ وأرهج بعض الناس بين الصديقين بالفساد حتى كاد أن تقع بينهما جفوة.
قال لي شوقي وقد أخذ بذراعي والقوم منصرفون: إني أشكرك على نقدك وتقريظك على حد سواء، فان الحق فيما أخذت لي ظاهر، والعدل فيما أخذت علي صريح. وإني أسلم لك ما عددت من هفواتي وأرده إلى اختلاف الأثر بين عصرين وثقافتين وذوقين. وليس من السهل أن يتجرد الشاعر أو الكاتب جملة أو فجأة من عوامل الوارثة والدراسة والبيئة ولكن ما رأيك فيما كتب فلان وفلان؟ وهل كان من مقتضيات الحال أن تنشر مجلة صديقي هيكل آراء خصومي في عدد تكرمي؟ فقلت له: إن رئيس تحرير السياسة كاتب يعرف قيمة النقد. ويرعى حرمة الرأي؛ وقد طلب إلى طائفة من أعلام الأدب أن يدلوا بآرائهم في الشاعر من غير تحديد لجهة، ولا تعين لقصد، ليكون العدد الخاص على ما أعتقد دراسة فنية شاملة لنواحي الشاعر تتعارض فيها الآراء، وتتقارع فيها الحجج، فتتألف من هنا ومن هناك صورة تامة لفن الأمير تكون في وسط هذا المهرجان تمثالا فيه الجمال والجلال، ولكن فيه كذلك الصفات الطبيعية الأخرى التي يريدها الخالق الكامل للمخلوق الناقص. فقال شوقي بصوته الخفيض وابتسامته الوديعة: يظهر أنك لا تقرأ ما بين السطور ولا تعرف ما وراء الستور. فقلت له: ربما!
ووقفت بنا سيارته على (كرمة ابن هانئ)، وكانت ليلتئذ تتلألأ بالنور والسرور، وتزدان بالزهور والحضور. فأصاب القوم ما شاءوا من مرئ الطعام وهنئ الشراب، ثم تجمعوا زمرا فوق أرائك وكراسي الردهة، يستمعون إلى الملحن الناشئ والمغني الحدث محمد عبد الوهاب وهو يغني بصوته الرخيم الخافت (أنا أنطونيو وأنطونيوا أنا). وكان شوقي آنس الله وحشته يؤثرني بالرعاية ويخصني بالحديث، شأنك مع الصديق الجديد والزائر المحتشم.
وفي أصيل اليوم التالي بعث إلى بسيارته الفخمة تحملني إلى داره؛ وكانت الدار حين دخلتها ساكنة كالصومعة، رهيبة كالمعبد؛ فمن رآها ليلة الأمس ثم رآها عصرية اليوم تذكر حال السكران الطافح ترنحه الخمر فيعربد، ثم يهوده الخمار فينام.
كان شوقي جالسا في ركن من الشرفة ومعه على المائدة الصغيرة حافظ وعبد المطلب وحنفي محمود، فلما أخذت موضعي من المجلس قال شوقي إنما دعانا هذا الوضع من اختلاف السن والذوق والثقافة لنقرأ تونيته التي نظمها للمهرجان. وأخذ حافظ يقرأ القصيدة فنقف عند كل بيت، ننظر في سياقه وموسيقاه، ثم نروي في معانيه وألفاظه، فربما استبدلنا لفظا بلفظ، وآثرنا عبارة على عبارة، وذوق الشاعر العبقري من وراء أذواقنا جميعا، ينقد ويوازن ويفاضل ويختار، حتى استوى القصيدة على فنه الرفيع منضد اللفظ نقي المستشف. وأردنا بعد ذلك أن نسمع حافظا، يرد الله بالرحمة ثراه، فاعتل بعلة لا أذكرها؛ ولكنه رأى من خلال المناقشة تجانسا بين ذوقي وذوقه فسألني أن أصحبه في العودة. وفي قهوة بميدان الأبرا كانت موضع ملهى (بديعة) اليوم، جلست أنا وحافظ رأسا إلى رأس، يقول في شوقي وأسمع، رويفتن في النكات وأضحك، حتى قال: سأنشدك قصيدتي لترى فيها رأيك. وأخذ شاعر النيل يقرأ لي عينيته المشهورة بصوته الفخم وإلقائه المعبر حتى فرغ منها؛ ثم نظر إلى نظر المستفهم المطمئن المعجب، فقلت له: هنيئا لك التصفيق الحاد والاستعادة المتكررة يا حافظ! قصيدة شوقي للقراءة وقصيدتك للسماع، ومعانيه للخاصة ومعانيك للجمهور! فقال في لهجته الساخرة الفكهة: وهي يعنيني غير الجمهور؟
توالى اللقاء بيني وبين شوقي بعد ذلك اليوم، مرة في داره، ومرارا في (صولت). وكان كلما أنشأ عبقرية من عبقرياته أقرأني إياها؛ وذلك في جميع أطوار عمره: يعرض ما يقرض على الآذان المتباينة والأذهان المتفاوتة ليعلم موقعه من كل ذوق، وأثره في كل نفس. وكان أشد ما مكن الألفة بيني وبينه مشابه في الطبع من فرط الحياء، وحب العزلة، وقلة الكلام، والانقباض في الندى الحافل، والابتعاد عن الحفل الجامع؛ فكأني كلا منا كان يرى في الآخر عزاء عن نقصه وعوضا من حرماته.
كان شوقي يرى كأكثر الناس أن الرجل إذا لم يعمل في الحكومة كان أشبه بالمتشرد. لذلك كان قلقا على من هذه الناحية، فهو يستكبرني على العمل الحر، ويعجب ألا يكون لي مكان في وزارة المعارف. ثم أخذ يسعى من وراء علمي لدى وزير المعارف علي الشمسي باشا ويمهد لي السبيل للقائه. وفي ذات ليلة من لياليه قال لي ونحن في ركن من أركان صولت: سأنتظرك غداً هنا في الساعة الحادية عشرة، فتعال ومعك مجموعة من كتبك لنزور وزير المعارف: فقلت له: وما شأني بوزير المعارف؟ فقال إنه يود أن يراك، ولعل من الخير أن تراه. فلما دخلنا على الوزير في الموعد الموقوت قدمني وكتبي إليه، فسلم الرجل تسليم البشاشة، وشكر شكران الغبطة. وجرى في حضرته حديث عني استجاز شوقي فيه ما لا يجوز إلا للشاعر من المبالغة في المدح والمجاملة في الثناء. ولما خرجنا من عنده ربت على كتفي وقال وهو مبتهج: لقدوعدني الوزير أن يضمك إلى الوزارة! فقلت له ولم أدهش لأني حزرت ذلك من قبل: ألهذا جشمت نفسك يا سيدي ونفسي؟ حد الله ما بيني وبين الحكومة! لقد حاول هذه المحاولة منذ أربع سنين طاهر باشا نور وعبد الفتاح باشا صبري فجذبت عناني من يديهما ومضيت. وأراد صديقي طه حسين وأستاذي لطفي السيد أن يدخلاني الجامعة منذ سنتين فلذت بالفرار بعد صدور القرار. أنا يا سيدي أستاذ في الجامعة الأمريكية، مرتبي ضخم ومكاني مرفوع ورأي مسموع وحريتي مطلقة. فهل نافعي ان أدع الطريق الذي قطعت أكثره إلى طريق أبدأ من جديد، وأن أعمد إلى رجلي الطليقتين فأضعهما في قيد من حديد؟ ولكن شوقي الصديق الشفيق لم يرضه هذا المنطق، فظل مشفقاً على من الحر حتى رحلت عن هذا البلد، فودعني راضيا وما كنت أدري وا أسفاه أنه وداع الأبد!
(القاهرة)
احمد حسن الزيات