مجلة الرسالة/العدد 797/أعلام الفكر في عصر الحروب الصليبية:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 797/أعلام الفكر في عصر الحروب الصليبية:

ملاحظات: بتاريخ: 11 - 10 - 1948



عز الدين بن عبد السلام

577 - 660هـ

للأستاذ أحمد أحمد بدوي

نشأ في شظف من العيش، ورفعته ثقافته إلى أن أصبح ينادي الملوك بأسمائهم، ولم يعمه المجد عن الحق، فنادى على رءوس الأشهاد بخطئه يوم بان خطؤه، ولم يدعه حب السيطرة والسلطان إلى النزول عن كرامته أو الرجوع عن معتقده، ولم تهيأ له وسائل الثقافة صغيراً، ولكنه جد حتى صار أستاذ عصره وأعلم أهل زمانه.

ولد بدمشق حيث تفقه على فخر الدين بن عساكر، وجمال الدين بن الحرستاني، وقرأ الأصول على سيف الدين الآمدي، وأخذ الحديث عن القاسم بن عساكر، ودرس النحو، ورحل إلى بغداد، فأقام بها أشهراً. ونبغ العز في أصول الفقه، وأصول الدين، والتفسير؛ وبرع في الفقه حتى صار أعلم أهل عصره فيه، قالوا: وأنتهى به الأمر إلى مرتبة الاجتهاد فصار يفتى بما يؤدي اليه اجتهاده؛ وكان موفقاً سديداً في فتاويه.

ولي في دمشق خطابه الجامع الأموي والإمامة فيه؛ قال أبو شامة أحد تلامذته: (وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة)؛ فأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان، وفي طبقات الشافعية للسبكي (ج 5 ص 105) نص فتواه في تلك الصلاة، وبيان الأسباب التي حملته على القول بإبطالها. وما كان عز الدين يسجع في خطاباته، بل يقولها مترسلا، وأجتنب فيها الثناء على الملوك، واستعاض عن ذلك بالدعاء لهم.

ودرس عز الدين بالزاوية الغزالية بجامع دمشق، حيث قصده الطلبة من الآفاق، يقتبسون منه ويأخذون عنه، وارتفعت مكانته حتى راسله عيسى بعض ملوك عصره وأحبوا لقاءه؛ فهذا الناصر داود بن المعظم عيسى يرسل اليه قصيدة يحزن فيا على ما أصاب الإسلام عندما أغارت الإفرنج على نابلس ويقول له فيها:

أيا ليت أمي أيم طول عمرها ... فلم يقضها ربي لمولى ولا بعل

ويا ليتها لما قضاها لسيد ... لبيب أديب ط قضاها من اللاتي خلقن عواقرا ... فما بشرت يوماً بأنثى ولا فحل

ويا ليتها لما غدت بي حاملا ... أصيبت بما ضمت عليه من الحمل

ويا ليتني لما ولدت وأصبحت ... تشد اليّ الشدقميات بالرحل

لحقت بأسلافي فكنت ضجيعهم ... ولم أر في الإسلام ما فيه من خل

وكان الأشرف موسى يلهج بذكره، ويؤثر الاجتماع به، وقد دار بينهما نقاش أنتهى باقتناع الأشرف برأي عز الدين وعقيدته، وغرامه بكتبه وتأليفه، ودعوة الناس إلى قراءتها والعمل بفتاويه، فلما مرض الأشرف مرض الموت أرسل إلى العز يستزيره فجاء اليه، فلما أستنصحه الأشرف نصحه العز بأن يولي وجهه إلى حرب التتار، لا إلى حرب أخيه الكامل، وكانت جفوة قد حدثت بينهما، فقبل الأشرف نصيحته وأستزاده، فطلب منه العز أن يرسل إلى نوابه يحرم عليهم شرب الخمر والفسق وفرض ضرائب على المسلمين، فأطاع أمره. ثم أمر له الأشرف بألف دينار، فردها قائلاً: (هذه اجتماعه الله لا أكدرها بشيء من أمور الدنيا)؛ وعندما ملك الكامل دمشق، وكانت بعدما أشترط عليه عز الدين شروطاً كثيرة قبلها الكامل. فلما ملك الصالح إسماعيل خوفاً منعه المنام والطعام والشراب، وصالح الإفرنج على أن ينجدوه على الصالح أيوب، ويسلم اليهم صيداً والشقيف وغير ذلك من حصون المسلمين. ودخل الإفرنج دمشق لشراء السلاح ليقاتلوا به عباد الله المؤمنين، فشق ذلك على الشيخ مشقة عظيمة، وعلى المتدينين من بائعي السلاح، واستفتوا الشيخ في بيع الإفرنج السلاح؛ فقال: (يحرم عليكم البيع لهم؛ لأنكم متحققون أنهم يشترونه ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين)؛ ويظهر أن عز الدين قد أثاره هذا الأمر، فنال من الصالح إسماعيل على المنبر ولم يدع له، وجدد دعاءه على المنبر، وكان يدعو إذا فرغ من الخطبتين قبل نزوله من المنبر بقوله: (اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً تعز فيه وليك، وتذل فيه عدوك، ويعمل فيه بطاعتك، وينهي فيه عن معصيتك)؛ والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين، فعلم السلطان بذلك، فأصدر أمره بعزل الشيخ وأعتقاله، فبقى مدة معتقلاً، ثم أطلقه على أن يغادر بلاده، فخرج عبد العزيز من دمشق؛ ثم بدا للصالح إسماعيل أن يعيده، فأرسل خلفه رسولا أخذ يسوسه، ويلين له القول، وقال له: (بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير)؛ فقال: والله يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي فضلا عن أن أقبل يده. يا قوم، أنتم في واد وأنا في واد، والحمد لله الذي غافاني مما ابتلاكم به). وبينما هو في طريقه إلى مصر مر بالكرك؛ فسأله صاحبها الإقامة عنده، فرأى العز أن الانتفاع به سيكون محدوداً في مثل هذه المدينة، فقال له: بلدك صغير على علمي، ومضى إلى مصر فقدمها سنة 639، وأستقبله علماؤها بالإجلال والإكبار، وبالغ عبد العظيم المنذري حافظ مصر في الأدب معه، وأمتنع من الفتيا لأجله، وقال: كنا نفتي قبل حضوره، أما بعد مجيئه فمنصب الفتيا متعين فيه. وتلقاه الصالح أيوب عدو الصالح إسماعيل خير لقاء وأكرمه؛ وولاه خطابه جامع عمرو بن العاص بمصر والقضاء بها وبالوجه القبلي، وفوض إليه عمارة المساجد المهجورة بمصر والقاهرة، فقام بالمنصب أتم قيام، وتمكن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم. وكان يسلك في الإرشاد طريقاً عنيفاً. قال تلميذه الباجي: (طلع شيخنا عز الدين مرة إلى السلطان في يوم عيد إلى القلعة، فشاهد العسكر مصطفين بين يديه، ومجلس المملكة، وما السلطان فيه يوم العيد من الأبهة، وقد خرج على قومه في زينته، وأخذ الأمراء يقبلون الأرض بين يدي السلطان، فالتفت الشيخ إلى السلطان وناداه: (يا أيوب، ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر، ثم تبيح الخمور؟! فقال: (هل جرى هذا؟) فقال: (نعم، الحانة الفلانية يباع فيها الخمور وغيرها من المنكرات، وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة؟ ّ يناديه كذلك بأعلى صوته، والجند واقفون، فقال: يا سيدي، هذا أنا ما عملته، هذا من زمان أبي)، فقال: أنت من الذين يقولون: إنا وجدنا آباءنا على أمة. فرسم السلطان بأبطال تلك الحانة. قال الباجي: سألت الشيخ لما جاء من عند السلطان وقد شاع هذا الخبر: يا سيدي كيف الحال؟ فقال: يا بني، رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينه لئلا تكبر عليه نفسه فتؤذيه؛ فقلت: يا سيدي، كيف الحال؟ فقال: (والله يا بني، استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان قدامي كالقط). وحدث أن أستاذ دار الصالح وهو فخر الدين عثمان بن شيخ الشيوخ عمد إلى مسجد بمصر فعمل على ظهره بناء لطبل خانة، وظلت تضرب هنالك، فلما ثبت هذا عند الشيخ عز الدين أمر بهدم ذلك البناء، ومضى بجماعته وهدمه، وأعلم أن السلطان والوزير يغضبان، فأسقط عدالة الوزير، وعزل نفسه عن القضاء. فعظم ذلك على السلطان، وقيل له: أعزله عن الخطابة، وإلا شنع عليك على المنبر كما فعل في دمشق فعزله. وقد أمضى الخليفة المستعصم ببغداد حكم عز الدين في فخر الدين، فلم يقبل رسالة عن السلطان كان راويها للرسول أستاذ الدار.

أقام عز الدين في منزله يشتغل عليه الناس، ويدرس، وأخذ في التفسير في دروسه، حتى إذا بنى السلطان المدرسة الصالحية فوض أمر تدريس الشافعية بها إلى عز الدين.

وكان العز مع الفقهاء الذين قدموا على المعظم توارن شاه، وناظرهم السلطان، وشهد معركة المنصورة سنة 648 مجاهداً في سبيل الله، ولم يزل مرعى الكرامة في عصر السلاطين، يعتمدون عليه ويستشيرونه، ويأخذون برأيه، ومن ذلك أن التتر عندما هاجموا البلاد الإسلامية جمع المظفر قطز القضاة والفقهاء والأعيان لمشاورتهم فيما يعتمد عليه في أمر التتار، وأن يؤخذ من الناس ما يستعان به على جهادهم، فحضروا في دار السلطنة بقلعة الجبل، وحضر الشيخ عز الدين والقاضي بدر الدين السنجاري قاضي الديار المصرية، وغيرهما من العلماء وأفاضوا في الحديث، فكان الأعتماد على ما يقوله أبن عبد السلام. وخاصة ما قال أنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على العالم قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الترعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شئ، وتبيعوا ما لكم من الأدوات المذهبة والآلات النفيسة، ويقتصر الجند على مركوبهم وسلاحهم، ويتساووا هم والعامة. وأما أخذ الأموال من العامة مع بقايا في ايدي الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا.

وكان الظاهر بيبرس يعظمه، ويقف عند أقواله وفتاويه، وأقام الخليفة بعد استشارته، ومما يدل على منزلته الرفيعة أن الظاهر لم يبايع المستنصر والحاكم إلا بعد أن تقدمه عز الدين ثم تلاه السلطان ثم القضاة.

وفي عهد الظاهر بيبرس في 10 جمادي الأولى سنة 660 مات عز الدين بعد إن أكثر من عشرين عاماً قضاها في مصر يحيط به الإكبار والإجلال. ويقال: إن السلطان ارسل اليه لما مرض، وقال له: عين مناصبك لمن تريد من أولادك، فقال عز الدين: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين ففوضت اليه. وشهد الظاهر بيبرس جنازته، وصلى عليه، وحضر دفنه، كما شيعه الأمراء والخاصة والأجناد وطبقات الشعب. ومما يدل على ما وصل اليه عز الدين من النفوذ ما يروي من أنه لما مرت جنازته تحت القلعة، وشاهد الملك الظاهر كثرة الخلق الذين معها قال لبعض خواصه: الآن أستقر أمري في الملك؛ لأن هذا الشيخ لو أمر الناس في بما أراد لبادروا إلى امتثال أمره.

ولعز الدين بن عبد السلام مؤلفات في الفقه والتفسير والحديث وعلم الكلام والتصوف.

ففي الفقه له كتاب القواعد الكبرى الذي قال عنه تاج التراجم: ليس لأحد مثله. وقال عنه السبكي: هذا الكتاب وكتاب مجاز القرآن شاهدان بإمامته وعظيم منزلته في علوم الشريعة. وأختصر القواعد الكبرى في قواعد صغرى. وله في الفقه ايضاً كتاب الغاية في أختصار النهاية. وكتاب الإمام في أدلة الأحكام، والفتاوي الموصلية، والفتاوي المصرية، وهي مجموع مشتمل على فنون من المسائل والفوائد.

وله في التفسير كتاب سماه بحار القرآن (بدار الكتب رقم 32 تفسير) ورسالة تسمى فوائد العز بن عبد السلام وهي اسئلة وأجوبة متعلقة بالقرآن الكريم (مخطوطة بدار الكتب رقم 77م تفسير) وأخرى دعاها كشف الاشكالات عن بعض الآيات، وهي أجوبة عن أسئلة مشكلة في آيات من القرآن الكريم (مخطوطة بدار الكتب رقم 836 تفسير).

وأختصر في الحديث صحيح مسلم.

ووضع في علوم الكلام كتاب الفرق بين الإيمان والاسلام، وكتاب بداية السول في تفضيل الرسول.

وفي التصوف - وكانت له يد طولي فيه - ألف بيان أحوال الناس يوم القيامة، وفوائد البلوى والمحن، وكتاب حل الرموز ومفاتيح الكنوز تكلم فيه عن بعض أحاديث وألفاظ من كلام القوم، وكتاب مسائل الطريقة في علم الحقيقة.

ولم يترك عز الدين كتباً فحسب، ولكنه ترك تلاميذ صاروا من أعلام الأئمة، ومن نوابغ العلماء، نذكر منهم أبن دقيق العيد، وهو الذي لقب استاذه بسلطان العلماء، وعلاء الدين الباجي، والحافظ الدمياطي والدشناوي، وهبة الله القفطي.

أما أخلاقه فأظهرها الصلابة في الحق والجهر به، يحاسب غيره عليه ويحاسب نفسه، ولا يمنعه من الرجوع إلى الحق الخوف من أن يقال أخطأ؛ فقد أفتى مرة يشئ، ثم ظهر أنه أخطأ، فنادى في مصر والقاهرة على نفسه: من أفتى له أبن عبد السلام بكذا، فلا يعمل به فإنه خطأ. قالوا: وكان مع شدته فيه حسن محاضرة بالنادرة والشعر يستشهد به، وإن كان لم يقل من الشعر سوى بيت واحد هو:

لو كان فيهم من عراه غرام ... ما عنفوني في هواه ولاموا

قالوا: إنه أنشده لطلبته، قال لهم: أجيزوه فقال عمر بن عبد العزيز بن الفضل الأسواني:

لكنهم جهلوا لذاذة حسنه ... وعلمتها لما سهرت وناموا

وأنشد قصيدة طويلة منها:

مولاي عز الدين عزّ بك العلا ... فخراً فدون حذاك فيه الهام

لما رأينا منك علماً لم يكن ... في الدرس قلنا: إنه إلهام

وآخرها:

جاوزت حدّ المدح حتى لم يطق ... نظماً لفضلك في الورى نظّام

فعليك يا عبد العزيز تحية ... وعليك يا عبد العزيز سلام

كما مدحه الجزار بقصيدة أولها:

سار عبد العزيز في الحكم سيراً ... لم يسره سوى أبن عبد العزيز

عمّنا حكمه بعدل بسيط ... شامل للورى ولفظ وجيز

وكان معاصروه من العلماء يضمرون له أعظم الإجلال فكان شديد الإعجاب به، متفقاً معه في لوم الصالح إسماعيل الذي أخرجهما معاً من دمشق، وكان أبن الحاجب يرى العز أفقه من الغزالي. وكان عز الدين وأبو الحسن الشاذلي يعجب كل منهما بصاحبه، يحضر العز عند الشيخ ويسمع كلامه في الحقيقة ويعظمه، وقال أبو الحسن الشاذلي: قيل لي: ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وما على وجه الأرض مجلس في الحديث أبهى من مجلس الشيخ زكي الدين عبد العظيم، وما على وجه الأرض مجلس في علم الحقائق أبهى من مجلسك. ووضع القاضي عز الدين الهكاري مصنفاً في سيرته. كما ترجم له السبكي ترجمة كلها إعجاب به بدأها بقوله: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء، وإمام عصره بلا مدافعة، والقائم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في زمانه، المطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، والعارف بمقاصدها، ولم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله علماً وورعاً وقياماً في الحق وشجاعة وقوة جنان.

(حلوان الحمامات)

أحمد أحمد بدوي

مدرس بكلية دار العلوم - بجامعة فؤاد الأول