انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 796/رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 796/رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر

مجلة الرسالة - العدد 796
رحلة في الديار المصرية في القرن الثامن عشر
ملاحظات: بتاريخ: 04 - 10 - 1948


(الميلادي):

النحلة النصرية في الرحلة المصرية

لمصطفى البكري الصديقي

للأستاذ أحمد سامح الخالدي

لما دخل شهر جمادى الآخرة من سنة (1132هـ 1719م) أراد الشيخ مصطفى البكري زيارة الخليل ومنها إلى القاهرة، ذات الربوع الزاهرة، وأقام في الخليل أياماً، جاءه فيها الشيخ موهوب مجذوب يكنى بأبي جاعد، فسأله الشيخ بالإشارة عن التوجه إلى مصر، فأومأ بيده نحو السماء، مشيراً بأن العلم لله. وخرج مسرعاً ثم عاد، فكرر الشيخ السؤال فأعاد المجذوب الجواب. وأخبر عن رجل صالح أنه يقول إنه تراءى له سيدي اسحق وقال له قل لفلان يرجع إلى وطنه، فعدل الشيخ عن السفر. ودعاه الأخ الشيخ عبد الرحمن الخطيب بن الشيخ أحمد التميمي إلى كرمه خارج الخليل، وكان قد أتصل بطريقة الشيخ مثل ذلك، فأجابه وكان الوقت قيظاً، فحصل للشيخ من ذلك مشقة.

وعاد الشيخ مصطفى إلى القدس، وأقام إلى أن مضى شهر الصيام. وفي شوال توالت الأخبار بأن جناب الدستور المكرم والمشير المفخم الحاج رجب باشا تولى الديار المصرية، ومراده زيارة الاراضي القدسية والخليلية، ومنها ينزل إلى العريش، وكان له مع الشيخ صحبة ومودة، من مدة طويلة. وتحقق حلول ركابه في مدينة نابلس، فسار الشيخ لاستقباله مع شيخه الشيخ محمد الخليلي، ودخلا عليه، وكان الباشا ينزل عند نقيب أشراف نابلس السيد محب الدين، فدعا الشيخ لصحبته إلى أرض الكنانة، فأحاله على الشيخ محمد الخليلي فوجه إليه الخطاب فتعطل، ولكن الباشا ألح وأبرم فقبلا الدعوة.

وبعد زيارة الخليل، والمعاهد والمشاهد فيها، سارا صحبة الباشا إلى بيت جبريل، ونصب لهما خيمة، وعين لهما ما يحتاجان ' ليه من كثير وقليل، ولم يكن للشيخ في هذا المسير رغبة، لما فيه من المخاطر، وما كان قد استعد لمثل هذه السفرة الشاقة، وودع الذين صحبوه، وشرع لفوره في كتابة رحلته وسماها [النحلة النصرية في الرحلة المصرية] وسار في الصباح لغزة وقال فيها من قصيدة:

وأردُ الشوق غز في القلب غزّة ... عندما جئت أبتغي أرض غزة

ثم سار إلى خان يونس، وبات فيها وقال فيها موالياً:

يا فرحتي مذ بدا المحبوب لي يونس ... مسامري بين ندماتي لخان يونس

سألت ما الإسم بدري قال لي يونس ... وقلت والأصل حبي قال لي يونس

وأستأنس باصحابه وبكر نحو العريش وقال من قصيدة:

عرش الحب في الحشا تعريشا ... حين حل الملتاع فيه العريشا

وأقام ثاني يوم ينتظر ذخائر القوم، ثم توجه نحو (بير العبد) ذي الماء الملح، فلم يطق فيه مقاماً، وجهد حتى وصل (قطية) ومال لسهلها ونزل عليه، ورحل إلى (الصالحية) وتلقاه هناك نذر من جند مصر المحمية. وكان رافقة من غزة هاشم الشيخ صالح مفتيها، فتمرض في الطريق ودفن في الصالحية. ونحا بعد ذلك جهة (القرين) والوزير يرمقه والشيخ محمد الخليلي بعين، ويتفقد أحوالهما فيزول عنهما الغين.

ونزل بعد ذلك نخيل (بلبيس) وأرتحل للخانكه وأتاها ليلاً، وأمر الوزير بعض من عول عليه من جند مصر، بإنزالهما داخل المدينة في مكان مناسب، وأرسلهما مع خادمه إلى دار محمد بك المكني بأبي الشوارب، ووعد عليهما للسلام أعيان البلد، وهي دار واسعة الأكناف، ممتدة الجوانب والأطراف، مقسمة إلى بيوت أربعة، كل بيت يسع الصنجق والذين معه. ويقول الشيخ في وصف الدار (وكنا في ربعها نتيه، ونكاد إذا درنا في جنباته أن نتيه).

ولما دخل مصر القاهرة، شهد مدينة بالمباني الفاخرة، ورأى فيها اشياء كثيرة، لم يرها في غيرها من المدن الشهيرة، فتحقق أنها بلدة جمعت محاسن خطيرة، ولم يقل كما قال البعض أنها قرية كبيرة، بل قال كما قال الإمام الشافعي عنها (كنت أظن أن مصر في الدنيا، فرأيت الدنيا في مصر).

وكان الوزير الكبير، سأل الشيخ قبل دخول مصر، عن محل نزوله، فأجابه في محل يكون شيخه الشيخ محمد الخليلي فيه، فسأله (ولم لا تنزل في بيت البكري الوسيع؟) فأجابه (رغبة في صحبة الشيخ الرفيع، وإن دعانا شيخ السجادة إليه أجبناه). ويقول الشيخ (وأقمنا في هذا البيت مدة، وأظهر لنا كبير بيتنا صده، وجعلنا حرفاً منسياً، كمن جاء شيئاً فرياً، فنفرت النفس). وأرتحل إلى دار في الخرنفش صغيرة الدائرة، تحت تصرف صديقه إبراهيم أفندي، القاضي، وهي لصقة قاعة التجلي التي للسادة الوفائية، وكان يتردد عليها، وربما أقام ليلا ونهاراً لديها. ويقول الشيخ إن هذه القاعة نظير قاعة الجلال التي في بيتهم، وقد دخلها شيخه الشيخ عبد الغني النابلسي.

وأول ما أبتدأ به من الزيارات زيارة الحسيبة النسيبة السيدة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال المناوي في ترجمتها: ولدت بمكة سنة خمس وأربعين ومائة ونشأت بالمدينة في العبادة وتزوجت اسحق المؤتمن بن جعفر الصادق، فولدت منه القاسم وأم كلثوم، قدمت مصر ونزلت بها ببيت عمتها سكينة المدفونة بقرب دار الخليفة بمصر، ولها بها الشهرة التامة بالولاية. ماتت بمصر سنة (208هـ) وكانت قد حفرت قبرها بيدها وصارت تنزل فيه وتصلي، ودفنت في قبرها ببيتها بدرب السباع بالمراغة، محل معروف بينه وبين مشهدها الآن مسافة بعيدة. ثم ظهرت في هذا المكان الذي يزار الآن وكان الشافعي يعتقدها ويزورها. قال الذهبي، وكان والدها من سراة العلويين، ولي المدينة للمنصور ثم حبسه حتى مات، فأخرجه المهدي وأكرمه ولم يزل معه حتى مات المنصور في طريق الحج. ولها كرامات كثيرة. ثم توجه للقرافة، فزار مقاماتها. ومنها إلى زيارة مقام الإمام محمد بن إدريس (الشافعي) ولد بغزة أو عسقلان سنة (150هـ) وهي السنة التي مات بها أبو حنيفة، وأجيز بالإفتاء وعمره خمس عشرة سنة، ثم رحل إلى الإمام مالك فأقام عنده مدة، ثم لبغداد، ولقب بناصر السنة ثم عاد لمكة، ثم لبغداد، ثم لمصر، فاقام بها حتى مات سنة (204هـ) عن أربع وخمسين سنة.

ثم عطف بعد ذلك على زيارة شيخ الإسلام زكريا بن احمد زين الدين الأنصاري السنيكي، ثم القاهري الأزهري ولد سنة (826هـ) وتوفي سنة (921هـ). ثم زار أسلافه الكرام السادة البكرية، ووقف قبالة القطب الكبير سيدي محمد، وقرأ له فاتحة الكتاب.

وتقدم بعد ذلك لزيارة عم والده، جناب العالم أحمد أفندي نجل والد جده الشيخ كمال الدين البكري نزيل دمشق الشام والقاطن بها هو ووالده وجده، وكان وفد الجد المذكور من مصر إليها، ثم إنه أستحسنها وعول في السكنى عليها. وعم والد الشيخ ورد على مصر من الحجاز معزولا عن قضاء مكة، وتوفي ثاني يوم دخوله وذلك سنة (1118هـ).

ثم سار لزيارة أبي الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن أبن أبي الثنا الفهمي القرقشندي وهو من تابعي التابعين، القائل رأيت نيفاً وخمسين رجى من التابعين. وقال في حقه يحيى بن بكير، الليث أفقه من مالك. وهو شيخ البخاري ومسلم؛ ولد سنة أربع وتسعين وتوفي عام خمس وسبعين ومائة. وزار بعد ذلك جملة صالحة من سكان القرافة لا يمكن عدهم، ولم يزد على التمثيل في العتبات الرفيعة إلا لدى سلطان العشاق سيدي عمر بن الفارض مولده (556هـ أو 560هـ) ووفاته (632هـ).

ثم قصد زيارة سيدي محمد الحنفي نجل علي شمس الدين الشاذلي (ولد سنة 747هـ - وتوفى سنة 847هـ). ثم توجه لزيارة السند الجليل سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، ولد سنة أربع أو ست أو سبع وأستشهد يوم عاشوراء يوم الجمعة سنة إحدى وستين (بكربلا). وأعلم أنهم اختلفوا في رأس الحسين بعد مصيره إلى الشام أين صار، وفي أي موضع أستقر، فذهبت طائفة إلى انه، طيف به في البلاد حتى أنتهى إلى عسقلان فدفنه أميرها بها فلما غلب الإفرنج على عسقلان افتداه منهم الصالح طلايع وزير الفاطميين بمال جزيل ومشى إلى لقائه من عدة مراحل، ثم بنى عليه المشهد المعروف بالقاهرة، والى ذلك أشار القاضي الفاضل في قصيدة مدح بها الصالح طلايع. وصار آخرون ومنهم الزبير بن بكار والعلاء الهمداني إلى أنه حمل إلى المدينة مع أهله فكفن ودفن بالبقيع عند قبر أمه وأخيه الحسن. وذهبت الأمامية إلى أنه أعيد إلى الجثة ودفن بكربلا بعد أربعين يوماً من القتل. ورجح القرطبي، الثاني قائلا ما ذكر من أن في عسقلان مشهدا هناك أو بالقاهرة باطل لا أصل له. أنتهى. والذي عليه طائفة من الصوفية أنه بالمشهد القاهري.

ثم زار الشيخ، علم هذه الديار، وأحد أركان مصر، سيدي عبد الوهاب بن أحمد الشعراني يتصل نسبه بسيدي محمد بن الحنيفة نجل علي رابع خلفاء المختار، ولد تقريباً سنة (899هـ) وتوفي سنة 973هـ وقد ترجمه المناوي وغيره وترجم هو نفسه في سننه، وقد طالع الشيخ جملة من مؤلفاته، وكرر له الزيارة فهو أحد أشياخه ثم زار سيدي محمد الكردي الكائن بعد باب الفتوح، ثم مال لرورة الخواص، وضريحه بزاوية الشيخ بركات خارج باب الفتوح تجاه خوص، توفي سنة (939هـ).

ولقد دعاه جناب الشيخ علي نجل الحنفي الولي، إلى مكان نزيه ذي أبنية وثيقة، في مصر العتيقة، وكان بحر النيل في ازدياد على المعتاد، فأركبه والشيخ محمد الخليلي، قياسة له صغيرة، وأرسلهما للتفرج على المقياس فسارا ورأيا العمود فيه مغطى بمياه فاقت (علي) الأسفنطا؛ ورأيا الماء نازلا عما عليه كان، لأنه فاض من الدرج الخارج وعم ساحة المكان؛ ثم عادا إلى محل الضيافة، فإن أمواجه كانت كبيرة، واختلاف أهويته كثيرة، وكان كبير ذلك المحفل الجامع والداعي لبيته وضيافته جناب الشيخ عبد الرؤوف البشبيشي، وقطعا ذلك النهار، والداعي الصفي نجل الحنفي والوفي يلاطفهما.

وبعد أيام دعي الشيخ للإصلاح بين الشيخ محمد شنن والشيخ أحمد (اللقدوسي؟) وأقام معهم صفا ووفا، على بركة الرطلي التي تمتلئ إذا النيل وفا، وكان يوماً مشهوداً بالأفاضل المعتبرين ممدوداً بمكارم الكريمي المستقى هو وأخوه قد دعا الشيخ بعد أيام للحضور في داره، وقصد بعد أيام لزيارة مقام زين العابدين.

ثم توجه صحبة الشيخ محمد الخليلي إلى جامع سيدي عمرو بن العاص بن وائل السهمي فاتح مصر، وقد لقب أبوه بالعاصي على أحد الأقوال لأنه كان يتقلد بالعصا عوضاً عن السيف فسمى بالعاص. وكانت زيارته وزيارة سيدي عقبة بن عامر الجهني تقدمت، ورأى الشيخ في الجامع مصحفين ينسبان للأماميين سيدي عثمان وسيدي علي رضي الله عنهما، ويقول (إنه بالبعد عن المدينة، اضمحلت بعض رسومه المتينة)، وصعد المنبر، فوعظ وسار بعد ذلك إلى مصر العتيقة وكر ثانياً إلى المقياس. ويقول الشيخ ومن المترددين عليه الشيخ محمد الحفناوي. وممن دعا الشيخ إلى داره الشيخ محمد العناني ذو النسب العمري والحسب الشمسي القمري، وأغدق عليه المبرات.

ويقول الشيخ (وكنا نستعمل القصب بكثرة غير مختصرة، حتى اتخذنا له من الخشب صغير معصرة، ويقال إن الإمام المطلبي صاحب المذهب، ابن عم النبي كان سبب نزوله القاهرة، حبه في القصب السكري، وفي ذلك يقول الإمام السيوطي:

نزلتُ على القصب السكري ... نزول رجال يريدون نهبه

يجز كجزء رؤوس العدا ... ومص كمص شفاه الأحبة

وكان يتردد كثيراً مع الشيخ الخليلي إلى بولاق لأجل الإطلاق لا من الإملاق، وكذلك لزيارة الشيخ فرج، وصعد طبقة فرأى على جدرانها أبياتاً أثبتها منها:

ومن عجب الأيام أنك جالس ... على الأرض في الدنيا وانت تسير

وسيرك يا هذا كسير سفينة ... بقوم جلوس والقلاع تطير

وكان الشيخ قد زار في أوائل قدومه الولي الشيخ محمد الدمرداش، ودعاه أولاده الشيخ محمد صاحب السجادة والشيخ عثمان، ودخل خلوة الشيخ.

(البقية في العدد القادم)

أحمد سامح الخالدي.