مجلة الرسالة/العدد 795/في ذمة الله
مجلة الرسالة/العدد 795/في ذمة الله
زعيم الباكستان
للشيخ محمد رجب البيومي
كانت وفاة القائد الأعظم محمد علي جنه مصيبة فادحة سالت لها الدموع، وقد تلقيت نبأها الفاجع في حيرة بالغة، ودهشة محزنة، وأخذت أتساءل عن مصير دولته الفتية بعد أن فقدت بطلها العظيم، وربانها الحاذق، كما استعرضت - في كآبة قاسية - صوراً من الآمال المشرقة التي يتلمس العالم الإسلامي تحقيقها على يد الباكستان، مذ أصبحت دولة مستقلة تسمى إلى تحقيق الوحدة الإسلامية، وتشعر بما يشعر به أبناء العقيدة المحمدية في جميع الآفاق.
ولقد أتيح لي أن أشاهد الفقيد الكبير أثناء زيارته الأخيرة للقاهرة، فراقني منه هدوءه المطمئن، ووقفت على صورة كاملة من مزاياه الطيبة التي تنطق بها ملامحه وإشاراته، كما تتبعت في كثير من الاهتمام نشاطه السياسي، وقرأت عن كفاحه واستبساله ما زادني إجلالا له في حياته، وألهب قلبي حزناً عليه غب وفاته.
ولا يقدّر مصيبة الإسلام في زعيم الباكستان غير منْ ألم بتاريخه إلماماً دقيقاً، فقد وهب رحمه الله نفسه للدفاع عن حقوق طائفته المبعثرة المتناثرة، فجعل منها قوة متشابكة متساندة تصل إلى أهدافها في جرأة، وتفصح عن رأيها في قوة وإيمان، وكانت - منذ أمد بعيد - هدفا تتعاوره السهام الخاتلة من كل جانب، وطعمة تتزاحم عليها الأفواه الجشعة من كل صوب.
وتاريخ جنه يرتبط أشد الارتباط بتاريخ الأمة الإسلامية في الهند، فإذا كتب كاتب عن الزعيم الراحل فإنما يتحدث عن مائة مليون من المسلمين كانوا أباديد في مختلف الجهات فوهبهم الله قائداً قوياً يجمع الشمل ويسلم الشعث حتى توحدت الكلمة على يده، ودنت الغاية المأمولة بجهوده. وسنعرض بإيجاز للحركة الإسلامية في الهند وأثر جنه في نجاحها الباهر، وحسبه أن كان التعريف به مقروناً بسيرة أمته، فكفاحها كفاحه، وتاريخها تاريخه.
كان حزب المؤتمر الوطني في الهند ينظر إلى المسلمين بعين الازدراء والمقت فهم أقلية لا يحسب لها حساب في الأمة الهندية، ولئن اصطبغ الحزب بالصبغة السياسية فقد كان أعضاؤه المتعصبون لا يتناسون ما يدب في صدورهم من البغض للمسلمين، فهضموا حقوقهم الأكيدة، وأشاعوا عنهم المفتريات الآفكة، فكانت الفتن الأهلية تندلع في كل وقت مستمدة وقودها المتأجج من الأقلية المهضومة، والحاكم الإنجليزي لا يتوانى عن إشعال الضرام ما استطاع، ليقيم دعائمه الاستعماري على الخلاف الديني والنزاع الطائفي، ولم يجد المسلمون بداً من تأسيس رابطة جامعة تفند مفتريات الهندوكيين، وتقوم بما تراه من الإرشاد والتوجيه
كانت الطائفة الإسلامية تضم نخبة ممتازة من الأحرار الأمناء، وكان الفقيدْ العظيم يبذل لها ما يملك من فكر ثاقب، وقلب جريء. ولا غرو فقد تثقف ثقافة عالية، ونال شهادة الحقوق من إنكلترا، ثم تقلد مناصب قضائية أبرزت جانباً كبيراً من مواهبه وكفايته، واشتغل بالمحاماة فطارت شهرته وذاع صيته. هذا إلى جانب خدماته السياسية المجيدة، تلك التي جعلته - فيما بعد - قائد أمة، وزعيم دولة، ورجل تاريخ، وصاحب خلود.
كانت نفس جنه غنية بكثير من التسامح والود فلم يشأ أن يقطع صلته بحزب المؤتمر بعد تكوين الرابطة الإسلامية، ولكنه ظل منتمياً إليه ليقوم بدور السفير في تسوية ما يجد من تعارض الآراه، واختلاف وجهات النظر. ولعله كان يطمع بتسامحه أن يكون مثلا ملموساً لأعضاء المؤتمر، كيلا يفرطوا كثيراً في المغالاة والتعصب، ولقد وفق بادئ الأمر في سفارته توفيقاً محموداً، حيث عقد اتفاق (لكنو) سنة 1916 وبمقتضاه قدمت من الحزبين مذكرة مشتركة إلى الحكومة البريطانية تطلب منح الهنود قسطاً من الحكم الذاتي.
ولقد ضاق الزعيم ذرعاً بتعصب الهندوكيين، ويئس من اقناعهم بالعدول عن التعسف الشنيع فاستقال من حزب المؤتمر وهيأ نفسه للعمل في طريق شاق تكتنفه المخاوف والمكاره، حيث كانت الطائفة الإسلامية تتلقى ضربات مختلفة من عدة جهات: فالمؤتمر - بأعضائه المتغطرسين - يؤلب عليها النفوس، وحزب (مهاسبها) الذي ألف لمحاربة الرابطة الإسلامية يزاول مهامه الإجرامية في بربرية وحشية، فكانت المذابح الهائلة تسيل بالدماء على أيدي جنوده المتوحشين، وقد أعلن في غير مبالاة أن المسلمين ليسوا من الهند، فهم دخلاء يجب أن يرحلوا إلى البلاد العربية التي تعترف بدينهم الإسلامي. ولا نبالغ إذا قلنا إن الأرواح التي أزهقت في الهند كانت من جراء هذا الحزب البربري الهائج، ولولا ثبات الرابطة الإسلامية وصمودها العجيب أمام أعدائها المتوحشين، لتقلص ظل الإسلام في هذه البلاد. ولعل من الأدلة القاطعة على بربرية حزب (مهاسبها) أن قاتل غاندي - وهو شاب مثقف راق - كان منتمياً إليه، فلم يرقه تسامح المهاتما وموافقته على تقسيم الهند إلى دولتين، فألف مع بعض أعوانه عصابة لاغتيال زعماء المؤتمر، واحداً بعد واحد. فأذا كان هذا شعورهم المجرم نحو إخوانم الهندوكيين، فمن يحصى النكبات الفادحة التي جرها هؤلاء على المسلمين!
ولقد انتهز حزب المؤتمر نجاحه في الانتخابات التي تلت دستور سنة 1935 فأعلن أنه يمثل الأمة أتم تمثيل وتغاضى عن مائة مليون من المسلمين أقبح تغاض، وراح يروج لنفسه بدعاية براقة خادعة، مدعياً أن الزمام السياسي قد أصبح في يده وحده، ولكن الزعيم الأعظم محمد علي جنه وقف في وجهه باسم الرابطة الإسلامية، وطاف على قدميه في أنحاء المدن الإسلامية بالهند، فنبه العيون وأسمع الآذان، ودعا إلى توحيد الكلمة بين المسلمين ورسم أمامهم ما يتهددهم من المخاطر، وخاصة أن الحكومة الجديدة قد رفضت رفضاً باتاً أن يشترك فيها عضو واحد من المسلمين! وكثرت الفتن الداخلية كثرة أشعلت الأفئدة وألهبت النفوس، فعرف المسلمون تمام المعرفة ما يدبر لهم من الكيد والبلاء، بينما أخذ أعداء جنه يتهمونه بمساعدة الإنجليز، كما أسرفوا في التشهير بزعماء المسلمين إسرافاً لا حد له. ولم تمض مدة يسيرة حتى كان القائد الأعظم قد وفق في مهمته أكبرَ توفيق، فوافق حزب الرابطة سنة 1940 على اقتراحه بصدد مشروع الباكستان، وأخذ يعمل على الوصول إليه من كافة الطرق، وقد تحسن موقف الرابطة كثيراً حين جاءت الانتخابات الجديدة سنة 1946 ففاز المسلمون بجميع المقاعد المخصصة لهم في المجلس التشريعي، وأسقط في يد المؤتمر الهندوكي حيث بان للعالم أجمع أنه ليس وحده الذي يمثل الهند، وأصبح مركز الرابطة يسمح لها أن تستقل بالبلاد الإسلامية مما ترتب عليه شطر الهند إلى دولتين مستقلتين، فارتفع العلم الإسلامي في مملكة وليدة وتحقق أمل بعيد كان يظنه الجميع سراباً يلوح في الصحراء.
لقد كان محمد علي جنه زعيما من طراز فريد، لأن جميع الزعماء ينشئون في أمم مهيأة معروفة فيوجهونها إلى الطريق السوي، ولكن القائد الأعظم قد أوجد أمة من العدم، وسهر على نموها السريع فترعرعت في حقبة وجيزة، ولا وقت من الأعاصير السياسية ما كاد يزعزعها من مستقرها لولا حكمة القائد ونظره البعيد.
أما أخلاق الزعيم الباكستاني فقد كانت موضع الإجلال من أعدائه ومعارضيه إذ كان يعمل في وضح النهار، ولم تسمح له مروءته ودينه أن يحيك الدسائس في الظلام لمناوئيه، وقد رزق من المحاماة مالا طائلا، فلم يضن به في سبيل غايته السياسية، كما كان يعتني اعتناء تاماً بمظهره، فصارت أناقته مضرب المثل، واقتدى به المترفون في إنجلترا والهند، ثقة بذوقه الأنيق. ولقد كان شديد الثقة بنفسه فذهب إلى إنجلترا واحترف المحاماة فيها أربع سنوات كاملة بين أساطين القانون وأعلام التشريع، فكانت قضاياه العديدة تكلل بالنجاح.
أي زعيم الباكستان!! لقد أديت رسالتك في الحياة خير أداء، وقطفت بيدك الثمرة المشتهاة، فنم قرير العين بما قدمت لنفسك من أجر عند الله، وخلود في صحائف التاريخ.
سلام وريحان وروح ورحمة ... عليك وممدود من الظل سجسج
(الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي