انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 794/من ذكريات الطفولة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 794/من ذكريات الطفولة:

ملاحظات: بتاريخ: 20 - 09 - 1948



ظننته يوم القيامة ولكن الله سلم

للأستاذ كاملكيلاني

لعل هذه أول صورة انطبعت في ذاكرتي منذكريات الحياة كلها. أذكر أنني وجدتني جالساً في مكتب (كتاب) قريب جداً من داري إلى جانب ابن أختي، ولست أدري لماذا أستصحبني إلى مكتب الفقيه وأنا في مستهل نشأتي وفجر طفولتي؟ وكان الأطفال في هرج ومرج لا أعرف لهما سبباً، بل لعلي عرفت السبب فيما بعد، فقد كان غياب الفقيه فيما أظن سبب ذلك الاضطراب، ولم يكن عريف المكتب على ضخامته وطول قامته بقادر على السيطرة على أولئك الأشقياء الخبثاء، ولعل الأطفال كانوا يسخرون به لأنه أشل (أعني أن إحدى يديه ولعلها اليسرى شلاه)، ولا أدري كيف حاول أن يثبت مسماراً في الحائط فلم يجد شيئاً يدقه به، فلما ضاقت به الحيل عمد إلى محبرة سميكة، وكأنما خيل إليه أن ضخامتها ستحميها من الكسر، ولعله نسي أنها من الزجاج المفرغ، وأنها لن تقوى على دق المسمار، على أنه لم يكد يبدأ الدقة الأولى حتى خرق المسمار المبحرة وسال مدادها الأسود على وجه العريف ويديه وثوبه!.

فهلل الأطفال وصيحوا وصفقوا من فرط سرورهم بما رأوا، ولا زالت صورة العريف ماثلة أمامي، منطبعة في ذاكرتي، وأنا أملى هذه السطور، كأنما رأيت منذ لحظاتيسيرة وهو يحاول جهده أن يهدئ من ثائرة الأولاد، فلا يزيدهم ذلك إلا تمرداً وصخباً، وقد زادتهم حيرته وارتباكه نشاطاً ومرحاً. وهنا يدخل الفقيه، وهو شيخ رائع السمت، فارع الطول، متجهم الوجه، قوى الشخصية، فيسود الصمت والفزع، ويستولي علينا الخوف والهلع، ويتبدل كل شئ في لحظة واحدة من الضد إلى الضد، فلا يكاد يجرؤ أحد على التنفس خشية أن تسمع نأمئه فتجلب عليه شراً مستطيراً، ويأمر الفقيه بإحضار (الفلقة)، ولا يكاد ينتهي من خامس الأولاد في الصف الأول، حتى تعتريني القشعريرة، فقد جاء الدور على، وإني لأترقب إشارة الفقيه بوضع رجلي في حبل الفلقة، وقد استولى الذعر على نفسي، إذا بجلجلة أشبه بقصف الرعود، وصيحات عالية مدوية تأخذنا من كل مكان وإذ بسقف المكتب يطير كل مطار، وقد تناثرت ألواحه وتطايرت أركان الجدران وقواعده، واختفى الشيخ والعريف وصبية المكتب في لحظة واحدة عن عيني فلم أدر أين فروا!

وما أذكر بعد ذلك إلا أنني كنت أمشى مع ابن أختي في طريقنا إلى البيت والأحجار تتناثر من حولنا في كل مكان، فتقتل من تقتل ونحن لاهيان لا ندرى من أمرنا شيئاً. فلما بلغنا الدار - وهى قريبة من جبل المقطم - إذ بالهلع يستولي على كل من فيها، وإذ بزجاج النوافذ محطم. وأذكر أنني سألت ابن أختي عما حدث فقال لي: إن القيامة قد قامت! ولم أفهم حينئذ معنى هذه الحملة، ولا عرفت ما هي القيامة، ولا كيف تقوم، ولعلى لم أفهم معناها الغامض أكثر مما يفهم السامع الخالي الذهن حين يقال إن نائماً صحا، أو صاحياً نام، أو زائراً قدم، أو قاعداً قام. ولم أفهم حقيقة ما حدث إلا بعد سنوات عدة، فقد عرفت والعهدة على من حدثني، فلم أستق الخبر حينئذ إلا من حوذي كان عندنا، وقد كان رحمة الله عليه نصف أمي إذا وزنته بميزان الثقافة والإطلاع، ونصف فيلسوف إذا وزنته بميزان الفهم والإدراك. حدثني ذلك الفيلسوف الأمي قال: (كان يشتغل في مخزن الذخائر الحربية الملاصق لجبل المقطم أحد العمال، فألقى على غير انتباه بما تبقى من لفافة التبغ، فلم تلبث أن علقت بما حولها من البارود، فوقعت الكارثة وأطارت من حجارة المقطم ما أطارت، وقتلت من الأناس والحيوان من قتلت، ودمرت من الآثار ما دمرت. وكان الحوذي يشير بإصبعه إلى رؤوس المآذن التي طاحت بها وهى قريبة من دارنا. لقد كان هول القيامة يتمثل لي حينئذ في عصا الفقيه وقد فرحت بنجاتي منها، فلما كبرت تبين لي أنني فرحت بالنجاة من خطر موهوم، لأنني كنت أصغر من أن يعاقبني الفقيه أو يهم بضربي، فلم أتجاوز الثالثة من عمري حينئذ، ونسيت أنني نجوت من هلاك محقق بأعجوبة من الأعاجيب. وعلى ضوء هذا الحادث الهائل فهمت في قابل أيامي دقائق الصورة البيانية الرائعة التي أبدعها خيال المتنبي شاعرنا الأكبر حين قال لسيف الدولة:

وقفت وما في الموت شك لواقف ... كأنك في جفن الردى وهو نائم

كامل كيلانى