مجلة الرسالة/العدد 790/توبة المحروم!. . .
مجلة الرسالة/العدد 790/توبة المحروم!. . .
للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح
بقى في (نيويورك) يكدح وراء الرزق الشرود عشر سنين دأباً، ثم أصاب حظاً سعيداً بعد نحس، وارتجع مالاً كثيراً بعد بؤس، فعاد - وهو على عتبة الأربعين - إلى مسقط رأسه (الميناء) بلدتنا الهادئة المنعزلة التي توشك ألا تسمع فيها الأجمال الطبيعية، وألا تحفظ لها ألا الاستعصام بالتقاليد.
وما جداك أن أصف لك (ميناءنا) الجميلة، فما أراك راغباً في الوقوف على ما صنع الغنى بصاحبنا الذي أوى إلى بلدته بعد غيبة طويلة؛ فهل غردت له بلابل السعادة أغاريدها الحلوة، وهل هتفت له هتافاتها الناعمة، أم نعبت له غربان الحوادث بشقاء جديد، ولاعت قلبه بهوان شديد؟
علمت أنه كان في (مينائنا) قبل أن يتسع رزقة ويرفه عيشه مضرب المثل في قناعة العفيف، وعزة الشريف، سليم الفطرة معتدل المزاج حنيف الدين؛ فرجوت ألا ينقلب سهوان عن ماضية، ووددت لو أبقت يد غناه على ذكرى فقره فلم تمح صورتها من مخيلته، ولم تبدد آثارها في فؤاده، ولم تمر شجرتها أمام عينيه، وتمنيت أن يكون له من صدق الأريحية وكرم المهزة ما يذكره بالفقراء والمعوزين الذين لا عمل لهم في بلدتنا إلا في البحر، فلا يحرمهم من صدقات يوزعها، أو زكوات يؤديها، أو ثمرات يجبيها، أو مشروعات يحييها، أو مصانع يؤسسها، أو مدارس يفتتحها، أو ملاجئ ينشئها، وألا يكون المال قد أطغاه، وختم على قلبه فأعماه!.
ولم يكن رجائي إلا كرجاء الذي أراد أن يشم الريحانة فألفاها ذابلة، فما رضخت يده خيراً، ولا اصطنعت معروفاً، ولا كسبت معدوماً، ولا أعانت في نائبة، ولا ساعدت في خطب، وإنما نثرت المال على الهوى يمنة ويسرة، وفي الشهوة عيشاً وبكرة، حتى عادت صفراء خالية، وباتت على إسرافها باكية. . .
أبطره الغنى فعلمه العجب، وأفسده الفراغ فحجب إليه الطيش فأصبح سكران لا يصحون هيمان لا يعي، (غفلان لا يفيق)، وأضحى لا يحفل في الناس أحداً، ولا يقيم لكبير وزناً، ولا يرعى لصغير حرمة، ولا يرقب في ضعيف إلا ولا ذمة، وإنما كان ينظر إلى الجميع نظرة الفيل إلى البعوض أو الجمل إلى النمل، (لا يحس منهم من أحد ولا يسمع لهم ركزاً).
ومنذ ذلك الحين أمسى أهل بلدنا إذا أرادوا أن يصفوا الرجل الشهوان الذي ما ينفك يوبق جسده برغائبه، ويدسي نفسه بمعايبه، قالوا وهم يتخافتون: أهو أشد من فلان شهوة، وأكثر منه جهالة وصبوة؟!.
وأنى لهم السكوت على مآثمه التي جرها عليه بذخه وسرفه، ولهوه وعبثه، وإنه لم يكتف ببنان الهوى يركبهن سيارته الفخمة، وينتقل بهن في شوارع البلدة المحافظة تحت الأسماع والأبصار، ولم يقنع بالخمرة يتهالك على شربها أناء الليل وأطراف النهار، ولا بالموائد الخضر يرودها غير ملول، ولا بالليالي الحمر يواصلها غير خجول، ولا بداره التي استحالت ندياً للأشرار، ولا بشقاقه مع الأبرار والفجار، وإنما راح يكلل جميع ذلك بشرفه يدوس عليه، وبعرضه يفرط به، وبدينه يقصر فيه، وبوطنه يحقره، حتى أضحى شعور الناس لا يأتلف إلا مقته، وباتوا من كرههم له يديرون في أفواههم ألسنة حداداً تلعنه، وينظرون صيحة القدر الراصد تأخذه وهو يعمه في طغيانه، ويتباهى بعدوانه. . .
ولم يطل إملاء الله له واستدارجه، فما مضى عام واحد على طيشهُ ولهوه حتى خر من قفه المرفوع، وتهاوت من شجرته الجذوع والفروع، وغدت جنته الفتانة ذابلة الورود، ميتة الأعشاب، ساكتة البلابل (فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها ويقول: يا ليتني لم أشرك بربي أحداً).
وصار الناس منه على شماتة الحاقدين، فما أدركت الشفقة عليه أحداً سواي - لا لأني أقرب رحماً، ولا لأني ألين قلباً - وإنما لشعور عنيف تملكني يؤمئذ وأخذ يهتف بي بلا انقطاع:
إن هذا لضحية! ولكن ويح نفسي إن بك مثل هذا الشهوان ضحية، فمن الجزار الذي ضحاه، وأين الساطور الذي ذبحه؟
وما عرفت الجواب إلا حين جمعتني بهذا المخلوق صلاة الجماعة فرأيته يدخل أول الناس ويبقى في تضرع واستغفار آخر الناس، فراعني مظهره وعجبت له فدنوت منه وقد استبد بي الفضول، ولم يحوجني هو إلى مقدمة لا تجدي فقد فهم غرضي فالتفت إلى وكأنما شعر نحوي بالاطمئنان وحدثني وهو يشرق بالدمع حديثاً كشف غنى الغطاء، فصار بصري فيه حديداً، وحكمي عليه سديداً.
وقلت لصاحبي وأنا أصف له الرجل:
- (أنه لضحية يا صاح، بيد أنه ضحية نفسه وهواه، فنفسه كانت جزاره الذي ضحاه، وهواه كان ساطوره الذي ذبحه، فهو في أيام فقره وبؤسه كان قانعاً قناعة المحروم، وفي أيام غناه وسعده كان بطراً بطر المنهوم، وهو لولا استفناؤه لما طفى، ولولا تخمته لما ثارت شهواته فبغى!.
وهكذا الإنسان يا صاحبي يقوده الطمع فيردى، وتعميه الشهوة فيخزى، ويسمع بالعبرة فلا يخشى)!.
ولكن هذا الرجل وعدني في بيت الله وهو ما زال عبران أن يتوب، ولست ارتاب لحظة في أنه قد أناب ولكني أتساءل ما تنفع التوبة إذا لم تكن إلا في ساعات الحاجة والحرمان؟.
(طرابلس الشام)
صبحي إبراهيم الصالح