مجلة الرسالة/العدد 790/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 790/القصص

ملاحظات: شجرة عيد الميلاد Мальчик у Христа на ёлке هي قصة قصيرة بقلم فيودور دوستويفسكي نشرت عام 1876. نشرت هذه الترجمة في العدد 790 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 23 أغسطس 1948



من الأدب الروسي:

شجرة عيد الميلاد

للكاتب القصصي تيودورد وستويفسكي

بقلم الأديب محمد فتحي عبد الوهاب

أنا كاتب قصصي، وأعتقد أنني كتبت هذه القصة. أقول (أعتقد) مع علمي التام بأنها من إبداع قلمي. ولكني مع ذلك على يقين بأنها قد حدثت فعلا في مكان ما في زمن ما، وقعت في بلدة كبيرة ذات ليلة من ليالي عيد الميلاد الشديدة القر.

إني أتخيل غلاماً، صبياً صغيراً، له من العمر ست سنوات أو أقل. استيقظ من مرقده في قبو رطب بارد، وكان يرتدي جلباباً قصيراً ويرتجف من لفحات القر، وتخرج من فمه مع زفيره سحابة بيضاء من البخار وهو قابع على صندوق في ركن من أركان القبو، يراقبها تتصاعد في الجو مبتعدة عنه.

كان يشعر بالجوع يلوي أحشاءه. وكم ذهب العديد من المرات في صباح ذلك اليوم إلى الفراش العاري الذي ترقد عليه والدته العليلة، ذلك الفراش ذو الحشية الرقيقة المهلهلة والوسادة أشبه ما تكون بالأسمال.

ما الذي أوجدها هنا؟ لعلها قدمت مع ولدها من بلدة أخرى ثم دهمها المرض فجأة. كانت صاحبة الدار قد قبض عليها منذ يومين وأودعت السجن. ورحل معظم السكان لاقتراب العيد ولم يبق في الدار إلا من ثمل دون أن ينتظر عيد الميلاد، وعجوز في سن الثمانين رقدت في أحد الأركان تتأوه وتتوجع من آلام (الروماتزم) وتعنف الصبي وتبدي تذمرها منه فيخشى الاقتراب منها.

كان في وسعه أن يحصل على ما يروي ظمأه من الغرفة المجاورة، ولكنه لا يجد كسرة من الخبز يسد بها رمقه وكم قاسى من ذلك الجوع الذي كان يدفعه إلى محاولة إيقاظ والدته عشرات المرات. وشعر أخير بالخوف ينتابه الخوف من الظلام. كان الليل قد أرخى سدوله، ولم يكن عنده ما يستضئ به، ولمس وجه والدته فلم تبد أي حراك. كانت باردة برودة الحائط. فجعل يخاطب نفسه قائلا (إن الجو بلا شك بارد جداً) ووقف لحظة، وبدون أن يشعر، وضع يده على كتفي والدته، ثم نفخ في أصابعه يدفئها، ثم جعل يبحث على قلنسوته فوق الفراش، وأخيراً خرج من القبو.

لقد كان يود أن يخرج مبكراً، لولا فزعه من الكلب الكبير الرابض عند باب الجيران. ونظر، فلم ير للكلب أثراً، فتابع سيره لا يلوي على شيء.

فليرحمنا الله. يا لها من بلدة! إنه لم ير مثلها من قبل. حقاً إنها لم تكن كبلدته. كان الليل حالك الظلام، ولم يكن في الطريق سوى مصباح واحد. وتوارى الناس في ديارهم، فلم يسمع إلا نباح الكلاب، مئات بل آلاف منها تنبح وتعوي طوال الليل. ولكنه كان في بلدته يستشعر الدفء ويجد ما يقتاب به. أما هنا. . . آه لو استطاع أن يجد ما يأكله. يا لها من جلبة وضوضاء! ويا لها من إضاءة! ويا لهؤلاء القوم وتلك المركبات، وهذا الصقيع! كان البخار يتصاعد في سعب من أفواه الجياد، وكانت حوافرها تصطدم في سيرها بالأحجار المغطاة بالثلوج المتراكمة. كم هو في حاجة إلى ما يسد غائلة جوعه. . . ولم يشعر الآن بالتعاسة. واقترب منه شرطي فتنكب طريقه وابتعد عنه.

ها هو ذا طريق آخر، وما أوسعه من طريق. كان الناس غادين رائحين، يصيحون ويهرولون ويندفعون والضوء! ذلك الضوء! ولكن. . ما هذا؟ إنها نافذة زجاجية كبيرة. ونظر خلالها فرأى شجرة طويلة من أشجار عيد الميلاد ممتدة حتى السقف، وقد تدلت منها مصابيح وأوراق مذهبة وتفاح ودمى صغيرة وجياد. وكان الأطفال في ملابسهم القشيبة يلهون ويمرحون، ويأكلون ويشربون. ثم ابتدأت فتاة ترقص مع أحد الصبية. وانسابت إلى أذنيه نغمات الموسيقى. ونظر وتعجب ثم ضحك. كانت أطرافه تؤلمه من البرد وأصابعه حمراء متصلبة، توجعه إذا ما حركها. وعندما تذكر ذلك، طفق يبكي، ثم عدا حتى انتهى به المطاف إلى نافذة أخرى شاهد من ورائها شجرة ثانية، ومنضدة حافلة بمختلف الحلوى وقد جلس حولها ثلاث سيدات يوزعن الحلوى على كل من يقصدنهن. وظل باب الدار مفتوحاً يدخله الكثيرون من الرجال والسيدات وزحف الصبي، ودفع الباب، ثم دلف إلى الغرفة. لقد صاحوا فيه ودفعوا به إلى الخارج. وأقبلت عليه سيدة تهرول ودستْ في يده قطعة من النقود، ثم فتحت له الباب ودفعته دفعاً إلى الطريق.

وسقطت قطعة النقود منه، ورن رنينها على الأرض. ولكنه لم يستطع قبض أصابعه الحمراء لالتقاطها. وجرى مبتعداً، وطفق يعدو إلى حيث لا يعلم. وكاد يبكي مرة أخرى. كان خائفاً مرتعباً، واستمر يعدو وينفخ في أصابعه، يائساً، وحيداً جزعاً. ولكن. . . ما الخبر؟ كان الناس محتشدين أمام زجاج نافذة وقد ظهرت على محياهم علامات الإعجاب لرؤيتهم ثلاث دمى صغيرة تتحرك وكأنما قد دبت فيها الحياة. كانت الأولى تمثل رجلا عجوزاً جالساً يعزف على كمان كبير، والدميتان الأخرتان واقفتان تعزفان على كمانين صغيرين وتحنيان رأسيهما ثم تحيي كل منهما الأخرى. وكانت شفتاهما تتحركان كما لو كانتا تتحدثان.

ظن الصبي بادئ الأمر أنها حية. ولكنه عندما استبان له أنها ليست إلا دمى، ضحك وتهلل. أنه لم يشاهد مثلها من قبل، ولم تكن تخطر له ببال. وألهاه ذلك المنظر عن شعور البكاء الذي انتابه. ثم شعر بمن يجذبه من ردائه، فالتفت خلفه فرأى غلاماً يلطمه على أم رأسه، ثم اختطف منه قلنسوته، ثم ألقاه على الأرض، فسقط الصبي مرتعباً، ولكنه سرعان ما هب واقفا وعدا مبتعداً عن النافذة وقد وجف قلبه فزعا، وطفق يعدو دون أن يدري إلى أين يذهب، حتى وصل إلى باب ساحة، فدلف إليها وتهالك على كومة من الأخشاب وهو يخاطب نفسه (إنهم لن يبحثوا عني هنا، في ذلك الظلام المدلهم).

وجلس منطوياً على نفسه، مبهور الأنفاس. ثم شعر فجأة بالسعادة تغمره، وزال الألم من أصابعه واستشعر الدفء وكأنه قرب موقد. فارتجف وصاح (عجباً! لا بد أني أحلم! كم هو لذيذ أن ينام المرء هنا. سأرقد قليلا ثم أعود بعد ذلك لمشاهدة الدمى (وابتسم وهو يفكر فيها، وقد تمثلت في خاطره كأنها مخلوقات حية. وسمع صوتاً حنوناً يهتف في أذنه قائلا (تعال إلى شجرتي. شجرة عيد الميلاد أيها الطفل).

وظن الصبي أنها والدته هي التي تهمس في أذنه. ولكن. لا. إنها لم تكن والدته. من الذي يناديه؟ ولم يجرؤ على النظر إليها عندما انحنت فوقه تحتضنه في الظلام. ومد يده إليها. وفجأة. . . يا إلهي. ما هذا الضوء الباهر؟ وما أجمل هذه الشجرة! أين هو الآن؟ كان في مكان جميل كثير الدمى. ولكن. . . كلا إنها لم تكن دمى، بل كانوا أولاداً نضرين في حلل قشيبة وقد تهللت وجوههم بشراً. وأقبلوا عليه من كل صوب يحيطون به ويقبلونه. وشاهد والدته تنظر إليه وقد أشرقت على شفتيها ابتسامة فياضة، فصاح قائلا (أماه، أماه، ما أجمل أن يعيش المرء هنا!) وجعل يقبل الأولاد، وود أن يخبرهم عن الدمى التي شاهدها. وجعل يسألهم (من أنتم؟ من أنتم؟) وهو يشاركهم الضحك معجباً بهم. فأجابوه (هذه شجرة عيد ميلاد المسيح، شجرته الخاصة، وهبها للأطفال الذين لا يملكون مثلها).

كانوا أطفالا حالهم مثل حاله. فمنهم من تجمد برداً في السلال التي تركهم ذووهم فيها على عتبات الديار. ومنهم من لقي حتفه خنقاً خشية العار. ومنهم من مات على ثدي والدته الجائعة والآخرون دهمهم الموت من فساد هواء المكان الذي كانوا يعيشون فيه. ومع ذلك. . كانوا كلهم مجتمعين هنا كالملائكة حول المسيح. وكان المسيح يتوسطهم ويمد يده إليهم يباركهم وأمهاتهم قد فاضت دموعهن. وكانت كل من تعرفت بولدها تندفع إليه في شوق تقبله فيمسح عبراتها بيديه الصغيرتين، متوسلا إليها ألا تبكي. كانت تغمرهم السعادة. . السعادة الحقة.

وانبثق نور الفجر، عندما وجد حمال جثة الصبي متجمدة الأطراف من شدة القر، راقدة على كومة الأخشاب.

وبحثو عن والدته. كانت قد سبقته إلى العالم الآخر. لقد تقابلا أمام الله في السماء.

لست أدري لماذا كتبت هذه القصة التي لا تجري في أسلوبها مع مذكرات عادية أو مؤلفات كاتب. ولكن كل ما أدريه أني ما زلت على يقين بأنها ليست وليدة الخيال، وإنما وقعت فعلا، وإنه قد حدث ما حدث في ذلك القبر وكومة الأخشاب هناك.

أما عن شجرة المسيح، فلا أستطيع أن أجزم هل هي حقاً في علم الوجود أم أنها من نسيج خيالي.

(الإسكندرية)

محمد فتحي عبد الوهاب