انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 79/القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 79/القصص



من الادب الألماني

التأمين (ضد) امرأة جميلة

للقصصي الالماني

قبيل الساعة السادسة جلس في الغرفة الخلفية لحانة (الطاحونة الملكية) ستة رجال على مائدة مستطيلة. وكا منهم يخشى البدء بالكلام برغم تعارفهم - ذلك التعارف الذي لامفر نه لسكان بلدة صغيرة. وكانوا في حياتهم ومعاشهم متشابهين، فكلهم موظفون، لهم مكاتبهم التي يجلسون إليها في مصارف أو مصانع أو محال تجارية. جاءوا جميعاً لأن كلا منهم قد بلغته دعوة للحضور إلى (الطاحونة الملكية) في نفس اليوم من الساعة السادسة لكي يتم تأسيس جميعة عظيمة الخطر والنفع له. وقد طلب إليهم صاحب الدعوة أن يسروا الخيبر، فأخفوه حتى عن نسائهم، إذ ظنوا أنها مسألة قد تكون خاصة بالرجال. . . ون يدري؟ وكان الداعي فطناُ إذ خلق لكل منهم آملاً معسولة. غير أن واحداً منهم لم يعرف شيئاً على وجه التحديد. فانتظروا (الهر فِريِد) صاحب الدعوة. وكان هذا شاباً رشيقاً، جواباً للبلاد يطويها من المشرق إلى المغرب، وله مهم غير معروفة بالذات. وكثيراً ما كان شخصه موضع حديث الناس لغريب شأنه

وما ان دقت الساعة حتى دخل الهر فريد إلى الغرفة، وقال كمن يرأس جماعة:

(سادتي! إنه ليسرني أن أراكم مجتمعين كاملي العدد. . .) فابتسموا جميعاً، ولكنهم أزداودا اليه تطلعاً. وابتسم الهر فريد وتابع قوله:

(كاملي العدد - يا حضرات المختلسين. . .!)

فذعُر الرجال الستة وهرب الدم ن وجه ثلاثة منهم، وصعد الدم إلى رؤوس الثلاثة الآخرين. وحاول كل منهم أن يكظم غيظه، أو يرسله كلمة صاخبة يحملها إلى الهر فريد في شيء من الرفق والتودد. أما هو فأخرج من جيبه ورقة قرأ فيها أسماء الحاضرين، وكان يردف كل اسم بأرقام تتراوح بين الألف والعشرة آلاف.

وما كاد ينتهي من ذلك حتى شملهم سكون أشبه بسكون الموت. وبعد هنيهة تشجع من اقترت اسمه بأكبر رقم - وكان صيرفياً في (بنك التجارة) وأراد محاسبة الهر فريد على كلامه فقال له:

(من أين عرفت ذلك؟)

فقال: (هذا ما لا أريد ذكره الآن.)

فسأله: (أمن رجال الأمن أنت؟)

فأجاب: (لا.)

فتنفس الرجال الستة الصعداء. ولما سئل ثانية:

(ألاستغلال الموقف؟)

قال (كلا!) قالها فرحاً وزاد عليها: (وهل لديكم أشياء يستغلها الغير؟ لقد اختلستم أكثر من نصف ما في خزائنم، وأريد الآن أم اوجه إليكم سؤالاً بسيطاً: ماذا تفعلون لو جاء مفتش؟)

وانقلب الرجال الستة مرة أخرى الى كتلة من الذعر والمرج، وتعالت الصيحات وكثرت الأسئلة، ومضت دقائق يغمغمون دون أن تتميز كلماتهم

وقال الهر فريد: (إني أعرف جيداً أن ساعتين كفيلتان بدرء الخطر، إذ النجدات تطلب، والتلغرافات إلى الأقارب ترسل، والمحادثات التليفونية مع الأصدقاء تقعز فيتم جمع المبلغ المطلوب، ويوضع في الخزينة لكي يرد الى أصحابه بعد عملية المراجعة والتفتيش التي قد تستغرق بضع ساعات. ولكن ماذا أنتم فاعلون أذا فسل المسعى رة؟

وبدت على الجميع الحيرة. غير أن الهر فريد بسط ذراعيه وقال (إني لا أريد بكم سوءاً، بل لقد جئت لرشادكم. إني أعرض عليكم خطة للنجاة. . . ماذ ترون في تنظيم مساعدة سريعة حينما يداهمكم تفتيش على غير انتظار؟)

(انها أسئلة مفجعة. ولكن ما هي الخطة: يا سادتي! يجلس هنا صيافة ستة لمحال مختلفة. وإذا لم أخطيء التقدير فاثنان منكم في مصرفين، وأربعة لأاربعة مصانع. فهل يمكن أن يجري التفتيش عند الجميع في وقت واحد؟ كلا يا ساتدي، فهذا من الوجهة العملية لايمكن، ولن يمكن وقوعه في الحياة. وإذاً فهذه المفاجأة غير المرغوب فيها لا تهدد إلا خزينة واحدة. ولا يجيء الدور على الخزينة الثانية حتى ينتهي التفتيش من الخزينة الاولى. ويصح أن أكرر القول بأنه حينما تكون إحدى الخزائن واقعة تحت خطر داهم، فلن يصيب الخزائن الخمس الاخر شيء قط مهام كان العجز الذي فيها. ولهذا يمكن أخذ الأموال من تلك الخزائن لأنقاذ الخزينة المهددة. ثم بعد مرور الخطر، أي بعد بضع ساعات ترد الأموال ثانية. هذا كل شيء. وهو بالنسبة اليكم ولموقفكم كبيضة كولومبوس) من أجل هذا وجب عليكم يا سادتي أن تتعاونوا للتأمين ضد الحالات السيئة الطارئة وتجعلوني رئيساً عليكم، ولابد أن تجعلوا لي على ذلك أجراً شهرياًز ولس هذا بالأمر العسير، إذ أن الخزائن التي أنقذتكم في ميسورها أن تتحمل ذلك دون أي مشقة)

وفي الليلة نفسها تألفت في حانة الطاحونة الملكية شركة للتأمين من نوع جديد، ثم أملي الرئيس، الهر فريد، مواد قانون الشركة ومنها: الدفع في الللحظة المطلوبة، رد المبلغ في طرف أربع وعشرين ساعة، عدم تغطية الخسائر السابقة، يتقي خطر كل اختلاس جديد. ومن ثم تلاشى الرعب وسرى في النفوس البشر. وكانت أقداح البيرة تملأ باستمرار من جديد. وان الهر فريد، المقذ، موضع التكريم من الجميع

وتناسوا جميعاً الورقة التي بها الاعداد الصحيحة من النقص في كل خزانة، وكانت على المائدة. فلما أبصرها أحدهم على حين غرة وجه السؤال مرة أخرى الى الهر فريد الذي تصادق مع الجميع فقال: (من أين عرفت ذلك؟)

فأجابك (الآن سأقص عليكم المسألة: طبعاً تعرفون السيدة ماري لو؟)

فاندفعوا جميع في صوت واحد ليقولوا كلمة (لا!)

فاستأنف قوله: إذاً سأذكر لكم شيئاً عنها. ان السيدة (ماري لو) جذابة، قصيرة القامة، شقراء اللون، تسكن وحدها منزلاً خلوياً في ظاهر بلدتنا. أما كيف صار لها هذا المنزل، وكيف حصلت عليه، ولا زالت تحصل على مطالبها - وحياتها هي الترف بمعناه الكامل - فهذا ما لا يعرفه أحد في بلدتنا، أليس كذلك؟ غير أني أعرف السر، إذ هو متعلق بعمل أمارسه في بعض الأحليين. إن للسيدة (ماري لو) دفتر حساب يحصر فيه جميع داخلها ومصروفها، وكانت قد دعتني مرة لتنظيم هذه الدفاتر. ومن ذلك اليوم وأنا أعالج تنظيمها بطريقتي الخاصة. وإذاً فأنا لست رئيس هيئتكم فقط، ولكني أيضاً مراجع حسابات السيدة (ماري لو) وها أتنم اولاً ترون إنني أمارس مهناً غريبة، ولكنها في الواقع متصل بعضها ببعض، ففي أحد دفاتر الدخل وجدت أسماءكم جميعاً يا سادتي، ووجدت بجانب كل أسم رقماً من الارقام. . إنني أعرف انكم متزوجون. ومعنى ذلك أن مرتباتكم الكاملة تقدم اولاً بأول إلى زوجاتكم. . . والأرقام التي وجدتها في دفتر دخل السيدة (ماري لو) نقلتها هنا بكل أمانة. . . ولابد أن تكون هذه الارقام هي اختلاساتكم الجليلة اشأن، المحسوبة حتى أخر فلس

ولم يغضب هؤلاء السادة لسماع ذلك، إذ أن هذا الشاب الظريف كان قد دفعهم الى التمتع برؤية مستقبل باهر. ثم لم يغب عنه أنه يختم الليلة بالتحدث عن مكارم الأخلاق إذ قال:

(إنه لا يليق بمقامكم أيها السادة أن تجر عليكم الخسارة امرأة مثل السيدة ماري لو. . إنني أكتفي بهز رأسي. انظروا الي، إنني لم أجد اسمي في دفتر دخل السيدة ماري لو، برغم أني أعمل معها ليل نهار في مراجعة حساباتها وشؤن أخرى)

وراج التأمين ضد الحالات غير المرغوب فيها بسرعة فائقة، وأصبح عدد الاعضاء ثلاثين عضواً، إذ وجد الهر فريد أسماء الاربعة والعشرين الجدد مدرجة واحداً بعد واحد في دفتر ماري لو. . . وسرعان ما كانت له سيارة جديدة يجوب بها البلاد والمدن المجاورة، لينشئ فيها فرعاُ لشركته التعاونية هذه، أو ليقوم بما يشبه ذلك من الأعمال. وكان كل مطمعه الا يظهر أي اختلاس في الوطن الذي يحميه

ومن الأموال المقيدة بارقام ميتة في دفتر لخزينة ان الصيارفة يرتعون في بحبوحة من العيش. وكان المفتشون والمراقبون يجدون كل شيء على أمله. وكانت الاحصاءات تدل على ان درجات الشرف ترتفع باستمرار في البلاد

ولا أن اجتمعت الجمعية العمومية في (حانة الطاحونة الملكية)، وفقاً لتقاليدها القديمة، كان التقرير السنوي حسناً، فوافق عليه الثمانمائة عضو بالاجماع. وأذاغ الهر فريد في خطابه السنوي قرب تحيقي ما يأمله من تبليغ أعمال الشركة الى عاصمة الدولة حتى يقضي على الاضطرابات المالية وفق طريقته المبتكرة، ثم جلس بين عاصفة من التصفيق والابتسام، وفي هذه اللحظة اندفع باب غرفة الاجتماع، وتقدم اثنان من مديري البنوك، وثلاثة من مديري المصانع، يعلو وجوههم الحزن. وكان يحمل كل منهم خطابات ورسائل مطبوعة تشيد بمكانة شركة التأمين وقدرتها. وظن المجتمعون أن عهد الاختلاسات قد مضى فاختل التوازن بينهم. ولكن الهر فريد بقي جالساً لاتفارقه ابتسامته وسأله المتكلم من بين المديرين الخمسة:

(هل هذه المطبوعات خاصة بكم؟)

فرد عليه الهر فريد بالايجاب

ثم استمر في السؤال: (هل كل هذه البيانات المذكورة صحيحة؟)

فرد عليهم الهر فريد بالايجاب مرة ثانية

وأخيراً لب خمستهم قبولهم أعضاء في هذه الشركة العملية، ولما انتهى الاجتماع السنوي سأل احدهم الهر فريد:

(لماذا ل م تحرك ساكناً في أول الأمر، ودق داهمنا هؤلاء المديرون؟)

فأجاب: (رأيت من قبل أسماؤهم الخمسة في دفتر حسابات دخل السيدة ماري لو.) ثم أعقي ذل بقوله (إنني لا أتمالك غير هز الرأس، أي، لقد تدنس عظماء الرجال)

وما لبث أن طلب المديرون الجدد التوسع في أعمال الشركة وإصلاح نظمها. فالتأمين ضن الحالات غير المرغوب فيها - بعد أن اتسعت أعمال الشركة وتشعبت - تطلب تنظيماً جديداً وفرض اشتراك (يرد ثانية إلى الاعضاء) لكيكون بمثابة احتياطي مضمون.

ودفع كل عضو مبلغاً من ماله الخاص. ولما أن تجمعت هذه المبالغ العظيمة اودعت عند الرئيس المبجل الهر فريد، كرصيد سريع لدرء الخطر

  • * *

وفي صباح يوم اتصل الهر فريد تليفونياً بالاعضاء السبعين (وهكذا أمسى عددهم) وكلفهم بسرعة جمع مبلغ جسيم. وبالطبع سأله الجميع عن أسم المختلس الذي وقعت له حالة غير مرغوب فيها

فكان يجيب: (هس شركة التأمين ضد الحلات غير المرغوب فيها.)

وكان كل واحد منهم يعتقد أنه سمع خطأ أو فهم خطأ.

ولكن الرئيس سؤكد له:

(إنك تسمع ما أقول صحيحاً. إن المديرين ضربوا اليوم موعداً للمراجعة والتفتيش، وللأسف اختلست انا الرصيد الذي كان عندي منذ أيام.)

فكان جواب كل منهم: (ماذا تقول؟ إنه يجب عليك أن تتحمل الخسارة وحدك وتسد النقص حالاً)

وكانت إجابة الهر فريد الثابتة: (إنني لا أفكر مطلقاً في ذل. إنني عضو في الشركة سائر السادة المختلسين)

ثم يسأل كل منهم: (وكم يكون العجز؟)

فيجيب: (هو الاحتياطي بأجمعه وإني آسف إذ ليس في وسعي

إعطاء الارقام الصحيحة.)

وكانت صرخة الغضب تدوي من كل منهم حين يقول:

(لماذا؟ أليس امبلغ مقيداً في دفتر حسابات دخل السيدة لو؟)

فيقول الهر فريد متحسراً: (لا. إن صديقتي الجديدة ترهب مسك الدفاتر وتمقته. نعم إن السُّمْر من النساء لا يرين للمال حرمة.)

عربها عن الألمانية ا. ا. ي.