مجلة الرسالة/العدد 787/خليل مطران
مجلة الرسالة/العدد 787/خليل مطران
بمناسبة صدور الكتاب الذهبي لمهرجان تكريم
للأستاذ وديع فلسطين
قليل تالله كل ما قيل في الخليل!
وضئيل وأيم الحق ما بذل في تكريمه.
خليل مطران من الماهدين في الشعر الحديث، ومن معبدي الطريق أمام النهضة الثقافية والفكرية في العالم العربي المعاصر، ومن الدعائم الأولى في بناء الأدب المسرحي في لغة الضاد، ومن ذوي الفضل في استحداث تعبيرات عربية لمصطلحات وعبارات أعجمية كانت مجهولة مغفلة حتى وضع مطران يده عليها وأشاعها وأذاعها.
وخليل مطران أديب له تميزه الخاص، تفاعلت فيه ثقافات شتى، وذابت في ذهنه آداب من المشرق ومن المغرب، وتهافتت على عربيته الأصيلة قطوف غربية متباعدة الأطراف ففتقت ذهنه، ونشرت أمام عقله المتفتح مجال المعرفة فسيحاً، وجعلت منه ركنا ركينا في صرح ثقافة الشرق، وقطبا يخطب المستشرقون ود شعره، ويلقى فيه المعنيون بالأدب ذي الطابع الإنساني الخالد معينا لا ينضب، ومنهلا لا تغيض غواربه.
أنشد الشعر من خمسين عاما أو تزيد، فكان أبداً مجلياً مجلو البيان، وكان دأبا في الطليعة يؤاخى لا (شوقي) ويزامل (حافظ) ويأخذ عنه ومنه شعراء نصف قرن، وستهتدي بنظمه ونثره أجيال لما تأت.
أمعن في الكتابة، وأوغل في تدوين (المحبرات الطوال) فما خلف بابا من أبواب الرأي إلا طرقة، وما ترك موضوعا يشغل الذهن إلا جاهر فيه بمستقده، وما هجر منحى التفكير لعله ارتآها أو ذريعة تذرع بها.
الشعر، نظمه.
والمسرحيات، ترجمها وألفها.
والاقتصاديات، تضلع منها وحياها بالكثير من وقته وجهده؛ والصحافة، مارسها واشتغل بها وحمل أعباءها فما ننكر لها وما تنكرت له.
والمنبر، ارتقاه منشدا وخطيبا، فلم تذهب نحولته و (دقة) حجمه بقدرته على امتلاك أفئدة المصيخين له.
فخليل مطران موسوعة حية متنقلة، جالسته كثيراً، فكان دائما صاحب زمام الحديث، يديره بمنة ويسرة، ويعرج به على القديم، ثم يقفز إلى الحديث بل إلى المستقبل البعيد. يعالج فنون الأدب والعلم علاج مقتدرا اصل قواعده، وثبت قدميه. ينظر إلى شؤون الحياة نظرة مشارفة مستلية فلا تبهره المظاهر، ولا يحول البهرج دون أن يبدي في الشأن حكما سديداً. فقد حلب الدهر أشطره، واستوعب غاية ما يستطيعه فرد من قراءة واطلاع وبحت. وخبر الناس طبقات طبقات، وشهد مواكب المدينة تتري أمامه، ورأى أصولا ثابتة تتداعى، وقواعد مؤثلة تهوى ونبلى، وجالس وطوف، وأقام فعرف الباقيات الخالدات من الفانيات الذاهبات. واستجمع هذه الذخيرة كلها في رأسه يرتد إليها في النظم، ويعود إليها في المحادثة، ويغرف منها كلما اشتهى قلمه الكتابة. . . وتلك شهوته المفضلة الأثيرة المقدمة على سواها
خليل مطران، وإن كان قد تسم قنة المجد، وارتقى درجات الرفعة السامقة وشهد ملوكا مضفون عليه من صنوف التقديرألوانا ورؤساء جمهوريات يتسابقون في تكريمه والاحتفاء به، وشعوبا تهتف باسمه وتردد شعره في كل صقع ناطق بالضاد، وأقطابا مرموقين يجتمعون من كل حدب ليسدوا له الثناء موفورا على مسمع من الحشود، وعلى ملأ من المعجبين. . . وإن كان مطران قد قرأ كتباً ألفت في إطرائه وتقريظه، ومقالات دبجت في مديحه والإشادة به، وشعرا أنشد في تمجيده وتخليده، غير أن هذه جميعا لم تفلح في بث روح الكبر في خليل مطران، ولم تجد في حمله على الشموخ والاستعلاء.
فقد ظل الخليل لأصدقائه خليلا، وأبقى على خلة الاتضاع والوداعة، حتى لقد افرط في هذا إفراطا تجاوز المدى. وكثيرا ما حدثني عن (تفاهته) وصغر شأنه وعجبه من أن يكون موضوع ذكر من قومه.
وهذا شعره يردد فيه آيات الدعة فيقول:
أخاف من سوء تأويل لرأبكم ... في الفضل لو قلت إني لست بالقمن
يقول:
سادتي، جاز فضلكم آمالي ... أجدير شأني بأدنى احتفال أي شئ أنا الذي نال هذا ال ... عطف منكم، ما صحتي، ما اعتلالي
ما يرجى من مشهدي أو مغيبي ... ومكاني إلا من الطيف خالي
عندي الحائلان دون رفيع ال ... قدر من قلة ومن إقلال
بل لقد يذهب به تواضعه إلى افتقاد رقيق الحال من الأدباء. وسلوا أحياء القاهرة تجبكم أن خليل مطران أعرف الناس بدخائلها يزور كل أديب، ويبحث عنه أينما كان مأواه، ليعرف أفي مسرة هو أم في معسرة، أبه حاجة إلى عون يسدى إليه أم إلى هم يرفع عنه، أم إلى قلب كبير يواسي قلبه، أم إلى كلمة تشجيع يحفز بها همته، أم إلى رفقة تؤنس وحشته، أم إلى حديث شهي ينسيه علته. وحسبي في هذه السانحة أن أقول أن خليل مطران أن كان القلة القليلة التي أحاطت بالشاعر إبراهيم الدباغ يوم ألمت به أسقام البدن ويوم حرمته الدنيا بهجة الإبصار، فكان يقصد صومعته في زورات متتالية منتظمة غير متحرج ولا متردد وال معاند، وكان يؤثر مجالسة هذا الأديب على مسامرة الكبراء وذوي اللقب والجاه.
وخليل مطران قوة دفعة للأدباء. يرى هذا يوشك على التعثر فيقيمه، وذاك يسرف في انحرافه فيقومه، لا يبخل بالتشجيع ولا يضن بالثناء، ولا يدخر وسعاً في سبيل بعث الهمة التي تبطت، ورد روح النشاط التي خمدت.
أتيته يوما بكتاب ترجمته وقلت له: إني عليم بأمراضك مدرك أنك من طلعة الشمس إلى طلعتها في صبيحة اليوم التالي تبرح بك الآلام وتخضع لنظام دقيق عينه لك الأطباء؛ فهذه إبرة تحقن في جسمك مرات في اليوم، وهذه أنواع شتى من الأدوية تتعاطاها شرباً واحتلاباً وابتلاعا عدا الحمامات الساخنة وأعباء التدليك والتدهين. ورجوته بعد هذا أن لا يكلف نفسه عناد تلاوة هذا الكتاب، وحسبي فخرا أن أراه موضوعا في مكتبته.
فما كان من مطران إلا أن قضى الليلة ساهراً ليتلو الكتاب كلمة كلمة، غير مشفق على بصره ولا على صحته المتهالكة، ولا مترفق بيديه الكليلتين اللتين لا تقويان على حمل شئ، حتى إذا ما أوشك الصبح على البزوغ، كان صاحب القلب الكبير قد أتى على الكتاب جميعه.
أتدرون لم فعل مطران هذا، ولم عرض نفسه لخطر قد يصيب حياته أو يرد حالته الصحية القهقرى؟؟ لقد فعل الخليل ذلك ليستطيع في اليوم التالي أن يفوه لناشئ بكلمة تشجيع وإطراء، فيرضى ضميره ويريح نفسه، وإن كان ذلك يؤدى على حساب الصحة والبصر والإجهاد الذهني.
وللاستدراك أقول إن خليل مطران وصف حالته الصحية يومذاك ببيت من قريض مألوف في قرى لبنان، نصه:
وجسمي صار نص ميت ونص حي
ونص الحي باقي للعذاب.
هذه صفحة عن خليل مطران رأيت أن أنشرها اليوم في مناسبة ظهور الكتاب الذهبي لحفلات تكريمه. وليت المجال يسعف، فأدع القلم يتحدث عن مطران الذي عرفته فعرفت فيه إباء في النفس، وكرما في الخلق، وسعة في الصدر، وسداداً في الرأي، وبصيرة نافذة في الأمور، وعفة في اللسان والقلب، وجرأة في القول والفعل، وسخاء في العطاء والإحسان، ووفاء لا يبرهه، وإخلاصا يستمده من قلبه العامر بالإيمان، ومجالدة تدعوه إلى احتمال كل عناء. بل لقد رتب خليل مطران على نفسه واجبات تعهد بالنهوض بها، فما أخل بوعده، ولا منعته علة عن تأدية هذه الواجبات جميعا عن رضاء وراحة ضمير.
ولئن كانت هذه المحامد بأسرها قد اجتمعت وتبلورت في خليل مطران، وأسبغت عليه الشخصية الفريدة التي يزدان بها هذا الأديب الجليل الكبير، فليس يسع المرء إلا أن يضرع إلى الله أن يلطف به وبصحته، ويبرى بدنه من الأدواء التي تكالبت عليه، ويمنحه من فيض رحمته ما يخفف عنه أوجاع المرض، ويكلأ برعايته في أيام تمر عليه كالسنين والدهور.
فليس عند العروبة سوى (خليل مطران) واحد، ونحن نراه لازمة بل ضرورة لأنه بناء لم يعرف الهدم، ولأنه مجدد مصلح كله وفاء ومكرمات.
وديع فلسطين