مجلة الرسالة/العدد 787/الأرواح والأشباح
مجلة الرسالة/العدد 787/الأرواح والأشباح
للأستاذ حسين مهدي الغنام
عرف البحث في الروح والاتصال بها في العالم الآخر من قديم الأزل، وقد شغل أعرق الشعوب مدينة في كل ما مر من العصور والأجيال، واستوى في ذلك الوثنيون وأصحاب الأديان. فحضارة الوثنين وتراثهم وآثارهم الباقية صرفت أكبر اهتمامها في البحث عن الروح وما بعد الموت.
كما ذكر الأديان جميعا أن وجود الأرواح بعد الموت حقيقة لا مراء فيها.
وقد ذكرت التوراة قصة روح صالح إسرائيلي متجسدة رأتها امرأة تهبط من السماء ثم تصعد إليها.
أما القدامى فقد كانت أساليبهم في التعبير عن وجود الروح أو الاتصال بها، أساليب بدائية ساذجة، مما حدا بكثير من المفكرين أن ينسبوه إلى الشعوذة وينكروه.
ولقد اهتم العلم الحديث بالروح وتحضيره والاتصال به بعد الموت، حتى اتخذ صفة (العلم الحديث)، وأصبح له أنصار من كبار العلماء والمفكرين.
وبديهي أن يكون الشرقيون أكثر الشعوب اهتماما بالروح فالشرق مهد الأديان ومهبط الأنبياء ومسرى الملائكة.
وفي مصر جماعات تهتم الآن بهذا (العلم) الحديث، وفي هذه الجماعات علماء من كبار رجال الدين مثل الفيلسوف الكبير المرحوم الشيخ طنطاوي جوهري.
ومن هؤلاء العلماء رجل متحمس لهذا العلم كل التحمس، مؤمن به إيمانا عظيما، هو الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير.
وقد كذبه كثيرون من المتشككين، وانبروا يتحدونه، وهو يصمد لهم ويقبل تحديهم.
وفي الواقع أن هذا العلم يثير الحيرة.
ولو كان الأمر يقتصر على الشرقيين لقلنا إنها شعوب روحية خيالية يجد هذا العلم بينهما مجالا طبيعيا، ولكن العجب والحيرة يأتيان من ناحية الغربيين، وهم قوم ماديون يتشككون في كل شئ، ولا يؤمنون إلا بالمادة وحدها. .
كان اهتمام الغربيين في الماضي بالبحث في الروح يكاد يكون محصوراً في طبقة معينة، وكان بحثهم فيها يتخذ صورة الاختراع والخيال، أو ينظرون إليها نظرتنا إلى تسمية (العفاريت)!
وكان معظم هذه الفئة أدباء يجنحون إلى الخيالة في كتاباتهم وكان أغلبهم يتخذ صبغة القصة، ومن هذا النوع عاصفة شكسبير، وبعض قصص تشارلز ديكنز، وإدجار آلن بو، وأسكار وايلد، حتى جاء السير آرثر كونان دويل فجعل من هذا اللون من الكتابة فنا، أضفى عليه رداء جديداً. .
ثم ازداد اهتمام الغربيين به في السنوات الأخيرة، فاتخذ منه العلماء علما، حتى تقرر تدريسه في بعض الجامعات، واتخذ منه الكتاب والباحثون فناً. . .
إلا أن العجب حقا أن يكون من هؤلاء الأخيرين صحافيون معروفون يعالجون مواضيعه بأدلة وبراهين لا تترك مجالا للشك في صدق وقوعه. . .
ومن هؤلاء الصحافيين الكاتب الإنجليزي الكبير هانن سوافر، ولزلي وود، وا. ل. لويد، وموريس باربانل، وتريفور آلن، وغيرهم كثيرون.
كما أن للورد هاليف كس كتاباً عن الأشباح نشره حديثا ولم نطلع عليه، ولكنا قرأنا عنه وطالعنا قصة منه منشورة في إحدى المجلات الإنجليزية. .
لو كان هؤلاء الصحافيون أدباء لقلنا إن ما يكتبونه خيال إدباء، ولكنهم صحافيون لا يؤمنون إلا بالملموس الذي يرونه بأنفسهم، ولا يجرون وراء خيال الأدباء.
ومن هذه المقالات التي كتبها حديثها بعض هؤلاء الصحافيين عن وجود الأرواح وتحضيرها، جعلنا مادة هذا الحديث، لأنها تأتى من أوائل الماديين في أوربا. . .
إن المطالع على الآداب الغربية يطالع عشرات من القصص التي تدور حول وجود الأرواح والأشباح في كثير من الأماكن المهجورة والأثرية.
وقد ذكر لزلي وود أن بعض الأشباح سكنت في (الاستوديوات ودور السينما)، بل أن بعضها ظهر في شريط سينمائي. . .
وذكر شاهد عيان في استكهولم، عاصمة السويد، قصصا عن أبرشية تظهر فيها شبح سيدة عجوز في ملابس خضراء تسير بين الأبواب المغلقة، وثلاث سيدات في ملابس من الطراز القديم يجلسن على كنبة يحكن بعض الثياب، وإذا جلست على مقعد معين من الصخر هناك دفعت إلى الوراء. وقد شهد بكل هذه الأقاصيص خمسة من القسس.
أما تريفو آلن، المؤلف والصحافي المشهور، فقد بدأ كلامه بقوله إن الأشباح التي يحبها هي الأشباح التي يستطيع التحدث إليها، وقد وقع له ذلك الاتصال بها فعلا.
ثم تحدث عما سمعه من القصص التي رواها له علماء ومنهدسون وأثريون لا يكذبون أو يخترعون، فقال: ولنأخذ تل العمارنة، مدينة الفرعون ايخناتون المصري، فقد قابلت منذ بضع سنوات أثريا شابا، هو رالف اليفرز، وكان ينقب عن الآثار القديمة هناك في بعثة جمعية التنقيب المصرية. ولم يكن هذا المهندس المادي يعتقد فيما يسمع عن لعنة توت عنخ أمون. ولكنه ذكر لي أشياء غريبة كان يسمعها في الليل بين تلك الآثار، ولم يستطع لها تعليلا، ومنها موسيقى على آلات من العهد الفرعوني، توقعها أشباح غريبة في زي عصر ايخناتون في القرن الرابع عشر قبل الميلاد.
ولا يمكن أن نشك في أقوال رجل مثل السير آرثر إيفاتر، فقد قابلته عندما كان ينقب في قصر مينون، في كنوسوس بجزيرة كريت، فقد ذكر لي أنه سمع ذات ليلة أصواتا غريبة، فترك فراشه ونزل إلى انقاض القصر فرأى كثيرين من رواد البلاط ينزلون السلالم وهم يحملون المشاعل ويتكلمون بلسان مينون الذي عفي عليه الزمان، وقد راقبهم نصف ساعة.
ولما كان جورج جينسج ينقب عن آثار كالابريا القديمة، مرض بالحمى ورأى جنوداً من عهد الإمبراطورية الرومانية يمرون أمامه، وقد وصفهم وصفا دقيقا جداً.
ولنتحدث عن دير العذراء القديم في هيرلي علىنهر التمس الذي أنشأه عام 1086 جيوفري دي ماندفل الذي اشترك في معركة هيسنجس. فقد فرجني الكولونيل ريفرزمور على هذا المكان، ثم ذكر لي عرضا في أثناء حديثه أن شبح زوجة جيوفري الثانية - ليسلينا - وشبح وليم روفرس وهو مدرع بعتاده الحربي ويمتطي جوادً، سكنا أبهاءه. . . وقد وجدت جماجم رهبان في هذا المكان أثناء التنقيب، بقامات ضخمة، وأقدم صغيرة.
وكان لي صديق طبيب قضى أياما هناك، فقال إنه رأى في أحلامه راهبا في مسوح أسود يحادثه، في حجرة من حجرات جناح النوم، وقد أشار الراهب إلى المدفأة الحديثة وقال: أزلها من هنا! ثم رأى الطبيب مدفأة قديمة مستديرة جميلة الشكل تحت دعامة كبيرة من البلوط، خلف المدفأة الحديثة. . . ولما أخبر الكولونيل ريفرزمور بهذه الحكاية أزال المدفأة الحديثة فوجد القديمة مكانها، كما وصفها الطبيب تماماً!
وكانت هناك ضيفة أخرى، وهي سيدة تهتم بالكتابة الآليه، فتلقت ذات يوم رسالة عن (بئر فارغة) وفيها أشارت أعانتها على رسم خريطة لهذه البئر، وأخبرت أنها تحتوى على مجوهرات وكنوز ثمينة ألقاها فيها أخ ميت. ثم تلقت رسالة أخرى تقول: ابحثي عن خط الصدأ. .
وأخبر الكولونيل كذلك بهذه الحكاية الطريفة، فتشكك فيها بادئ الأمر، لأنه لم يكن يظن ان بئرا توجد في ذلك المكان، ولكنه أخذ في الحفر، فضرب خيطا صدئا تحت الطبقة الأولى، ثم البئر بعد ذلك. . . وتابع الحفر، فأكتشف عظاما وملابس من العصور الوسطى، وأواني فخارية، ثم تابعوا الحفر أقداما عديدة - رأيتها بنفسي - ولكنها لم تكن بالقدر الكافي ليكتشفوا الكنوز تحتها. . .
ولما كنت أعيش في هامبتون - على نهر التيمس - كان منزلي بجوار قصر الروائية المعروفة ونفرد جراهام، التي صارت فيما بعد مسز تيودور كوري؛ وكان قصرها هذا، المسمى سانت البانز، والواقع على النهر، مملوكا من قبل لابن السيدة جوين، دوق سانت البانز. . . ففي الليلة الأولى التي نزل والداها ذلك القصر، كانا يعبران المرجة التي أضاءها القمر، وفجأة سأل الرجل زوجته: ألا ترين شيئاً غريباً على شجرة المجنوليا؟ فأجابته زوجته متعجبة: ماذا. . . . نعم. . . إن هناك رجلا متدلياً منها!
ولما أسرعا في اتجاه الشجرة اختفى ما رأيا. . .
وبعد أسبوع، كان والد الروائية في حفلة رقص بمنزل الكولونيل هارفيلد، فسأله أحد الأهليين: هل أنت مستر جراهام الذي اشترى قصر سانت اليانز، ذلك البيت القديم الجميل، الذي شنق الرجل نفسه على شجرة المجنوليا فيه؟
فاستفسر الرجل فزعاً. . .
وأخبرتني الروائية أنها علمت أن عابر سبيل وقع في ضائقة مالية، فشنق نفسه على تلك الشجرة، ويقول الناس أن شبحه يقطن الحديقة.
وذات فجر باكر، استيقظت مسز جراهام على أصوات غريبة، ورأت ثلاثة آدميين يتزاحمون على سطح الشرفة، ويتفرسون في نافذتها، كانوا وجلين مضطربين، يعينون امرأة تبدو ميتة، رأسها متدل، وملابسها وشعرها مبتلة بالماء، فقفزت من فراشها واتجهت إلى النافذة وهي تصيح: ما هذا؟ ما خطبكم؟
ولكنهم اختفوا. . .
ولما طلع النهار علمت مسز جراهام أن رجلين وسيدة كانوا في حفلة بجزيرة تاج القريبة منهم، وقد عادوا إلى سيارتهم بعد انتهاء الحفل، ولكن السيارة اختلت من قائدها وسقطت في النهر، وكان أحد الرجلين، وهو تومي هام، سباق بروكلاند الشهير في السيارات، يبذل غاية ما في وسعه لينقذ زوجة صديقه التي غرقت.
ولما رأت مسز جراهام صورته منشورة في إحدى الجرائد عرفت فيها أحد الرجلين اللذين رأتهما في روياها. فما القول في هذا؟ وهذه القصة:
ذهبت خادمة إلى مسز جراهام ذات مرة تقول أنها قابلت سيدة جميلة على السلم، مرتدية ثوب سهرة مفتوح الصدر، وتحيط بها أنوار أيدت ما عليها من حلي. ولها نظرات ساحرة حلوة.
وسألتها جراهام إذا كانت خافت تلك السيدة، فقالت الخادمة: كلا. . . إنها كانت جميلة جدا. ولقد أسفت عندما اختفت بسرعة.
واستزادت السيدة خادمتها وصفا لتلك السيدة الجميلة، فرأت أن أوصافها تنطبق على السيدة نل جوين - صاحبة القصر الأولى - وعندئذ أسرعت إلى صندوق قديم وأخرجت منه صورة زيتية، فتعرفت الخادمة في الحال على صاحبة الصورة وصاحت: رباه. . . أنها بعينها السيدة الجميلة التي رأيت شبحها، إنها هي بذاتها!
وكان آل جراهام على صلة وثيقة بكنيسة القرية وراعيها. وذات عشية دعوا القسيس لتناول الشاي عندهم، فلما توجه إلى قصرهم كان بادي الخوف والجزع يلهث من شدة الاضطراب، وأخبرهم أنه وهو في طريقه إليهم، عندما مر بوصية الكنيسة، سمع ضوضاء وأصواتا غريبة كأنها أصوات جموع من الخلق تناديه من القبور ليحلق بهم، فأفزعته تلك الأصوات حتى أنه أطلق لساقيه العنان.
فقالت له الآنسة جراهام: إنها أوهام واضطراب أعصاب ثم قدمت له كأسا من الوسكي القوي مع ماء الصودا.
وكان هذا القسيس شابا قويا، صحيحا بالغ الصحة، ولكنه توفى فجأة بعدأسابيع قليلة.
وأما قصور هامبتون، فإن أروقته مسكونة بأشباح يمكن أن نسميها نجوم الأشباح!
فمثلا هناك شبح كاترين هاوارد التي فرت من حجرتها لتعاهد هنري قبل أن يذهب للإعدام في البرج، وهي تصرخ في يأس بين ممرات القصر فتردد أصداء صياحها.
واللادي جين سيمور، في ملابسها البيضاء تصعد السلالم وتدخل مخادع القصر القديمة، وهي تحمل شمعة موقدة.
وإن شبحي المفضل الذي أعتز به - لأسباب شخصية - هو شبح السيدة ذات، الرداء الرمادي، وهي السيدة سبيل بن، مرضعة الأمير إدوارد، بعد موت جين. . وكانت تلك السيدة تعيش في المخادع التي يقطنها الآن اللورد واللاري بيردوود.)
وقد دفنت في كنيسة هامبتون عام 1562 تحت جدث من المرمر، عليه تمثال في حجمها الطبيعي، ويبدو أنها احتفظت بهدوئها مئات الأعوام حتى أقلقت عظامها في جدثها، عندما رمم عام 1829.
فلن تحب سيدة لنفسها أن تعامل مثل هذه المعاملة الخالية من الذوق، ولو كان عمرها ثلاثمائة عام.
ولهذا بدأ شبحها يظهر في حجراتها القديمة، حيث يسمع فتيات آل بونسونبي وغيرهن - من خلف الجدران - صوت سيدة كأنها تدير آلة غزل قديمة.
وقد رأى جندي (ديدبان)، ذات ليلة شبح امرأة في (برنس) رمادي ذي رأس طويل.
ولولا خشيتي أن تحسب أني أطيل في القصة، فإني أضيف إليها باختصار أن مكتب العمل - لأسباب عرضية - هدم هذه الحائط ووجد حجرة مختفية فيها آلة غزل قديمة، ولوازم نسوية أخرى. وكان (خشب الأرضية) متآكلا بفعل أقدام من سارت عليه؟
وقد ذكر أرسنت لو، مؤرخ قصور هامبتون، شبح السيدة بن ووصفه بأنة: أحسن الأحسان التاريخية الحقة.
فقد روت اللادي مود - ساكنة حديثة في ذلك القصر - للآنسة جراهام أن ضيفة من ضيوفها كانت تزورها، فجلست على منضدة الملابس بحجرة نومها، فدخلت عليها سيدة طويلة، نحيفة البدن، في ثياب رمادية. وقد ظنت الضيفة أنها رئيسة الخدم، فقالت لها: هل تتفضلين بإبقاء النور؟
وكان زر الضوء بجانب الباب.
ولكن السيدة لم تجب، ثم انسلت خارجة في هدوء. .
وقالت السيدة مود إنه لم يكن هناك سيدة بهذا الوصف في ذلك الوقت، ولكنه ينطبق كل الانطباق على السيدة بن.
وقد رأى كثيرون هذا الشبح مراراً. .
ومن هذا القبيل. . . إن الفنان أريك فريزر يعيش في بقعة من ذلك القصر، بقرية هامبتون. ولعله يعيش في نفس المكان الذي ماتت به السيدة بن.
وقد خبرتني السيدة فريزر أن ابنتها الصغيرة، ولم تكن سنها تزير على عامين أو ثلاثة أعوام، ولم تعرف شيئا مطلقا عن هذه الأقاصيص، قالت لأمها عرضا ذات يوم: مامي. . . . لقد رأيت سيدة جميلة في ملابس رمادية. دخلت حجرتي في الليلة الماضية، ولم اهتم بدخولها. . .
وفي مرات متكررة بعد ذلك، قالت لها الطفلة. لقد رأيت السيدة الرمادية مرة أخرى.
وهناك حكايات وأقاصيص أخرى عديدة، تقشعر من ذكرها الأبدان، ولكن القصص التي رويتها هي التي أستطيع الاعتماد عليها لوثوقي من مصاردها، ذكرتها لمن يهتمون بالأرواح والأشباح.
(للمقالة بقية)
حسين مهدي الغنام