مجلة الرسالة/العدد 783/العلاج بالطرق النفسية
مجلة الرسالة/العدد 783/العلاج بالطرق النفسية
للدكتور فضل أبو بكر
بدأت الظواهر النفسية منذ خلق الإنسان فهي جزء منه صادرة عنه، وكانوا يطلقون عليها في ما مضى العلوم الروحانية وهي عبارة عن بعض الظاهرات النفسانية والروحانية مثل الوساطة وهي المصدر من وسيط وهو شخص موهوب يملك المقدرة بان يكون حلقة الاتصال بين الموتى والأحياء، إذ يناجى الحي روح ذوي رقابته وأصدقائه ممن توفاهم الله عن طريق ذلك الوسيط. ومنها ازدواج الشخصية التلقائي ومثال ذلك أن ترى رأى العين شخصاً بعيداً عنك بمناسبة حادث خطير وقع لذلك الشخص، وتسمع صوته تماماً، وهي رؤية وسمع يختلفان كل الاختلاف عما يراه ويسمعه بعض المجانين والمصابين بعصاب أو ذ ' هان أو باختصار فأن تلك الظاهرة ليست (بالهلوسية) البصرية أو السمعية وإنما هي ظاهرة ازدواج الشخصية التلقائي.
وقد اهتم بدراسة هذه الظاهرة بعض الإنجليز مثل (جيرني) و (ميرز) وهما عضوان في جمعية الأبحاث النفسية (البسيوكولوجية) الإنجليزية، ومن الفرنسيين (فلاماريون) و (لانسلن)
كل هذا كان معروفاً لدى القدماء ولا سيما الشرقيين مثل الهنود والصينيين وقدماء المصريين كما كانوا يطلقون على تلك العلوم التي تختص بدراسة مثل هذه الظاهرات الروحانية والنفسية العلوم المحجوبة حيناً، والعلوم البدنية العلوية في بعض الأحيان ما يشبه المعجزات ويستشف حجب الغيب الكثيفة.
وظهر في مستهل فجر النهضة العلمية بعض الفلاسفة ممن انقطعوا لدراسة الظواهر النفسية والروحية مثل (بلين) و (بازيل) والفيلسوف ابن سينا و (باراسلز وزعم هذا الأخير بان من الممكن أن يؤثر عقل في عقل آخر بواسطة ما سماه وقتئذ (بالسائل المغناطيسي).
وفي عام 1770 جاء (مزمر) بنظرية المغناطيسية ولقيت استعداداً في النفوس ضمن هلا نجاحاً باهراً. وفحوى (المغناطيسية) أو (المزمرية) كما كانوا يسمونها، أن كل حسم من الأجسام جماداً كان أو حيواناً تنبعث منه موجات مغناطيسية تكون في الحيوان اشد مما ه في الجماد، وفي الإنسان اشد مما هي في الحيوان. وكلما كان الإنسان قوياً سليماً كانت قوة الإشعاع عنده اكبر، وما الأمراض إلا اضطرابات يعتري توازن تلك المغناطيسية في الإنسان، كما أن لبعض الناس المقدرة - بواسطة اللمس - على أن يعيدوا توازن مغناطيسية المريض ومن ثم يحدث الشفاء.
وقد سادت نظرية المغناطيسية العام اكثر من نصف قرن، وكانت تستعمل في التنويم وفي علاج بعض الأمراض. وظهر من بعد (مزمر) (لافونتين) الذي نسج على منوال مزمر إلى أن جاء في سنة 1841 الطبيب الإنجليزي (بريد) وحضر ذات يوم جلسة خاصة بعمليات المغناطيسية التي يقوم بها (لافونتين) فقام (بريد) بدوره بعدة عمليات ووصل إلى نتائج مشابهة مع انه لم يستخدم الطرق التي استعملها لافونتين، أنكر في الوقت نفسه وجود السائل المغناطيسي والمغناطيسية الحيوانية التي كان يعتقد فيها من سبقوه كمزمر ولافونتين، والتي سادت العام مدة طويلة. وسمى بريد تلك الظاهرة بالنوم وطريقة الحصول عليها (بالتنويم) واعتنق مذهب بريد كل المشتغلين بعلم النفس والو حانيات في ذلك الحين، كما أقرته الجامعات رسمياً أدخلته دراسته في كليات طبها ولاسيما في باريس.
ثم جاء العلم الفرنسي الأستاذ الفاضل (شاركو) ومساعده الأستاذ (بيبرتر) في كلية الطب بباريس ومستشفى (السالبتريير) الخاص بالأمراض العصبية، كما أن شاركو ومدرسته استعملوا ظاهرة التنويم في الكثير من مرضاهم واستعانوا بها في العلاج وخاصة لمن كان مصاباً بالهستريا والصرع وفي بعض الأمراض العصبية والذهنية الأخرى.
وقد برزت في الميدان مدرسة (نانسي) بفرنسا تزاحم مدرسة باريس وكان على رأسها الأستاذ (ليوبول) الذي خطأ بهذا النوع من الدراسات النفسية خطوات واضحة ودعمه بأسس ثابتة متينة كما طبعه بطابع علمي واثبت أن التنويم ما هو إلا وليد الإيحاء المباشر وهو ما سماه (بالتنويم النفسي) ليميزه بذلك عن تنويم شاركو (الحسي) أي الذي يؤتي به عن طريق الحواس مثل البصر والسمع واللمس.
والإيحاء كما يعرفه (برنهايم) وهو عبارة عن ظاهرة نفسية يوحي للإنسان بفكرة أو رأي يقبله عقله فيستولي على نفسه ومشاعره. ولكي نعطي القارئ فكرة أوضح نقول أن النشاط النفسي (البسيوكولوجي) يشمل عاملين مختلفين متضادين هما عامل (الشعور أو الوعي، (اللاشعور) - فالأول هو عامل التفكير والتمييز والكم على الناس والأشياء، وهو طوعي إرادي يتغلب على الثاني في حالة الصحو، وأما الثاني أي اللاشعور فهو آلي غير أداري، وهو أداة للحب والهوى ومكمن للعواطف والمخاوف والخيال والذاكرة.
أما اثر الأحياء في النشاط البسيولكوجي أي في الشعور واللاشعور فهو أضعاف الأول وشل نشاطه مع أيقاظ الثاني أثارته لأكبر درجة ممكنة. وهذا ما يحدث تماماً في النوم العادي الطبيعي إذ يضعف الشعور رويداً رويدا حتى إذا ما وصل النائم إلى سبات عميق زال اثر الشعور بتاتاً، أما اللاشعور فيكون في هذه الحالة في حالة نشاط عظيم ويقظة تامة.
وإثارة الإحياء ومداه والانتفاع من ذلك من العلاج، كل ذلك يتوقف على عوامل كثيرة من جانب الموحى والموحى اليه، فيجب على الأول أن يكون ملماً بأوليات علم النفس، كما يجب أن يكون بارز الشخصية قوي الإرادة صبوراً، كما يتوقف على مبلغ حساسية الموحى إليه واعتقاده بل ثقته بمقدرة الموحى. ويتفاوت الناس بدرجة الحساسية. وكان (شاركو) يعتقد بان مرضى الهستيريا والعصاب والذهان هم الذين يسهل تنويمهم. والواقع انهم اشد حساسية من غيرهم. وان كان الأصحاء - إذا توفرت في الموحي والموحى إليه الشروط المذكورة - قلما يخرجون عن محيط سلطانه ويقيمون تحت براثنه.
أما تطبيق هذه الظاهرات على العلاج فقد اهتدى الإنسان إليه بالسليقة منذ عصور عريقة في القدم، ومازالت تلك الطرق بدائية لدى الشعوب البدائية مثل التمائم والتعاويذ لجلب النفع ودفع الأذى وقضاء الحاجة، والسحر والحسد لجلب الأذى وإلحاق الضرر، والعرافة للكشف عن ما يخبئه الغيب وعن ما يتمخض عنه المستقبل، كل ذلك عوامل وطرق نفسية من غير صقل ولا تهذيب وان كان من المغالاة أن ننكر على تلك الطرف بعض النتائج الباهرة التي يحصل عليها بعض من يمارسونها.
هذا، وقد ثبت عملياً واصبح في حكم البديهيات معرفة الصلات الوثيقة التي تربط الانفعالات النفسية بالظواهر الفسيولوجية وتأثيرها تأثير اً مادياً وعضوياَ؛ ومع ذلك فليسمح القارئ بان نضرب له بعض الأمثلة: إذا فوجئ إنسان بخير محزن وصدمة عنيفة، فقد يشعر في جفاف في حلقومه إذ يغيض معين سائله اللعابي ويقف إفرازه؛ أو في حالة الفزع والخوف يصاب بإسهال ويشعر بحالة ملحة للتبول؛ أو أن يسيل فيض من الدمع على خده في حالة الحزن، كل هذه الأمثال المعروفة المألوفة وكثير غيرها يؤيد سلطان العوامل النفسانية إلى الجسم وفسيلوجيته.
وألان اذكر للقارئ بعض الأمثلة التي تستعمل فيها الظواهر النفسية كعوامل للعلاج.
1 - استخدامها في التحذير الجراحي:
هناك بعض الحالات الجراحية لا يمكن فيها استعمال مخدر كيمائي؛ إذ أن بعض المرضى لا يتحملون تخديراً كلياً ولا موضعياً لان أجسامهم من حيث القلب والرئة مريضة هزيلة، وقد كنت شاهد عيان سنة 1935، في إحدى مستشفيات مونبلييله حين أتريد اتجرا عملية في الحال لفتاة صغيرة في الثانية عشر من عمرها أصيبت بالتهاب حاد في مصيرها الاعور، وكانت ضعيفة القلب هزيلة الرئتين لحد لا يسمح بتنويمها بالمخدر، ولا بد من إجراء العملية في الحال لإنقاذ حياتها المهددة، فلم ير الأستاذ إنيين وكان أستاذاً لجراحة الأطفال، بداً من الالتجاء إلى التنويم النفساني عن طريق الإيحاء والخطوات التي وضل بها إلى ما أراد هي: حدج الفتاة بنظرات قوية ثاقبة لمدة لا تتجاوز بعض الثواني، ثم صاح بها في صوت جهوري متزن مطمئن ثلاث مرات بنها سوف لا تشعر بأقل ألم، ومن ثم وضع على وجهها القناع الخاص بالتخدير العادي لإيهامها فقط، ولم يصب عليه نقطة واحدة من المخدر وأمرها أن تعد من واحد إلى عشرة. وما أن وصلت إلى الرقم السادس حتى اختفى صوتها، ووقعت في نوع هادئ وعميق، أجريت العملية في ظروف مؤتية أنقذت حياتها. وقد قرأت عن بعض حالات مشابهة في طب جراحة الأسنان.
2 - استخدام الإيحاء في تخدير الآلام الجسدية:
نجحت طرق الإيحاء عن طريق التنويم أو بدونه في تخدير الآلام المبرحة بل في أزالتها نهائياً في بعض الأحيان. ويذكر الأستاذ (جاجو) وهو من المشتغلين بعلم النفس انه دعي ذات ليلة في ساعة متأخرة لرجل كان يسكن الطابق الأعلى من البيت الذي كان يقطنه، وكان الرجل يتلوى من ألم مبرح في ضرسه لم يقو على احتماله إلى حد أن سمح لنفسه بإزعاج الأستاذ في مثل تلك الساعة مع علمه بأنه ليس طبيب اسنان، ولكنه كان يؤمن بمقدرته النفسانية، فهب الأستاذ إلى نجدة الرجل أمكنه إزالة آلامه وإعادة الطمأنينة إلى نفسه عن طريق الإيحاء.
3 - العلاج النفساني لعضو فقد ووظيفة
مثل هذه الحالات كثيرة. وسأذكر مثلاً شاهدته هنا بنفسي في هذه الأيام وهو ما أثارني في كتابة هذا البحث، وقد وقع في إحدى مستشفيات بوردو مع الأستاذ العالمي الكبير (جورج بورتمان) وهو يعد اكبر حجة في العالم اجمع لأمراض النف والأذن والحنجرة - أتت صباح يوم سيدة تصحب ابنتها وكانت تشعر ببحة في الصوت على اثر صدمة نفسية غرامية أفضت إلى قبض الصوت وفقدانه تماماً وقد فحصها الأستاذ بدقة تامة شانه مع كل المرضى كما فحصناها من بعده فلم نر غير حنجرة سليمة، ليس بها علامة لمرض أو التهاب؛ وأوتار الحنجرة كذلك بحالة طبيعة، فأدركنا أن هذا النوع ليس عضوياً وإنما هو وظيفي أو هستيري كما يسمونه، فاستعمل معها طريقة الأحياء، وكانت دهشتنا شديدة إذ رأينا الفتاة وقد تم شفاؤها وعاد صوتها في اليوم الثالث إلى حالته الأولى.
وأظن القارئ قد سمع شيئاً عن مدينة لورد بفرنسا وهي مدينة صغيرة يقال أن العذراء مريم ابنة عمران قد ظهرت فيها. وقد يكون ذلك عن ظاهرة ازدواج الشخصية كما أسلفنا في مستهل المقال. وقد حدثت الرؤيا لفتاة سميت فيما بعد بالقدسية (برنادوت) وكانت في حالة تامة من اليقظة متمتعة بقواها العقلية. فأصبحت مدينة (لود) على اثر هذا الحادث أرضاً مقدسة وموطناً للحج يؤمه الزوار و (الحجاج) من المسيحيين من كل حدب وصوب بقصد التبرك وقضاء الحوائج وشفاء الأمراض، وان بعض الحالات المرضية قد تم علاجها في تلك المدينة - ولا مريض هنالك يحضر تحضيراً خاصاً قبل ذلك بأيام وتعرض عليه الصور الفوتوغرافية للمرضى الذين شفوا من مرضهم ولا سيما من كان منهم مصاباً بداء المريض الذي ينشد الشفاء. كما تلقى عليه دروس خاصة وكل ما من شانه أن يضاعف اعتقاده ويقوي أيمانه، ومن ثم يسمح له بالاستحمام في حوض يحوي (الماء المبارك). وقد دلت الإحصائيات على أن بعض المرضى قد تحسنت حالتهم، كما تم شفاء البعض - أني من غير أن أتعرض للناحية الدينية من الموضوع أقول بان العامل النفساني من أيجاء وغيره يلعب دوراً هاماً في مثل هذه الأحوال.
4 - العلاج البسيوكولوجي في التربية:
وهو ما يسمونه بالثقافة النفسية. استعملت هذه الطرق في تربية الناشئين بل والكبار في علاج الكثير من الأمراض النفسية مثل ضعف الإرادة والتردد وفرط الحياء الجبن والتهور وضعف الذاكرة، وغير ذلك من الأمراض النقائص؛ وقد أتت بنتائج مشجعة كما استخدمت في عالم الفن والتمثيل، وخلقت من بعض فنانين تبدلت شخصياتهم تماماً عما كانوا عليه من قبل مما أدى إلى نجاحهم وشهرتهم في مهنتهم.
وخلاصة ما تقدم أن العلاج النفسي حقيقة لا ريب فيها، وليس نوعاً من الدجل والشعوذة كما كان يظن البعض؛ وهو يزداد أهمية يوم بعد يوم، ويتطور بتطور علم النفس والوصول إلى غوامضه، كما انه من المعقول أن نعقد عليه آمالاً كبيرة في المستقبل القريب.
(باريس)
فضل أبو بكر
عضو بعثة فاروق الأول السودانية بفرنسا