مجلة الرسالة/العدد 782/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 782/من ذكرياتي في بلاد النوبة:

ملاحظات: بتاريخ: 28 - 06 - 1948


9 - من ذكرياتي في بلاد النوبة:

بين عنيبة والدر

للأستاذ عبد الحفيظ أبو السعود

يطلق اسم عنيبة الآن على غير مسماة لأنه يطلق على المكان الجديد الذي أنشأته الحكومة المصرية بعد التعلية الثانية لسد أسوان، والذي يضم المدرسة الابتدائية وثانويتها، والمركز بما فيه مكاتب الصحة والتموين، والمحمة الشرعية والوطنية، والبريد، والتلغراف والتليفون والمستشفى، واستراحة الري. الخ هذه المرافق العامة التي لا بد من وجودها في كل مركز كبير، يكاد يكون صورة مصغرة من مدينة كبيرة. . .

والواقع أن المكان الذي يشمل كل أولئك ليس هو عنيبة، بل (مستعمرة عنيبة) ولعل البعيدين عن المحيط الذي نعيش فيه، يهزون أكتافهم، ويزمون شفاههم، في دهشة وعجب، غير شاعرين بكبير فرق بين التسميتين، ولكنهم لو كانوا بيننا حيث نحيا ونعيش لأدركوا سر هذه التفرقة وقيمتها في نظر النوبيين، إذ أن عنيبة، عبارة عن بلدة تمتد على شاطئ النيل حوالي ثمانية أميال تقريبا، مكونة من نحوع تكاد تكون متصلة متلاصقة، وبيوت كل نجع عبارة عن أكواخ صغيرة، مبنية من اللبن أو الحجارة أحيانا، ولكنها تحمل آثار الفقر والفاقة. وبين المستعمرة الحكومية التي تضم الموظفين - دواوينهم ومنازلهم - وين أقربي نجع من نجوع عنيبة الأصلية مثلان على الأقل!!

فإذا تحدثنا عن عنيبة فلا نعني البلدة الأصلية الزيفية. . التي لا يكاد يقطن بها موظف واحد، وإنما نعني مستعمرة عنيبة التي قامت مقام الدر، المركز السابق، والتي تضم موظفي المركز بأسره، اللهم إلا رجال البريد، والتعليم الأولى والإلزامي فهؤلاء متفرقون في مختلف بلادالنوبة على شاطئ النيل، وكذا موظفو المدرستين الجديدتين الابتدائية في الدكة، وقورته. . .

وإن شئت فقل إن هذه المستعمرة الجميلة التي تفيض حركة ونشاطا، والتي تعتبر عروس بلاد النوبة على الإطلاق، كانت تدعى فيا قبل: (مقابر عنيبة)!!

إي والله، لقد كانت موضع القبور، ومكان القظة لمن أرادها، فأصبحت الآن مدينة صغيرة، آهلة بالسكان، تضم عشرات الموظفين المثقفين في أرقى الجامعات المصرية والأجنبية، وبها الماء والنور!!

ولم يقع اختيار الحكومة على هذه البقعة اعتباطاً، ولكنها اضطرت إلى إنشاء المركز الجديد اضطراراً، ولذلك قصة طريفة، نجملها فيما يأتي!!

كانت بلدة (الدر) قبل سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة وألف مقر المركز، وأهم موضع في بلاد النوبة على الإطلاق، وكيف لا، وبها دور الحكمة، ودواوينها: مدرسة ابتدائية لها قيمتها في ذلك الوقت. . ثم أغرقت بلدة الدر ضمن ما أغرق من البلدان النوبية بسبب التعلية الثانية، وغمرت مياه الخزان بناء المركز وبقية دور الحكمة جمعاء. . وأرادت الحكومة أن تنشئ بنايات جديدة لمرافقها المختلفة في البلدة نفسها ولكن في مكان مرتفع عن منسوب المياه مهما طغت وكثرت. بيد أنها فوجئت من الأهليين بالمعارضة القوية الصارمة، والرفض الشديد، مما أثار الدهشة والحيرة، والتساؤل والارتباك، ولكن الحكومة إزاء هذا التصميم، لم تجد بداً من الالتجاء إلى بلدة أخرى غير الدر، غير أنها باءت بالفشل، ووجدت الرفض نفسه، والمعارضة التي لم يفلح معها إقناع بحال من الأحوال، وهكذا وقف عمد أربعين بلدة من بلدان النوبة هذا الموقف بعينه، ولم يقبل واحد منهم، ووراءه أهل بلدته بما لهم من سطوة ونفوذ أن يكون مقر المركز من نصيب بلدته، وكأنما هو الخطب الداهم، والشر المستطير!!

وغفل كثيرون عن سبب هذا، وفهمه العارفون، أدركوا سره وحمدوا هذا الموقف للنوبيين، لأنه يرهن على اعتزازهم بشرفهم، وحرصهم على حماية أعراضهم، من أولئك الذين لا يفهمون واجبهم نحو ربهم، ونحو أنفسهم، فيستجيبوا دائما لداعي الغريزة، ويلبون نداء الشهوة، ويعيشون في الأرض فساداً، ولا يبالون بأعراض الناس. إن هؤلاء أساءوا إساءة بالغة إلى أنفسهم أولا، وإلى مناطقهم وبلداتهم ثانيا، وكانوا شر قدوة، وأسوأ أسوة!!. .

يا لله! لقد شافهت الكثير من أهل هذه البلاد، وخاطبتهم في هذا الموضوع، فأبرقت منهم العيون، وعادت بهم الذكرى تعيد الصور مكرورة، وتبعث الأشجان محفورة في الأفئدة والصدور، وكأنهم يعتقدون أن الله أنقذ بمياه الخزان بلدة الدر، وطهرها من الرجس، حينما خلصها من شر الموظفين، وإن بعض الأهلين يعتقد أن بلدة الدر خسرت بذلك سوقا رائجة، وتجارة نافعة، وحركة دائبة!!. . .

ومهما يكن من شئ فإن هذه الفكرة سائدة الآن بين الموظفين والأهلين على السواء، وقليل ذلك الذي يرى أن اختيار هذه البقعة الصحراوية، والتي لا تشتهر بـ (قبر عنيبة) كما تدل على ذلك الخرائط الكبيرة القديمة، والتي لا يزال المركز يحتفظ بإحداها يزين بها حجرة المأمور - قليل ذلك الذي يرى أن سبب هذا الاختبار مرجعه إلى المقاول الذي رست عليه المزايدة العلنية، وأنه اختار هذه البقعة الصخرية بالذات ليوفر على نفسه مؤونة نقل الحجارة من مكان بعيد يكلفه كثير المشاق، وطائل الوقت والمال!!.

وعلى الرغم من أن عنيبة قد سعدت بمقر المركز الجديد، ونالها بذلك كثير من الرخاء والرواج، لتعدد دور الحكومة فيها، واختلاف دواوينها، فإن (الدر) لا تزال تجاذبها أطراف ذلك الرداء، وتأبى في إصرار أن تستقل عنيبة بهذا الفضل، وتنفرد دونها بذلك المجد الذي كان لها وحدها إلى عهد قريب.

أجل فإن اسم (الدر) لا يزال يحتل أبرز الأماكن في هذه الدور، مما يدعو إلى الدهشة والعجب في نفوس الذين لا يعرفون شيئا عن ذلك التاريخ القديم. . . وأعجب من هذا أن بعض المصالح الحكومية لا تزال تتمسك باسم المركز القديم فتطلق على مركز عنيبة، مركز الدر، وكأنها لا تعترف بكل ما مر بهذا الإسم من حوادث، وناله من كوارث الأيام، ولا تقيم وزنا لهذا الإسمالجديد، أو كأن للاسم القديم لذة ومتعة لا ترضى بغيرهما بديلا. . أو كأن رهبة وروعة، فهي لا تريد أن تذهب بما اكتسبه على مر الأيام، وكر الأعوام، من جلال ووقار، أو بمعنى أدق من تخويف وإرهاب، ونفى وتشريد!!.

وإننا لنحسن الظن بالحومة بهذا التعليل كائنا ما كان، وهو على أسوأ وجوهه خير ألف مرة ومرة من الوجه الآخر الذي يتبادر إلى الذهن من الإبقاء على تسمية المحكمة الشرعية، والمحكمة الوطنية باسمهما القديم، وترد بذلك الإسم المخاطبات والمكاتبات في كثير من الأحابين. . . ولا تزال حركة الإصلاح في مختلف الوزارات تذكر مركز الدر في قرارتها، وتهمل مركز عنيبة!!.

ولا شك أن بلدة الدر أعرق مجداً، وأوفر حظا من عنيبة، ولا يزال فيها السوق التجاري الأصيل، وإن زال مجدها الحكومي بزوال دور الحكومة، ورحيلها عنها، فلا يزال مجدها الحقيقي قائما بشخصيات أهلها، ونفوذ الكثيرين منهم، وبخاصة طلبوا العلم فيها، والذين زاولوا فيها كذلك شتى الأعمال الحكومية، واضطلعوا بمختلف المناصب!!. .

واسم الدر أعلق بأذهان الموظفين من اسم عنيبة الذي لا يعرفه غير المتصلين به من مهندسين ومدرسين وقضاة وأطباء وغير أولئك من طوائف الموظفين، فإذا ذكرت اسم عنيبة أمام أحد لم يفهم منه شيئاً، وخالني ألغز عليه، فإذا رآني جادا غير هازل، وصارما غير مازح، استفسر واستفهم، ولم يذهب فكره إلى أكثر من مديرية الجيزة أو الفيوم، أو بني سويف. فإذا قلت له أبعد من هذا صمت، وشك فيما أقول، فإذا ذكرت له الموقع بالضبط، وأنها بعد الشلال، انقبضت نفسه، وحال لونه؛ فإذا قلت له إنها هي الدر ذات التاريخ القديم الذي لا يجهله أي موظف، زم شفتيه ومطهما، وعقدما بين حاجبيه، وهز رأسه فزعا وهو لا مما سمع، وكأنما لسعته عقرب شائلة، أو لدغة أرقم لعين، واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، وحوقل مرات، واسترجع في لهجة فزع، وكأنما ذكرت أمامه اسم واد من أودية العذاب، أو طبقة من طبقات الجحيم!!.

مهلا يا سادة. . فما هكذا تكون الوطنية، ولا هكذا يكمن الخوف والرعب في القلوب لمجرد المتع واللذة والبقاء في المدن العامرة، والعواصم الآهلة. .

ولحسن الحظ أن الموظف تعتريه حالة نفسية، ويسرع في قضاء ما أريده، وما أتيت من أجله، قضاء عاجلا ناجزاً، غير مقيد بقيد، ولا مشروط، على خلاف العادة، إذ كان يصرفني كل موظف من أمامه في لباقة أو غير لباقة. . وكأنه حينما يسرع في قضاء مصالحي يشفق بي، ويعطف علي، أو كأنه يريد أن يبعدني عنه، ليبعد عنه الشر!!

ومهما يكن، فإن اسم عنيبة أفادني إلى حد كبير في قضاء كثير من حوائجي حينما كنت أذهب بنفسي لقضائها، وكان خيراً وبركة على الرغم من كل ما يقال، وعلى الرغم من ألسنة بعض الإخوان والزملاء لحداد التي لا تني عن القدح في عيبة، والنيل منها في كل مناسبة، وفي كل مكان!

عبد الحفيظ أبو السعود