مجلة الرسالة/العدد 781/في النقد التاريخي
مجلة الرسالة/العدد 781/في النقد التاريخي
للأستاذ عباس محمود العقاد
يشيع في هذا العصر نقد التاريخ، لأن أبواب التاريخ على اختلافها قد أصبحت من موضوعات الدراسة الشائعة في المدارس والجامعات، وأصبح التعليق عليها من عمل الأساتذة والطلاب والقراء.
وقد لاحظنا أن نقد التاريخ عندنا يثبتون وينفون، ويصوبون ويخطئون، ويعرضون للروايات والأسانيد بين قبول ورفض، وبين ترجيح وتوهين، ولكن الكثيرين منهم لا يلتفتون إلى الفرق بين صحة الرواية ودلالة الرواية، وهما شيئان مختلفان، لأن الرواية الصحيحة قد تكون خلواً من الدلالة في تاريخ الأمة أو سيرة العظيم، وقد تكون الرواية الكاذبة أدل على الأمة أو على العظيم من كل خبر صحيح.
لهذا لا يصح أن يكون عمل الناقد التاريخي مقصوراً على إثبات الصحيح وإسقاط غير الصحيح؛ لأن الخبر الذي له دلالة نفسية أو دلالة اجتماعية لا يسقط من سجل التاريخ، وإن كان مقطوعاً بكذبه أو مشكوكا فيه؛ فإنما المهم - جد المهم - في التاريخ هو ما يدل عليه.
ولنذكر مثلا لذلك ما قيل عن حروب الإمام علي رضي الله عنه مع كفرة الجن في الكهوف والمغور، وما كان من تأليبه الجن المسلمين على الجن الكافرين في أيام الدعوة الإسلامية.
فقل في صحتها ما تشاء. قل إنها كذب محض وتوليف من نسج الخيال، ولكنك لا يجوز لك من أجل ذلك أن تلقي بها في سلة المهملات كما يقولون، لأنها لا تكون من المهملات وفيها دلالة على شيء كثير، وفيها بيان للفارق بين (شخصية) علي وشخصية غيره من الشجعان في نظر الناس.
لم لم ترو أمثال هذه المعارك عن خالد بن الوليد؟ إن خالدا رضي الله عنه كان من أشجع فرسان العرب والإسلام؛ فليس اعتقاد الشجاعة في إنسان هو الذي يوحي إلى الخيال أن يتمثله في تلك الصورة وينسج حوله أشباه تلك الروايات، ولكنها الشجاعة وشيء أخر غير الشجاعة، وهو الإيمان بقدرة غيبية أو بسر من الإسرار الإلهية يملكه هذا الشجاع ولا يملكه ذلك الشجاع.
وإذا بلغ من رواية (خيالية) أنها تريك كيف كان بطل من الأبطال في نظر الناس، فتلك دلالة نفسية لا تظفر بها في كثير من صادق الأخبار.
هذه التفرقة بين حجة الرواية ودلالتها هي التي نلاحظها في إيراد بعض الروايات التي نشك فيها أو نقطع بنفيها، ولكننا لا نسقطها من الحساب عند الكتابة عن سيرة عظيم من العظماء لأنها لا يصح أن تسقط من الحساب وفيها دلالة عليه أو على نظر الناس إليه.
لاحظناها في سيرة كل عظيم من عظماء العرب الذين كتبنا عنهم، ولو أننا أسقطناها لفاتنا أن نفهم حقيقة العظيم كما كان، وأن نفهم حقيقته كما كان في نظر الناس.
من ذلك في سيرة عمرو بن العاص أننا أوردنا رواية ابن الكلبي حيث قال: (لما فتح عمرو بن العاص قيسارية سار حتى نزل غزة، فبعث إليه عالجها أن ابعث إلى رجلا من أصحابك أكلمه ففكر عمرو وقال: ما لهذا أحد غيري، وخرج حتى دخل على العلج فكلمه، فسمع كلاماً لم يسمع قط مثله: فقال العلج: حدثني! هل من أصحابك أحد مثلك؟ قال: لا تسأل عن هذا؛ إني هين عليهم إذ بعثوا بي إليك وعرضوني لما عرضوني له ولا يدرون ما تصنع بي. فأمر له بجائزة وكسوة وبعث إلى البواب: إذا مر بك فاضرب عنقه وخذ ما معه. فخرج من عنده فمر برجل من نصارى غسان فعرفه، فقال: يا عمرو! قد أحسنت الدخول فأحسن الخروج. ففطن عمرو لما أراده، ورجع فقال له العلج: ما ردك إلينا! قال: نظرت فيما أعطيتني فلم أجد ذلك يسع بني عمي، فأردت أن آتيك بعشرة منهم تعطيهم هذه العطية فيكون معروفك عند عشرة خيراً من أن يكون عند واحد. فقال: صدقت. أعجل بهم، وبعث إلى البواب أن خلّ سبيله).
فهذه القصة تذكر ويقال فيها إنها غير مقطوع بصحتها، ولكنها تذكر لدلالتها النفسية ودلالتها التاريخية. وكذلك فعلنا حين عقبنا عليها فقلنا (إنها لا تؤخذ على علاتها في تفصيلاتها ولا يلزم أن تصح أصولها ولا فروعها، ولكنها تدل - ولو كانت مؤلفة - على أشياء قريبة من الحقيقة، بل لابد أن تكون قريبة منها، لأن صدق الأخبار عامة لا يستقيم ولا ينتظم بغيرها. فمن تلك الأشياء شهرة عمرو بالدخول في أمثال هذه المداخل العويصة التي يجرب فيها حيلته كما يجرب إقدامه. ومنها أن عرب الشام كان فريق منهم على الأقل ينظر إلى الحرب بين الروم والمسلمين نظر العصبية الجنسية على ما بينهم من الفارق في العقيدة. . . الخ)
وهكذا فعلنا فيما رويناه عن فراسة عمر بن الخطاب وملكاته الغيبية واشتهاره بها بين المسلمين. فإن الرواية في هذا المقام تذكر وتشفع بالتعقيب عليها وبيان حكم العلم والتاريخ فيها، ثم تؤخذ منها دلالتها على كل فرض من الفروض، وإن كان بعض هذه الفروض إنها مخترعة أو أنها نقلت مع المبالغة فيها والزيادة عليها.
فرق إذن بين الصحة والدلالة في الروايات التاريخية.
وفرق آخر - شبيه بهذا الفرق - بين أمرين آخرين لا يعطيان حقهما من التفرقة، وهما النفي وعدم التصديق.
فإذا مر بك خبر مقرر فجزمت بنفيه فأنت المطالب بالدليل.
ولكنك إذا مر بك خبر من الأخبار فلم تصدقه فأنت الذي تطلب الدليل، وليس عليك أن تقيم دليلا لأنك لم تصدق خبراً تعوزه الأدلة، بل كل ما عليك أن تذكر أسباب الشك أو أسباب عدم التصديق.
وهذا الذي فعلناه فيما روي عن وأد الفاروق لبنت من بناته، فإن الرواية ناقصة تبعث الشك ولا تطرد مع سائر الأخبار، فليس علينا أن نصدقها ولا يقال إذا نحن لم نصدقها إننا مطالبون بدليل أو أننا نفينا كلاما بغير برهان.
ولعلنا نقرب الفرق بين الأمرين بتشبيه عصري من مسائلنا المعهودة في الدعاوي اليومية. فكلام المدعي لا يلزمك ما لم يقم دليلا عليه، ولكن حكم المحكمة يلزمك فلا تنقضه أنت إلا بدليل أقوى من أسبابه التي بني عليها.
ومن الفروق التي تعرض لها في هذا الصدد ذلك الفرق البعيد بين الحوادث كما تدل عليه في ذاتها، وبين الحوادث كما تدل عليه في تقدير صاحبها الذي تنسب إليه.
ولنضرب لذلك مثلا من حديث مكتبة الإسكندرية.
فإننا أشرنا إليها واتبعناها بالأدلة التي تبرئ الفاروق من تبعة إحراقها، ثم قلنا إن الفاروق لا يلام على إحراقها لو صح أنه أحرقها وهو غير صحيح؛ لأنه لا يطالب بعلم الفلسفة اليونانية ولا يتبين صلاح تلك الفلسفة من أحوال أهلها. (فقد كانوا على شر حال من الضعف والفساد والجهل والهزيمة والشقاق والتهالك على سفساف الأمور. فإذا كان عمر غير مطالب بعلم الفلسفة اليونانية أو غير ملوم على قوات الاطلاع عليها، وإذا كانت أحوال الأمم التي هي أهلها لا تدل على قيمتها بل تسوغ الاعتقاد بخلوها من كل قيمة، فأين هو العيب في تفكيره إن صح أنه فكر على هذا المنوال؟).
وقد جاءنا من الطالب النجيب (السيد رشاد هاشم) بمدرسة الزقازيق الثانوية تعقيب يقول فيه: (إن كونهم على شر حال لا يعطي القوة حقاً: إذ لو فرضنا أن عدواً غاضباً هجم علينا ونحن ضعاف بشر حال والقرآن بيننا أيجوز له أن يحرق القرآن؟)
وقبل كل شيء نحن أن يذكر الطالب النجيب أن الفاروق لم يحرق كتاب الدين فيضرب المثل هنا بما يقابله وهو القرآن، وإنما أحرق فيما زعموا أوراقاً لا يعتقدها أصحاب ملة، وترك الكتب التي يدينون بها وهو يعلم أنها تخالف الإسلام.
ثم نحن أن يذكر أننا لا نعطي القوة حقاً وإنما ندفع عنها لوماً، وإن مثل الفاروق ومكتبة الإسكندرية كمثل رجل باع بيتاً فيه كنز مدفون يساوي أضعاف ثمن البيت. فأنت لا تتهمه بالجهل لأنه لم يطلع على خبر ذلك الكنز، ولا تتهمه بالسفه لأنه باع البيت بأقل من قيمته المدخرة فيه، ولا تقول إنه لا يعرف قيمة الكنوز، لأنه لم يدخلها في ثمن البيت.
كل ما هنالك أنه لا يهتم على أساس معقول، وليس من اللازم أن تقول إنه كان على حق أو على صواب.
وهذا هو الفرق بين دلالة الحادثة في ذاتها، ودلالتها كما تدخل في تقدير صاحبها الذي نسبت إليه.
فالذي يحسب على الفاروق هنا هو ما يدخل في تقديره، ولا لوم عليه أن أحرق مكتبة الإسكندرية بهذا التقدير.
وهذه الفوارق بين الصحة والدلالة، وبين حق النفي وحق الشك، وبين الحادث كما وقع والحادث كما أريد، ألزم ما يكون استحضاراً عند قراءة التاريخ، بل عند مباشرة كل عمل من أعمال الحياة.
عباس محمود العقاد