مجلة الرسالة/العدد 780/رسالة النقد
مجلة الرسالة/العدد 780/رسَالة النقد
على هامش كتاب:
2 - سعد زغلول من أقضيته
(إلى القانوني الأديب الأستاذ عبده حسن الزيات تحية شكرية
وإعجابي)
للأستاذ عدنان الخطيب
2 - الغيرة القومية:
في مصر قضاءان، كان الأجنبي منها دائرة تحصيل وتشجيع للأجانب على امتصاص أموال البلاد، والتمادي في الاستعلاء على أصحابها الشرعيين، يوم كان (. . يقاد الفلاح الأمي، ويقاد المصري الذي يتصبب عرقاً فلا يملك وقار نفسه حين يستطيع أن يقرأ أنباء الوفيات في صحيفة عربية، وتقاد الأرامل الغرير، يقاد هؤلاء، ويقاد من هو أجهل منهم وأضعف إلى أقلام كتاب المحاكم المختلطة فيمضون أو يبصمون أوراقاً لا يميزون أسفلها من أعلاها، ولا يجرءون أن يرفعوا عيونهم إلى الموثق العظيم الذي يحررها، ثم ينصرفون ويقال (عقود رسمية) لا يكلف تنفيذها هذا الدائن المرابي أو المخاتل، إلا أن يدفعها إلى أقلام المحضرين أو ينزع بها ملكية العقار، فهي كالحاكم أو أقوى، هي الحكم الذي ظهر بغير دفاع، وبغير مستندات، وبغير معارضة، وبغير استئناف، وبغير التماس.
وكان أيضاء الأهلي مفخرة يفاخر بها الشرق العربي إذ كان فيه رجال كسعد وإخوانه، تقرأ أحكامهم فتجد فيها (فقهاً جباراً سليما، وعقلا قانونياً بالطبع، لا تختلط عليه شعرة بشعرة) وإذا انتهيت منها انتهيت (إلى نتيجة لا ترضى القانون وحده، ولكنها ترضى العاطفة الوطنية أيضاً).
اسمع سعداً يرد على مصري أحب أن يحتمي بالقضاء الأجنبي صارخاً في وجهه (لا سلطة لقوانين المحاكم المختلطة إلا على الحقوق المختلطة)، وهناك أحكام كثيرة إن قرأتها وجدت فيها صورة صادقة عن (جهاد سعد الأول في مكافحة الامتيازات وتمصير القضاء) ذلك الجهاد الذي أثمر معاهدة مونترو يوم ظفر (تلامذة سعد وأصدقاؤه بتقليم أظافر نظرية الصالح المختلط) والذي نرجو أن ينتهي قريباً بقطع كل يد أجنبية تنقص من استقلالنا، وفي وجودها اعتداء على حريتنا أو عدم ثقة بعدالتنا، ونحن يوم كنا فاتحين غالبين، لم يكن في الدنيا عدل غير عدلنا.
3 - التصون عن العبث:
(في قواعد الإجراءات مدنية وجنائية، وفي دفوع الخصوم، تحكمات كثيرة قد يؤدي تطبيقها تطبيقاً أعمى إلى نتائج غير عادلة ومضحكة أحياناً) ولكنك إذا رأيت قضاء سعد عندما يصطدم بتلك التحكمات رأيته (قضاء جمع بين السلامة والحكمة) وإذا قرأت الأسباب التي يستهل بها أكثر أحكامه قرأت أسباباً (محمة قوية التدليل. . . تنبئ عن التحرر من الشكليات وصون الحق من أن يضحي في سبيلها إذا أمكن تضحيتها هي بغير خرق للقانون) فاسمع سعداً يقول في حكم له (إن هذا يعتبر خطأ في التطبيق. وكان يوجب الغاء الحكم المطعون فيه لو أنه أضر بالمتهم) أو قوله (إن الخطأ في تطبيق القانون لا يكون وجهاً للنقض إلا إذا نشأ منه ضرر) لا بل انظر سعداً حين يقرر (أن عدم تبيان تاريخ الحكم المستأنف في عريضه الاستئناف لا يستلزم بطلانها إلا إذا ترتب عليه عدم تمييزه عما عداه) لتعرف سعداً أي القضاة كان في سعة أفقه وتحرر فكره، واستجابته للحق المجرد.
4 - وضع الأمور في نصابها وصبر القضاء:
(دقة التمييز بين المتشابهات هي ميزة الفقيه الأولى، والصبر من ألزم وأجمل ما يتحلى به القاضي الكامل) وقد كرس الأستاذ الزيات هذا الفصل (لبيان مدى تمكن هاتين الصفتين من عقل سعد ومن نفسه) وهو لم يحاول فيه أن يكيل الثناء لسعد كيلا (بالحق وبالباطل، إنما كان يحاول تحليله) ودراسة آثاره دراسة عميقة تصور للقارئ عظمة سعد في تفكيره، وعظمته في أخلاقه وأنك إذا قرأت حكما من الأحكام التي نقلها لعجبت أن ترى الدائرة التي أصدرته (لا تهمل في أسبابها أن تؤاخذ، وتتعب ولا ترى عبثاً أن تسمع إلى المبطل لتقول له بعد ذلك - أو لتقول للناس فهو أدرى بنفسه - بأسباب طويلة مفصلة، كيف وفيم كان مبطلا) ولوجدت خير شاهد على كل هذا في مثل قول سعد (نعم إن ذلك ربما يفضي إلى. . . ولكن عكسه يؤدي إلى. . .) ثم (وحيث أنه وإن كان الحكم الصادر في مواجهة أحد الشركاء في حق غير قابل للانقسام لا يسري على بقيتهم فإن قطع المدة الخ) ثم (وليس هذا لأن. . . بل لأن. . .)
إن جميع تلك الأحكام التي صدرت عن دائرة فيها سعد يكفيك النظر إليها لتقر الأستاذ الزيات على أن محررها كان سعداً لاعتبارات عديدة وفي طليعتها (ظاهرة اللوم يوجه إلى دفاع الحكومة وصوت المرشد والمعلم الذي لا يأسف حين تسنح له فرصة تشبع فيه شهوتين: شهوة الإرشاد للإصلاح، وشهوة الإرشاد للاستعلاء على الضعاف والمهملين)
اقرأ تلك الأحكام، اقرأها لتعرف معجباً كيف كان (يضع (المعلم) ويضع (الفقيه) كل شيء في نصابه) وكيف كان (الفاضي) يصبر صبر القاضي العادل الرزين.
5 - حدية الدفاع وحقوقه:
كان في سعد (حرص القاضي العادل على مظهر العدل، وحب الخطيب المترافع لسماع المرافعات) وكان لا يعترض صاحب حق أو صاحب دعوى في الدفاع عن موقفه. . . ولا يضيق فرص الدفاع أمام شاك أو مشكو) والأستاذ الزيات لا يعني بلفظة (الدفاع) هذه (الترافع عن المتهم فقط، إنما يعني الدفاع عامة في الميدان المدني والجنائي، ويعني به هذا المعنى الفني المتخصص الذي يرادف (المحاماة) و (المحامين) فسعد الذي يقول إن (حفظ النظام الذي من أهم أركانه ألا يحكم انتهائنا على أحد إلا بعد تمكينه من الدفاع عن نفسه) يوجب (أن يكون الدفاع عن المتهم حراً خالياً عن جميع المؤثرات التي تقيد المحامي)
ولكن سعداً إن احترام الدفاع ولم يضيق عليه لم يكن ليتساهل معه إذا تجاوز حقوقه أو أخل (في نظام التخاصم، أو لم يحفظ للقضاء هيبته) وهو لم يتأخر مرة عن أن يصدر حكما يعرض فيه بمن أخل بالنظام، إن قرأته رأيت فيه (عصا المؤدب ترتفع. . . وهو كاشر عن نابه، ممتد بمقعده العالى، يفعمه السخط على هؤلاء الذين اجترءوا على مقامه، اجتراء إن لم يبلغ حد الخلاف لأمره، فقد بلغ حد التصرف بغير إذنه!) بل إنه لا يتأخر أحياناً عن الرد على المحامين وهو (يبيع لهم بضاعتهم، ويأخذهم بمنطقهم، ويقيدهم بحبال من صنعهم)؛ بل هو لم يتأخر مرة أو مرات عن إحالة بعض المحامين إلى مجلس التأديب لأنهم أهملوا واجباتهم، أو لأنهم استعملوا الخديعة مع خصومهم؛ وليس هذا بمستغرب من قاض لم يتأخر عن القول (أن الخطة التي جرت الحكومة عليها في هذه الدعوى لا توجب ارتياح القضاء لأعمال مندوبها فيها)
(لا توجب ارتياح القضاء! وليس هذا بالقليل حين يصدر من القضاء!
وليس هذا بالقليل حين يصدر على الحكومة! إنه اتهام! فإدانة! فعقاب!!)
6 - الفقه الشرعي:
درس سعد في الأزهر، فتفقه في الدين، ثم درس الحقوق وتقلد منصب القضاء، وأخذ يحكم بين الناس بموجب القوانين المدنية الحديثة، ولكنه (لم يهمل الإفادة من دراسته الفقهية الأزهرية؛ بيد أنه لم يتعمد التعالم بها وإقحامها في غير مقحم، وإنما كان يضعها موضعها حين يكون العرض لها والأخذ منها أمراً لازماً أو شبه لازم) لقد أصدر مرة حكماً يقول فيه (إن المعول عليه في الشريعة الغراء. . . هو الموافق للعدل، إذ لا يجوز لمدين أن يتبرع بمال تعلقت به حقوق الغير)
لقد كتب سعد هذا الحكم وهو بلا شك (مغتبط بما وجد عند الشريعة الإسلامية من رأى معول عليه، اغتباط القاضي العادل حين يجد النص (الموافق للعدل) وإذا علم القارئ أن صاحبي سعد في حكمه هذا كانا أجنبيين لا يجد أية صعوبة في (تمييز الولد العظيم لهذا الأثر العظيم)
7 - القاضي المحافظ:
تكلم الأستاذ الزيات في كتابه كثيراً عن (ثورة المصلح وغيرة العادل، وتحرره من الأوضاع وتمرده على شكليات القانون والبحث عن الحق أنى ثقفه، وتوفير العدل من كل طريق) ولكنه أسرع في فصله السابع إلى الكلام عن سعد المحافظ حتى لا (ترسم للرجل في الأذهان المتسرعة المشغوفة بالأحكام المطلقة صورة ذات أود لا تصدق التعبير عنه أو لا تستوفيه) ونقل لنا أحكاماً من قراءتها نجد سعداً ليس بالمحافظ الجامد ولا بالمجدد المائع، بل هو القاضي المفكر الذي (يستقصي الحقيقة) وينطق بالحكم الذي يرضى وجدانه، وليس في أحكامه (ما يند عن مزاج محافظ، وليس فيها أيضاً ما يتعارض مع مزاج مجدد).
وليس أجمل من هذه الفقرة يختم بها الأستاذ الزيات فصله إذ يقول (ويتصل بمعنى المحافظة الروح العائلي الذي يطالعنا في أكثر من حكم واحد: كره سعد في نظار الوقف أن تحيفوا حقوق المستحقين، وأبى على بعض الورثة أن يتملكوا حصص الآخرين بما يزعمون من وضع يد مستطيل، ثم كره من صغار الأخوة أن يستأسدوا كبارهم الريع عما مضى، ذلك بأنهم حيوا في أكنافهم، فليكن الريع في النفقة، ولتكن الأسرة وحدة، ولتظل المحبة أخوة متآخين على سرور متابلين.
فإذا دخلت الجريمة بين الأخ وأخيه، أو بين الوالد وبينه، فالويل للجرم الأثيم: لن يظفر من رفق سعد واسماحه بغير (القصاص) الجسيم.
8 - القاضي الجنائي:
خير كلمة وصف بها الأستاذ الزيات سعداً القاضي الجنائي (هي كلمة (الموزون) وصفه بها بعد أن نقل كثيراً من أقضيته الجنائية، وأثبت كيف كان كل واحداً منها (قضاء رفيقاً عادلا موزوناً كما أثبت أن سعداً لم يكن (بالقاضي الذي يجهل أو يحصل وظيفته الاجتماعية، ولا شك أن القاضي الجنائي الذي يقدر دوره الاجتماعي حق قدره لا يستطيع أن يحمل لوزن العقوبة ميزاناً من نحاس أو حديد، فميزان هذا شأنه لن يغني مهما يكن مدى انضباطه) إنما العدالة (تريد ميزاناً حساساً مستجيباً بلون العقوبة باللون المناسب للمتهم، ويفردها كما يقول أصحاب علم العقاب).
كان سعد إذا اقتنع لا يتأخر عن الإدانة أبداً، ولكنه كان (لا يكتفي بأن يقتنع، وإنما يرى حقاً عليه للعدل والضمير الاجتماعي وللمتهم نفسه) أن يقنع كل الناس (بما اقتنع به)، ومع كل هذا فقد سمح كاتب جلساته لنفسه بأن يقول عنه أنه كان (يبتعد عن الإعدام، وأنه كان يتهم بأنه مازال في قضائه متأثراً بحرفة المحاماة والدفاع عن المتهمين) والحقيقة الناصعة أن أحكام سعد كلها ليس فيها (تضييع لحق الجماعة، ولا إهدار لمصحلة الفرد والدفاع)؛ أسمعه، وقد تألم من عقوبة حصلت بنتيجة خطأ، كيف ثار وصرخ (إن العدالة الإنسانية التي وضع القانون لاحترامها تأبى إيلام نفس بعقوبة) تنتج عن خطأ. لا بل أسمع هذا المبدأ على لسان سعد المشرع (لا يجوز أصلا أن يلقي الشخص عقابه ويعذب ويتألم، بينما تكون العدالة لا تزال مشتغلة بشأنه، باحثة فيما إذا كان مستحقاً لذلك العقاب أم لا) وصفوة القول أن قاضينا الجنائي (لم يكن بالمتحرج في تأويل النص المعاقب، ولا بالمترخص فيه، ولم يكن الجانح إلى الإدانة، أو الشغف بالتبرئة، ولم يصطنع قسوة الحكم كمبدأ، ولا اختط الأسهل طريقة) بل كان القاضي الذي (عرف أين يلين وأين يقسو) أنه كان (القاضي الموزون).
(البقية في العدد القادم)
عدنان الخطيب