مجلة الرسالة/العدد 78/فيخت

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 78/فيخت

ملاحظات: بتاريخ: 31 - 12 - 1934


1762 - 1814

ولد (فيخت) سنة (1762) في قرية (رامينو) ولم يكن أبوه ليقدر على القيام بأعباء تعليمه، فكفله أحد سادة القرية وأنفق في سبيل تعليمه ما أنفق؛ وبعد جهاد عنيف ودرس طويل دخل في العالم الفلسفي، فكان أول كتاب له (تجربة نقدية لكل وحي) وكتابه الثاني (تقويم أحكام الشعب على الثورة الفرنسية) وكتابه الثالث (نداء عام لأمراء أوروبا لكي يفكوا العقل من عقاله) وهذه الكتب الثلاثة وضعت (فيخت) في مصاف أرباب فلسفة النقد والثورة، وبعد هذا الإنتاج الطيب أعلن في محاضرة له قيمة مذهبه الذي وسمه بالمذهب العلمي، وهو الذي يرد به كل العلوم إلى مصدر واحد. وهذا المذهب أو هذه الثورة الفلسفية أطارت اسمه في الآفاق، حتى غدا حديث المجامع النوادي. وقد أسند إليه منبر في (لينا) ليحاضر في الفلسفة، فسهل له هذا المقام أن يعاود شرح مذهبه وتفصيله من جميع نواحيه في كتبه العلمية، وكان خلال ذلك يواصل نشر مقالاته في (واجب العلماء) فهو يريد من العالم أن يسيطر على شؤون بلده، لأن العالم عنده ليس بالرجل الذي يملأ رأسه علماً وعرفاناً، ولا من يتخصص في مادة واحدة يذهب بها كل مذهب، ولكنما العالم هو الرجل الحر الذي اجتمعت له ثقافة عصره، وسما فوق مشاغل حياته اليومية، هو يريد أن ينقاد المجتمع للرجال الألمع ذكاء والأروع عقلاً

وربما دفعه هذا المذهب - أضف إليه بعض مشاغل خاصة - إلى أن يقطع الكثير من دراساته المتواصلة، كان يحاول من ورائها أن يطبق مذهبه النظري على الأخلاق والحقوق والسياسة والدين، يقطع هذه الدراسات ملتفتاً إلى شؤون أمته المجروبة، وقد خطب الشعب كثيراً في (برلين) بأسلوب تبدو فيها حماسة الفيلسوف وشدة تعلقه بوطنه، ومن خطبه خطبة ذكر فيها أسباب انحطاط أمته ووصف العلاج الشافي لهذا الانحطاط

قال: (إن أسباب الانحطاط داخلية؛ لا يمكن أن تعزى إلى بأس الخصم وسيطرته، إنها تنجلي في خنوعنا ولين أخلاقنا، وفي أنانية مرشدينا وقوادنا، وفي إعجابنا وتقليدنا الأعمى للأجنبي الغريب. أما علاج هذه الأدواء فهو التربية المؤسسة على الفضيلة التي تشجع النفوس وتعلم الأرواح معنى التضحية. . . والوطن ما الوطن - عند فيخت - إلا خلود الإنسان على الأرض، أتلك صفة محمودة فيمن يرغب عن مؤازرة أخيه بعقله أو بعمله؟ من هو ذلك الإنسان الذي يبغي ألا يخلق في فراغ الأزمان شيئاً جديداً لم يمر بخاطر، ولم يقع عليه ناظر؟ هذا الشيء الذي يغدو مورداً لا ينضب لاكتشافات جديدة؟ ومن الذي لا يرضى بأن يفادي بمقامه في هذا الوجود ويتجاوز من أجله القصير المقدر له لقاء بعض شيء سيخلد أبداً في هذه الأرض؟ أي خلق نبيل لا يرضى بهذا؟

ألا إن هذا الرضا لا يتمثل إلا لعيون الذين يعتقدون بأن الوجود كامل الصورة، ملائم كل الملائمة لحاجهم، وجامع لأمانيهم، ما خلق إلا لهم. وأصحاب هذه الفكرة هم عندي أصحاب هذا الوجود، وهم أصله ونواته. أما أولئك الذين ينظرون إلى الحياة غير هذه النظرة فليسوا إلا حشرات سحيقة تزحف في مسارب وجود سحيق)

وبينا كان فيخت يكسو فلسفته الآراء السامية، كان يعمل على أن يكسو نفسه أثواب السمو. ولكن الردى غاله ولما يؤد رسالته، فقضى نحبه سنة 1814 مستريحاً من جميع أوصابه

فلسفته:

فلسفة (فيخت) هي فلسفة رجل لا يعرف للعقل والقوة الإنسانية حدوداً يقفان عندها. وقد كان - كانت - يرى أن معرفتنا تقوم على أن نوفق بين العقل الخارجي وبين نظام إدراكنا الداخلي، وهو يرى أن وراء ما ندركه شيئاً قائماً بنفسه منسلخاً عنا لا يتطاول إليه إدراكنا. وما معرفتنا - عند كانت - إلا مظهر يتوارى وراءه السر الأبدي واللغز السرمدي. أما (فيخت) فهو يوقن بأن هذا المظهر نفسه هو الحقيقة ذاتها، وهو وليد قوة (النفس) التي لا تنفد، وذلك الشيء القائم بنفسه إن هو إلا حد يكبح قوة النفس ويحاول أن يقضي على سطوتها، ولكنه حد يزداد أمره ضعفاً كلما استطاعت النفس أن تبرز من قوتها وتفرض شيئاً من سيطرتها على الوجود؛ وبهذا كانت غاية العلم أن يتغلب العالم الداخلي وهو عالم العقل والروح على العالم الخارجي وهو عالم المادة

والنقطة الأساسية لفلسفة (فيخت) هي هذه الذات التي يجعل منها (الفاعل المطلق) في هذا الوجود، لكن هذه الذات لا تكمل لها معرفة ذاتها إلا إذاقورن بينها وبين غيرها، وبضدها تتميز الأشياء. فإن تخصيصي مثلاً لوجودي بقولي (أنا) يثبت منطقياً لغير ذاتي وجوداً.

لأن الأخص يستثنى من الأعم. وهذا الغير هو الذوات السارحة في هذا الوجود

قد تيقظت الذات في إحدى خطراتها يوم أحست بنفسها فألفت أمامها سداً يقف سيرها. فوقفت وشعرت بأنها مقيدة، من ورائها ومن أمامها سدود، فأخذت تنظر إلى علة هذه الحدود وهذه السدود، فخالت أن هذه العلة كامنة في جواهر الأشياء، فأما الشعور العادي فهو يرى العلة في جوهر الأشياء، أما الفيلسوف فهو يعتقد بأنها كامنة في التحريض الذي تثيره الذات لبسط سلطانها على الأشياء، وتحقيق غايتها التي تطويها في صدرها. وهكذا تجري حياة الكائن المفكر، فهو طوراً يصيب مركز الدائرة وطوراً يحيد عنه

(يتبع)

دير الزور

خليل هنداوي