مجلة الرسالة/العدد 78/السطر الأخير من القصة
مجلة الرسالة/العدد 78/السطر الأخير من القصة
للأستاذ مصطفى صادق الرافعي
رجعت إلى أوراق لي قديمة، يبلغ عمرها ثلاثين سنة أو لواذها، تزيد قليلاً أو تنقص قليلاً؛ وجعلت أفلي هذه الأوراق واحدة واحدة، فإذا أنا على أطلال الأيام في مدينة قائمة من تاريخي القديم، نائمة تحت ظلمائها التي كانت أنوار عهد مضى؛ وإذا أنا منها كالذي اغترب ثلاثين سنة عن وطنه ثم آب إليه، فما يرى من شيء وكان له به عهد في أيام حدثانه ونشاطه إلا اتصل بينهما سر. ومن طبيعة القلب العاشق في حنينه أن يجعل كل شيء يتصل به كأنه ذو قلب مثله له حنين ونجوى!
وذلك التلاشي المحفوظ في هذه الأوراق، يحفظ لي فيها وفيما تحتويه نفساً وطبيعة كانتا نفس شاعر وطبيعة روضة، في عهد من الصبى كنت فيه أتقدم في الشباب وفي الكون معاً، كأن الأشياء تخلق فيّ خلقاً آخر؛ فإذا قرضت شعراً واستوى لي على ما أحب؛ أحسست إحساس الملك الذي يضم إلى مملكته مدينة جديدة؛ وإذا تناولت طاقة من الزهر وتأملتها على ما أحب، شعرت بها كأجمل غانية من النساء توحي إلي وحي الجمال كله؛ وإذا وقفت على شاطئ البحر ترجرج البحر بأمواجه في نفسي، فكنت معه أكبر من الأرض وأوسع من السماء. أما الحب. . .؟ أما الحب فكانت له معانيه الصغيرة التي كضرورات الطفل للطفل، ليس فيها كبير شيء، ولكن فيها أكبر السعادة، وفيها نظرة القلب
عهد من الصبى كانت فيه طريقة العقل من طريقة الحلم؛ وكانت العاطفة هي عاطفةً في النفس، وهي في وقت معاً خدعة من الطبيعة؛ وكان ما يأتي ينسي دائماً ما مضى ولا يذكر به؛ وكانت الأيام كالأطفال السعداء، لا ينام أحدهم إلا على فكرة لعب ولهو، ولا يستيقظ إلا على فكرة لهو ولعب؛ كانت اللغة نفسها كأن فيها ألفاظاً من الحلوى؛ وكانت الآلام - على قلتها - كالمريض الذي معه دواؤه المجرب؛ وكانت فلسفة الجمال تضحك من فيلسوفها الصغير، الواضح كل الوضوح، المقتصر بكل لفظ على ما يعرف من معناه، المتفلسف في تحقيق الرغبة أكثر مما يتفلسف في تخيل الفكرة!
هو العهد الذي من أخص خصائصه أن تعمل، فيكون العمل في نفسه عملاً، ويكون في نفسك لذ في أوراقي تلك بحثت عن قصة عنوانها (الدرس الأول في علبة كبريت) كتبتها في سنة 1905، وأنا لا أدري يومئذ أنها قصة يسبح في جوها قدر روائي عجيب، سيأتي بعد ثلاثين سنة فيكتب فيها السطر الأخير الذي تتم فلسفة معناها
وهأنذا أنشرها كما كتبتها؛ وكان هذا القلم إذ ذاك غضاً لم يصلب، وكان كالغصن تميل به النسمة، على أن أساس بلاغته قد كان ولم يزل، بلاغة فرحه أو بلاغة حزنه؛ وهذه هي القصة:
(عبد الرحمن عبد الرحيم) غلام فلاح، قد شهد من هذه الدنيا تسعة أعوام، مرت به كما يمر الزمن على ميت لا تزيده حياة الأحياء إلا إهمالاً؛ فنشأ منشأ أمثاله ممن فقدوا الوالدين، وانتزعوا من شملهم فتركوا للطبيعة تفصلهم وتصلهم بالحياة، وتضيق لهم فيها وتوسع
وهيأت الطبيعة منه إنساناً حيوانياً، لا يبلغ أشده حتى يغالب على الرزق بالحيلة أو الجريمة، ويستخلص قوته كما يرتزق الوحش بالمخلب والناب؛ ولن يكون بعد إلا مجموعة من الأخلاق الحيوانية الفاتكة الجريئة؛ فإن الطبيعة متى ابتدأت عملها في تحويل الإنسان عن إنسانيته، نزلت به إلى العالم الحيواني ووصلته بما فيه من الشر والدناءة، ثم لا تترك عملها حتى يتحول هو إليها
وألف (عبد الرحمن) في بلده حانوت رجل فقير، يستغني بالبيع عن التكفف وعن المسألة؛ فكان الغلام يكثر الوقوف عنده، وكان يطعم من صاحبه أحياناً كرزق الطير، فتاتاً وبقايا، إذ كان الغلام شحاذاً، وكان صاحب الحانوت لا يرتفع عن الشحاذة إلا بمنزلة تجعل الناس يتصدقون عليه بالشراء من هناته التي يسميها بضاعة: كالخيط والإبرة، والكبريت والملح، وغزال للولد، وكحل للصبايا، ونشوق للعجائز نسخة الشيخ الشعراني، وما لف لفها مما يصعد ثمنه من كسور المليم، إلى المليم وكسوره!
وتغفله الغلام مرة، وأهوى بيده إلى ذخائر الحانوت، فالتقطت (علبة كبريت)، كان الفرق كل الفرق بين أن يسرقها وأن يشتريها نصف مليم. ولكن من له (بالعشرين الخردة)؟ وهي عند مثله دينار من الذهب يرن رنيناً ويرقص على الظفر رقصة إنجليزية
وماذا يصنع بالعلبة؟ همت نفسه أن تجادله ولما تسكن رعشة يده من هول الإثم. ولكن الغلام كان طبيعياً ولم يكن فيلسوفاً، ولذلك رأى أن يحرز الحقيقة بعد أن وقعت يده عليها.
وقد اصطلح الناس على أن مادة السرقة هي (مد اليد) أخطأت أم أصابت، وجاءت بالغالي أو جاءت بالرخيص؛ فضم أصابعه على العلبة وانتزعها، وترك في مكانها فضيلة الأمانة التي لم يعرف له الناس قيمتها، فهانت كذلك على نفسه، وانطلق وهي تناديه:
أيها الغلام، أتدفع ثمن علبة الكبريت سنتين من عمرك، وهل خلا الناس ممن يعرفون لعمرك قيمة؟
وارتد رجع الصوت الخفي إلى قلبه من حيث لا يشعر، فضرب قلبه ضربات من الخوف، ونزا نزوة مضطربة؛ فالتفت الغلام مرة أخرى، ثم أمعن في الفرار وترك الأمانة تناديه:
أيها الغلام، إن لك في الآخرة ناراً لا توقد بهذا الكبريت، ولك في الدنيا سجن كهذه العلبة، فالعب العب ما دام الناس قد أهملوك، العب بالثقاب الذي في يدك فسيمتد فيك معنى اللهب حتى يجعل حياتك في أعمار الناس دخاناً وناراً، وستكون أيامك أعواداً كهذا الكبريت تشتعل في الدنيا وتحرق
وكأن أذناب السياط كانت تلهب ظهر الغلام المسكين، ولكنه ما كاد يلتفت هذه المرة حتى كان في قبضة صاحب الحانوت، وإذا هو بكلمة من لغة كفه الغليظة، خيلت له في شعرها أن جداراً انقض عليه، وتلتها جملة من قوافي الصفع جلجلت في أذنيه كالرعد، وأعقب ذلك مثل الموج من جماعات الأطفال أحاط به، فترك هذا الزورق الإنساني الصغير يتكفأ على صدمات الأيدي. فما أحس الغلام التعس إلا أن الكبريت الذي في يده قد انقدح في رأسه، وكانت أنامل صاحب الحانوت كأنما تحك أعواده في جلد وجهه الخشن!
وذهبوا به إلى (دوار) العمدة يقضي فيه الليل، ثم يصبح على رحلة إلى المركز والنيابة. وانطرح المسكين منتظراً حكم الصباح، مؤملاً في عقله الصغير ألا يفصح النهار حتى يكون (سيدنا عزرائيل) قد طمس الجريمة وشهودها؛ ثم أغفى مطمئناً إلى أن ملك الموت وأنه قد أخذ في عمله بجد، وأيقن عند نفسه أن سيشحذ في الخميس مما يوزع على المقبرة صدقة على أرواح العمدة، وصاحب الحانوت، والخفير الذي عهدوا إليه جره إلى المركز. . . .! وكيف يشك في أن هذا واقع بهم وهو قد توسل بالولي فلان ونذر له شمعة يسرقها من حانوت آخر. .!
هكذا عرف الشر قلب هذا الصبي، وانتهى به عدل الناس إلى أفظع من ظلم نفسه، وكأنهم بذلك القانون الذي يصلحونه به على زعمهم، قد ناولوه سبحة ليظهر بها مظهر الصالحين، ولم يفهموه شيئاً ففهم أنهم يقولون له: هذه الجريمة واحدة، فعد جرائمك على هذه السبحة لتعرف كم تبلغ!
كانت في الحقيقة لعبة لا سرقة؛ وكانت يد الغلام فيما فعلت مستجيبة لقانون المرح والنشاط والحركة، كما تكون أعضاء الطفل لا كما تكون يد اللص؛ وكان أشبه بالرضيع يمد يده لكل ما يراه، لا يميز ضارة ولا نافعة، وإنما يريد أن يشعر ويحقق طبيعته؛ وكان كل ما في الأمر وقصارى ما بلغ - أن خيال هذا الغلام ألف قصة من قصص اللهو، وأن الكبار أخطئوا في فهمها وتوجيهها. .! ليست سرقة الطفل سرقة، ولكنها حق من حقوق ذكائه يريد أن يظهر
وانتهى (عبد الرحمن) إلى المحكمة، فقضت بسجنه في (إصلاحية الأحداث) مدة سنتين، واستأنف له بعض أهل الخير في بلده؛ صدقة واحتساباً. . . إذ لم يكلف الاستئناف إلا كتابة ورقة. فلما مثل الصغير أمام رئيس المحكمة لم يكن معه لفقره محام يدفع عنه، ولكن انطلق من داخله محام شيطاني يتكلم بكلام عجيب، وهو سخرية الجريمة من المحكمة، وسخري عمل الشيطان من عمل القاضي. . .!
سأله الرئيس: (ما اسمك؟)
-: (اسمي عبده، ولكن العمدة يسميني: يا بن الكلب!)
-: (ما سنك؟)
-: (أبويا هو اللي كان سنان)
-: (عمرك إيه؟)
-: (عمري؟ عمري ما عملت شقاوة!)
النيابة للمحكمة: (ذكاء مخيف يا حضرات القضاة! عمره تسع سنوات)
الرئيس -: (صنعتك إيه؟)
-: (صنعتي ألعب مع محمود ومريم، وأضرب اللي يضربني!)
-: (تعيش فين؟)
-: (في البلد!) -: (تاكل منين؟)
-: (آكل من الأكل!)
النيابة للمحكمة: (يا حضرات القضاة؛ مثل هذا لا يسرق علبة كبريت إلا ليحرق بها البلد. . .!
الرئيس: (ألك أم؟)
-: (أمي غضبت على أبويا، وراحت قعدت في التربة، مارضيتش ترجع!)
-: (وأبوك؟)
-: (أبويا لاخر غضب وراح لها)
الرئيس ضاحكاً: (وأنت؟)
-: (والله يا افندي عاوز اغضب، مش عرف اغضب ازاي!)
-: (إنت سرقت علبة الكبريت؟)
-: (دي هي طارت من الدكان، حسبتها عصفورة ومسكتها. . . .)
النيابة: (وليه ما طارتش العلب اللي معاها في الدكان؟)
-: (أنا عارف؟ يمكن خافت مني!)
النيابة للمحكمة: (جراءة مخيفة يا حضرات القضاة، المتهم وهو في هذه السن، يشعر في ذات نفسه أن الأشياء تخافه)
فصاح الغلام مسروراً من هذا الثناء. . (والله يا افندي إنت راجل طيب! أديك عرفتني، ربنا يكفيك شر العمدة والغفير)
وأمضى الحكم في الاستئناف، وخرج الصغير مع رجال من المجرمين يسوقهم الجند، ثم احتبسوا الجميع فترة من الوقت عند كاتب المحكمة، ليستوفي أعماله الكتابية؛ ثم يساقون من بعد إلى السجن
وجلس (عبد الرحمن) على الأرض، وقد اكتنفه عن جانبيه طائفة المجرمين يتحادثون ويتغامزون، وكلهم رجال ولكنه وحده الصغير بينهم؛ فاطمأن شيئاً قليلاً، إذ قدر في نفسه أنه لو كان هؤلاء قد أريد بهم شرٌ لما سكنوا هذا السكون، وأن الذي يراد بهم لا يناله هو إلا أصغر منهم، كصفعة أو صفعتين مثلاً. . . وهو يسمع أن الرجال يقتلون ويحرقون ويسمون ويعتدون وينهبون؛ وما تكون (علبة الكبريت) في جنب ذلك وخاصة بعد أن استردها صاحبها، وقد نال هو ما كفاه قبل الحكم؟
وما لبث بعد هذا الخاطر الجميل أن رد الاطمئنان في عينيه دموعاً كاد يريقها الجزع. غير أن القلق اعتاده فالتفت إلى كتّاب المحكمة مرة والى الجند مرة، ثم لوى وجهه ولم يستبح لنفسه أن يتجرأ على الفكر فيهم، لأنه قابل مهابتهم بآلهة بلده: العمدة والمشايخ والخفراء؛ فأدرك أن الجنود هم الحكومة القادرة، واستدل على ذلك بأزرارهم اللامعة، وخناجرهم الصقيلة، وتمشت في قلبه رهبة هذه الخناجر، فاضطرب خشية أن يكونوا قد أسلموه إلى من يذبحه، فنظر إلى الذي يليه من المجرمين وسأله (راح ياخذوني فين؟) فأجابته لكمة خفية انطلق لها دمعه، حتى أسكته الذي يليه من الجانب الآخر، وكان في رأيه من الصالحين!
ثم اتصل الجزع بين قلبه وعينيه، فهما تضطربان إلى الجهات الأربع، وكأنما يحاول أن يستشف من أيها سيأتيه الموت ذبحاً. ولم يكن فهم معنى (الإصلاحية)، وحكم القضاة عليه كأنه رجل يفهم كل شئ، ولم يرحموا هذه الطفولة بكلمة مفسرة. وعدل التربية غير عدل القانون، فكان الواجب على القاضي الذي يحكم على الطفل، أن يجعل حكمه أشبه بصيغة القصة منه بصيغة الحكم؛ وأن يدع الجريمة تنطلق وتذهب فلا يقول لها امكثي. . .
وبقي للخناجر رهبتها في نفس هذا المسكين، فلو أنهم قادوه إلى حبل الشناقة لأفهمه (الحبل) معنى العقوبة، أما وهو بين هذه الخناجر المغمدة - وفي الخناجر معنى الذبح - فإنما هو الذبح لا غيره
وطرقت أذنيه قهقهة المجرم عن يمينه فاستنقذته من هذا الخاطر، فثبت عينيه في الرجل، فإذا هو يرى وجهاً متلألئاً، وجسماً رابط الجأش، وهزؤاً وسخرية بهؤلاء الجنود وخناجرهم
واستراح الغلام إلى صاحبه هذا، وألح بنظره عليه، وابتدأ يتعلم في وجهه الفلسفة؛ وليست الفلسفة مقصورة على الكتب، بل إن لكل إنسان حالة تشغله، فنظره في اعتبار دقائقها وكشف مستورها هو الفلسفة بعينها
وقال الغلام لنفسه: (هذا الرجل أقوى من كل قوة؛ فهو محكوم عليه ولا يبالي، بل يقهقه ضحكاً؛ فهذا الحكم إذن لا يخيف. لا، بل هو تعود الأحكام، إذن فمن تعود الأحكام لم يخف الأحكام؛ إذن يا عبد الرحمن ستتعود، فإن الخوف هذه المرة فد غطك من (علبة الكبريت) في حريق متسعر؛ وما قدر (علبة الكبريت)؟، فلو كانت السرقة جاموسة ما لقيت أكثر من ذلك؛ يا ليتني إذن. . . ولكني لا أزال صغيراً، فمتى كبرت. . . آه متى كبرت. .)
وبدأ القانون عمله في الغلام؛ فطرد منه الطفل وأقر فيه المجرم
وأطرق (عبد الرحمن) هادئاً ساكناً، وقامت في نفسه محكمة من الأبالسة، بقضاتها ونيابتها، يجادل بعضهم بعضاً، ويداولون بينهم أمر هذا الغلام على وجه آخر
وقال شيطان منهم: (ولكنا نخشى أمرين: أحدهما أن (الإصلاحية) ستخرجه بعد سنتين شريفاً يحترف؛ والثاني أن الناس ربما تولوه بالتربية والتعليم في المدارس رحمة وشفقة، فيخرج شريفاً يحترف)
وما أسرع ما نفى الخوف عنهم قول الغلام نفسه بلهجة فيها الحقد والغيظ، وقد صفه الجندي الذي يقوده إلى السجن -: (ودا كله على شان علبة كبريت. . .؟)
وفي سنة 1934 قضت محكمة الجنايات بالموت شنقاً على قاتل مجرم خبيث، عيار متشطر، اسمه (عبد الرحمن عبد الرحيم). . .
مصطفى صادق الرافعي