مجلة الرسالة/العدد 777/الإنسانية الصادقة
مجلة الرسالة/العدد 777/الإنسانية الصادقة
روح القصة الفنية
للأستاذ محمود تيمور بك
الإنسانية في القصة لا تكبر أو تصغر بما تحفل به من نوع الشخصيات وطراز الحوادث، وإنما تقوى الإنسانية في القصة بمقدار نصيبها من الصدق في تقمص المشاهد والمرئيات، سواء أكانت حيواناً أم جماداً أم من النبات، وسواء أكانت من سنة الطبيعة أم من الخوارق والمعجزات والأساطير.
فما دام الكاتب يتقمص الموضوع، ويسبغ عليه ذاتيته، فإن الشخصية القصصية تبدو على وضعها الحق، وتنطق بما هو مقدار عليها أن تقوله، وتجري الحوادث في مجرها الذي لا حِوَلَ عنه، وتتواثق المشاهد في ألفة وانسجام، فتخرج القصة وحدة متناسقة لا يحس القارئ فيها من نفرة ولا شذوذ، على الرغم مما قد تحتويه من تهاويل وتعاجيب.
لا يوهن من إنسانية القصة إلا ضعف التقمص، وانغلاق الإحساس الذي ينحدر بالكاتب إلى مزالق الكذب والتزوير، سترا للضعف، وتعوضاً من ذلك الانغلاق.
فأما الخوارق أو الأساطير أو ضروب الجماد والنبات وما إليها، فتلك لا تحول بين القصة واتصالها بالإنسانية، إذا عرف الكاتب القصصي كيف تمتزج روحه بالطبيعة والوجود ويحيا الكون فيه كما يحيا هو في الكون، فيستطيع أن يحيى تلك الموضوعات في نفسه، ويهبها من ذاته، ويكون كأنما قد عاش عيشتها، وكتبت عليه حياتها. . .
ليس روح الفن الإنساني إلا أن يمتزج الفنان بما يحيط به من موجودات، يبادلها الحياة والشعور وكأن بينه وبينها (وحدة وجود). . .
وعلى أساس هذه الحقيقة بقيت القصة الإغريقية خالدة الأثر وأُقيمت بها دعامة القصة العالمية، مع أن قصص الإغريق مناطلها الأساطير والخوارق، ولكنها أساطير تهتز فيها خفقات الحياة، وخوارق تتمثل فيها نزعات النفس. ولذلك ظلت تستجيب لها الأزمنة والعصور على تعاقبها، لما يسري فيها من روح إنسانية صادقة.
ويا رب تمثال لفنان صادق التعبير قوي الأداء، تقف أمام حجره فلا تكاد تتوسم سماته الناطقة، حتى تحس أواصر الإنسانية تؤلف بينك وبينه، ويا رب شخصية قصصية رسمته أنامل كاتب فنان، لا يكاد يطالعها القارئ حتى يحس لها وجوداً في المجتمع وأصالة في الحياة، فيعيش معها كأنها حي متميز من بين الأحياء الذين تربطه بهم مختلفف الصلات.
فلا غرو أن نرى أبطالا من خلق الفنانين تتوهج ذكراهم، وتتمثل حياتهم، فيزاحمون بشخصياتهم الممتازة أولئك الأبطال الآدميين الذين يعمر بهم تاريخ العصور.
وعنصر الصدق في التعبير الإنساني، قد يبلغ من قوته في الأعمال الفنية أن يكتب الخلود لمحاولات بدائية يعوزها الكثير من عناصر الفن الأخرى.
فمما لا ريب فيه أننا نهتز لمشاهدة قطعة من الفن البدائي، تمثالاً كانت أو صورة أو قصة، إذا توسمنا فيها لوامع إنسانية تثير فينا شعور الصلة بيننا وبينها. ولعل هذا سر بقاء القصص الشعبي على تعاقب الحقب مثاراً لشعورنا، ومهزة لإعجابنا، مع افتقار هذا اللون من القصص إلى كثير من عناصر القصص الفني القمينة بأن تخلده على وجه الزمان.
ولا يتوافر الصدق في التعبير الفني إلا لمن أوتي قدرة على التقمص الحق، أو الاستيحاء والاستلهام لما يريد التعبير عنه من موجودات الكون وموضوعات المجتمع وشئون الحياة.
وكلما قوي تقمص الفنان صدقت إنسانيته فجاد عمله، وإنما تنقص درجة الجودة، ويضعف التعبير، على قدر الوهن الذي يعتري الفنان في تقمصه.
ففي ميدان الرقص مثلا هيهات أن تحس الراقصة تأدية موضوعها إلا إذا عاشت فيه وتمثلته كل التمثل، فتؤدي بحركاتها وإيماءاتها واختلاجاتها حياة الموضوع الذي اتخذته مادة للتعبير.
وهل في طوق راقصة أن تؤدي الرقصة المعروفة بـ (موت البجعة) حق أدائها إن لم تتقمص روح هذا الضرب من الطير وتمزج نفسيتها بنفسيته، فكأنما هي الطائر، تعبر عنه بمقدار بمقدار فهمها لكنهه واستصغائها لسريرته؟
على أن القدرة على التقمص لا تكفي في اكتسابها الرغبة والإرادة والمحاولة، وإنما هي في أغلب ما تكون استجابات نفسية تستبد بما بين أحناء الضلوع.
وهذه القدرة على التقمص لا تسلس بالمظاهر، ولا تتأتى بضروب التكلف والصنعة، فلابد أن تستند إلى مؤثرات طبيعية وتأثرات باطنة.
وحسبنا مثلا لذلك شخصية (المتعبد)، فقد تعاقب على محاولة تقمصها ألوف من سدنة المعابد وعمار الصوامع متخذين لها أقصى ما في الوسع من ظواهر ورسوم، يسبغون المسوح ويرددون الأناشيد ويرتلون الصلوات، ولكن القليلين من هؤلاء جميعا هم الذين استطاعوا أن يتقمصوا شخصية (المتعبد) على حقيقتها، فوسموا تعبيرهم عن هذه الشخصية بميسم الخلود. وهذه أناشيد (أخناتون) التي يناجي بها ربه ما تزال تتقد فيها حرارة الإيمان، لأنها وحي قوي لمتعبد صادق الإحساس، صادق الأداء.
محمود تيمور