انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 776/الكتب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 776/الكُتبُ

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 05 - 1948



أبو الهول يطير

تأليف الأستاذ محمود تيمور بك

للدكتور أحمد فؤاد الأهواني

عندما قرأت هذا العنوان في إعلانات الصحف قلت لعل الأستاذ تيمور يعني بأبي الهول نفسه، فهو رمز المصري كما هو رمز الصمت. وفي التسمية دلالة لا بأس بها، فنحن نستعير كثيراً من الأشياء المصرية كالنيل والأهرام وما إلى ذلك دلالة على القومية المصرية. حتى إذا شرعت في قراءة الكتاب اتضح لي أني كنت واهما فيما ذهبت إليه، لأن المؤلف لا يقصد نفسه بهذه الاستعارة، وإنما يقصد الطائرة التي أقلته من مصر إلى أمريكا، أو إلى الولايات المتحدة على وجه التحديد، بلاد الحضارة والمدنية الحديثة، أو الدنيا الجديدة كما يقولون.

ولا ريب في أن أمريكا تستحق من الشرق أن يتعرف إليها، بعد أن أصبحت محط أنظار العالم، وبعد أن انتقلت إليها الحضارة العلمية الحديثة، فانتهت إلى كشف القنبلة الذرية، فسبقت بذلك سائر الدول التي كانت تحمل لواء العلم والمدنية.

كنا إذن في حاجة إلى معرفة هذه الدولة العظيمة الناشئة، وما فيها من نظم اجتماعية، وأحوال عمرانية، وتقاليد يصطبغ بها أهلها، وعادات تشيع في سكانها.

وهذا ما فعله الأستاذ محمود تيمور بك في كتابه (أبو الهول يطير). صور فيه رحلته إلى تلك البلاد، وسجل ما شاهده في السماء والأرض، والفندق والشارع، والمطعم والملهى، وفي كل مكان، وفي كل ركن من الأركان، فكان الناقل الأمين الذي شاهد بعين المصري الشرقي تلك البلاد الجديدة الغريبة.

فهي إذن رحلة (أمريكانية) كان من الخير أن يصورها لنا المؤلف في هذا الأسلوب الطائر، حتى تلائم ما عرفناه عن أمريكا التي تحسب حساب السرعة والزمن في كل عمل. فإذا كان ابن بطوطة أو ابن جبير يقطع الواحد منهما الرحلة في أعوام، فلا عجب أن تجد محمود تيمور يقطعها في شهور. وأن يصل من القاهرة إلى نيويورك في ساعات.

نقول إن عين الشرقي هي التي سجلت ما في هذا الكتاب من كتب وأطياف وظلال. والشرقي مؤمن بطبعه، وكان الشرق مهبط الأديان منذ قديم الزمان. انظر معي إلى ما يقوله تيمور في صفحة 80 (مازال حديث السماء على تطاول الزمن، وتراوف الحقب، وتطور العقول، هو صاحب السلطان الأول على المشاعر والنفوس. . . لطالما سمعنا فلاسفة الفكر ينادون بأن العقيدة الدينية على وشك الانهيار، ولكننا لا نلبث أن تواجهنا حقائق تسخر من هذا الزعم الموهوم. . . إن العقيدة، مثلها كمثل كرة المطاط، إذا قذفت بها ورأيتها جادة في هويها إلى الأرض لم تحسب لها من رجوع. ولكنك لا تعتم أن تراها قد وثبت إليك في عنفوانها أقوى مما كانت من قبل. . .).

فأنت ترى أن الرحلة لا تصف المشاهد الحسية فحسب، بل تذههب إلى أعماق الحقائق الروحية، فيحدثنا صاحبها عن الفلسفة والعقيدة والإيمان بالله، والدفاع عن الأديان.

على أننا ننكر على الأستاذ تيمور قوله: إن فلاسفة الفكر ينادون بالإلحاد، فهي تهمة لصقت بالفلاسفة وهم منها براء. وقد قيل مثل ذلك عن ابن رشد فيلسوف قرطبة، ووقع في محتة شديدة كادت أن تودي به. على أنا نرى أن الفلاسفة كانوا دعائم العقائد يقوونها بسند الفكر والبرهان، كما فعل ديكارت في براهينه الرياضية في إثبات وجود الله.

وقد نقلت العبارة السابقة من الكتاب لغرض آخر غير هذا النقد الذي وجهته، ذلك أني أحببت أن أعرض على القارئ لوناً من أسلوب الكاتب في كتابته.

ولقد صحبت تيمور في قصصه منذ زمن بعيد، فقرأت له تلك (الأفصوصات)، ويعنون بذلك القصة الصغيرة، مثل (مكتوب على الجبين وقصص أخرى) و (أبو علي وقصص أخرى). فكنت أعجب به قاصاً، كما أعجبت به كاتب رحلة. والميزان ومبعث الإعجاب عندي هو تلك اللذة التي تشعر بها عند قراءة هذه القصص، فلا تكاد تبدأ في قراءتها حتى تنتهي إلى نهايتها، دون شعور بملل أو سأم، بل يدفعنا فيها دافع قوي من الشغف والتلهف على تتمة القصة.

وقد يختلف النقاد في الحكم على أدب تيمور وقصصه، ولا أعد هذا الخلاف مطعناً عليه، فكل أديب مشهور لابد أن يكون موضع الخلاف بين النقاد، وكذلك كان شوقي في شعره، رفعه بعض الحكام إلى مرتبة الإمارة في الشعر، وقال البعض الآخر إنه ناظم لا روح فيه.

يقول النقاد الذين لا يعجبهم أدب تيمور إنه شعبي ينزل إلى مستوى الجمهور لا في غباراته وأساليبه فحسب، بل في ألفاظه.

ونحن نرى أن هذه السهولة السهلة هي التي يتميز بها قلم تيمور، والتي تجعل له طابعاً خاصاً يميزه عن غيره،

ولم تمتع السهولة أن يكون صاحبها أديباً، بل نحن في حاجة إلى هذا اللون الذي يبعد بنا عن الأدب التقليدي، وعن ترسل الجاحظ، وسجع ابن العميد؛ ذلك لأننا في عصر يجعل جمال الموضوع في صدقه وقوة تعبيره، ولا حاجة بنا إلى التزويق والتأنق والتكلف مما يصرف الكاتب والقارئ معا عن لذة الفكر الخالص.

وهذا الأستاذ أحمد أمين لا يتكلف بل يكتب أنه يتحدث فيعرض ألوان الفكر الإسلامي منذ فجر الإسلام وضحاه، فأفاد واستفاد منه الناس في غير عناء. وهذا المازني لا يغرب ولا يتأنق بل تحس كأنه يخاطب العامة، ومع ذلك فهو أديب لم يطعن في أدبه طاعن، ولم يقل قائل إن أسلوبه غير بليغ. أليست البلاغة كما قال ابن المقفع (هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحس مثلها فإذا حاول عجز). . .

محمود تيمور إذن من هذا الطراز الذي يجري قلمه بما يجيش في صدره، وما تختلج به نفسه، وما تراه عينه، فتقرأ له كأنك تستمع إليه.

وأكبر الظن أنه يصطنع بعض الألفاظ العامية المستملحة التي لا نجد لها نظيراً في الفصحى، لأنه يريد ذلك، أو يريد أن يدخل هذه الألفاظ في قاموس اللغة العربية حتى تندرج فيها. وهذا مذهب لا بأس به.

وهو كذلك يستعمل بعض الألفاظ الجديدة التي استحدثت، ولعله بتسجيلها يدفع إليها مع الزمن الحياة. أنظر إليه وقد نزل في باريس وذهب إلى مقهى (كافيه دلابيه) المشهور إذ يقول (لنتناول قدحاً من تلك القهوة الممزوجة باللبن، مفخرة هذا المشرب البعيد الصيت. . . ولنحظ بجلسة نستعيد فيها ذكريات الماضي المحبب، وننقل النظر في الغادين والرائحين من أهل باريس، نتملى بما يبدونه من أناقة ورشاقة وظرف، وهم يتزاحمون على طوار الطريق. . .)

وفي هذه العبارة التي ننقلها لفظتان جديدتان، المشرب وهو يعني المقهى، والطوار أي الترتوار.

وعلى هذا النسق تجد عشرات وعشرات من الألفاظ يجريها في أثناء التعبير، فلا تحس فيها غضاضة أو تكلفا. وهذا فضل لا ينكر في تذليل اللغة العربية لألفاظ الحضارة الحديثة.

وبعد، فإني أحب القارئ أن يمتطي متن هذا الكتاب، ليطير به في جواء الفكر، وينقله إلى الدنيا الجديدة ليسعد فيها بعض لحظات.

أحمد فؤاد الأهواني

(الرسالة): آفة النقد عندنا الترديد والتقليد. فالدكتور الأهواني

يردد نغمة قديمة لم يبق لها في الآذان رجع. كان النقاد

يأخذون على أسلوب الأستاذ تيمور في نتاجه الأول أنه أقرب

إلى العامية في ألفاظه وتراكيبه، فانتقش هذا الرأي في أذهان

الناس، وصرفهم الكسل العقلي عن استئناف النظر فيه

بالموازنة والنقد، فلم يلاحظوا تطور أسلوب الكاتب على

إدمان الجهد وكر السنين، من الابتذال إلى السمو، ومن

السهولة إلى الجزالة، فيما كتب بعد ذلك من مقالات وقصص.

ومن أثر هذا الجمود العقلي أن الناس قد اعتقدوا في كل كاتب

من كتابنا، وزعيم من زعمائنا، رأياً لا يتحولون عنه ولا

يتغيرون منه. فلو كان عندما نقد يجاري التطور، ولنا رأي

يساير النهوض، لحكمنا على الكاتب بآخر ما يقول، وعلى الزعيم بآخر ما يعمل. ويظهر أن الأستاذ الناقد يخلط بين

السهولة والابتذال؛ فان السهولة من الصفات الجوهرية

للبلاغة، ولا يعيبها على الكاتب إلا مجذوب من مجاذيب

الصوفية، أو مجنون من مجانين الرمزية