مجلة الرسالة/العدد 776/الأحلام
مجلة الرسالة/العدد 776/الأحلام
بين التأويل الفلسفي والتعليل العلمي
للأستاذ عبد العزيز جادو
(إنما نحن كالمادة التي صنعت منها الأحلام) قولة قصد بها شكسبير دون شك، المساعدة على أيضاح لغز الوجود. ولن السرّ تحوَّل فقط من (نحن) إلى (المادة التي تصنع منها الأحلام). فما هي مادة الأحلام؟
منذ بداية القرن الحالي، أجاب كثيرون عن هذا السؤال كلٌّ بما يعتقده صواباً. وأحدث نظرية نعرف أنها تتعلق بهذه المادة التي تصنع منها الأحلام، هي التي قامت في الزمن الذي سجلته التوراة: كان الحلم نبوءَة؛ لذلك كان يحتاج إلى تعبير. ومن هذا الإعتقاد، نشأت أنظمة للتعبير متفاوتة في الإجادة والإتقان. فالتفسيرات أو التأويلات التي كان يستعملها سيدنا يوسف تبدو بسيطة نوعاً. فحِزَمُ القمح إذ تنحني تعبيرها أن إخوته يقدمون له الولاء والطاعة. ورؤيته الأحد عشر كوكباً والشمس والقمر له ساجدين، تنبئ بصورة ما، عن عظمته المستقبلة (يُوسُفُ أَيُها الصِّدَّيقُ أَفتِنَا فِي سَبْع بقرَات سِمانٍ يَأكلهنَّ سَبْعٌ عِجاف وَسبع سُنبلاتٍ خُضر وأُخر يابسات لعلي أَرجعُ إلى الناس لعلهمْ يعلمون. قال تزْرعون سَبْعَ سنين دأباً فما حصدتمْ فذرُوهُ في سُنبله إِلاّ قليلاً مما تأكلون. ثمَّ يأتي منْ بعْدِ ذلك سبعٌ شداد يأكلهنَ ما قدَّمتم لهنَّ إلا قليلاً مما تحصِنُون. ثمَّ يأتي منْ بعْدِ ذلكَ عامٌ فيه يُغاثُ الناس وفيه يُعصروُن)
إذن كان يوسُف أكبر مُفسر للحلم على أنه نبوءة من نبوءات المستقبل. ولكِنا سمعنا في الأربعين سنة الأخيرة عن شخص آخر - إسرائيلي كيوسف - كثير الكلام عن التأويل والتفسير - هو سيجموند فرويد.
وخلافاً لما يرى رجل الأحلام القديم من أن في الحلم نبوءة لأرادة الله، يرى فرويد أن في الحلم سجلاًّ للماضي، وأن فيه دليلاً أو إشارة إلى رغبة الحالم أو إرادته.
وقد تجرمت عشرات القرون بين الرجلين، وطال العهد بين الزمنين، ولكن لا يزال فهمُنا لمعظم الظواهر الطبيعية العامة كما هو لم يتقدم إلا يسيراً، وما أظنه سيتقدم ولو تقدمت بنا الأزمان.
وإنه لحقٌّ أن كتب الأحلام ما زالت متداولة، ولكن منزلتها لا تتجاوز منزلة قراءة البخت بواسطة (الكوتشينة) أو الفنجان، أو قراءة الأخلاق بواسطة خطوط راحة اليد. فتفسير الأحلام قد انحط إلى درجة كبيرة.
وعندنا الآن نظريتان مشهورتان عن مسببات الأحلام: إحداهما عالجها هنري برجسون؛ والأخرى وهي التي سلفت الإشارة إليها عالجها فرويد. وكان لنظرية الأخيرة أهمية واعتبار أكثر مما كان للأولى، ويرجع هذا في الغالب، إلى أنها تكوِّن عنصراً هاماً في نظام علاج يعرف بالتحليل النفساني.
فبرجسون، كفيلسوف، يعالج الأحلام على أنها أحلام وحسب. وفرويد، كعالم، يهتم بها على أنها علامات أو دلائل للحالات العاطفية، والشئون الحيوية.
ومن رأينا أن كلتا النظريتين ضرورية، يجب الأخذ بها لتفهم أسباب جميع أحلامنا.
ولنأت هنا بعبارة مسهبة لبرجسون، لم بلباب النظرية، وتجمع أشتات الموضوع. يشرح فيها استمرار حواسنا أثناء النوم في استقبال التأثيرات والانفعالات؛ فالعيون سريعة التأثر بدرجات الضوء، والآذان تتأثر بالصوت، والجسم في مجموعه يتعرض للتأثيرات أو الانفعالات الخارجية. أما داخلياً فالأعضاء المختلفة أيضاً تسبب إحساسات للتسجيل، إحساسات مزعجة ربما تكون من الأعضاء الهضمية، أو من القلب، أو الرئتين:
الذكريات المكبوتة:
(وقصارى القول، أن في النوم الطبيعي، تكون حواسنا قطعاً قابلة لتأثيرات خارجية. . . وبعيد على إحساس حقيقي أننا نصنع حلمنا أو نلفقه؟ إذن كيف نلفقه؟. .
(إن ذكرياتنا، في لحظة معينة، تصوغ شكلاً هرمياً مجسماً تطابق قمته حاضرنا. . . ولكن، من وراء الذكريات التي تحشد في شغلنا الحاضر، وتظهر بوساطتها، يوجد أخرى غيرها آلاف وآلاف غيرها، تحت المنظر الذي قام الشعور بتدبيجه ووراءه. . . وإنها لتتوق أحياناً إلى الضوء: ومع ذلك فإنها لا تحاول أن تنهض إليه؛ لأنها تعرف أن هذا مستحيل، وإنني أنا، مخلوق حيّ ومتصرف، عندي ثمةَ شيء آخر أقوم بعمله غير إشغال نفسي بها.
(غلبني النعاس، إذن تلك الذكريات المكبوتة، التي تشعر بأني تركت العائق جانباً، ترفع المزلاج عن الباب السريّ الذي يُبعد بينها وبين حقل الشعور، وتبدأ في التحرك والثورات، ومن ثمَّ تنهض وتنتشر إلى الخارج - لتؤدي في ليل اللاشعور رقصة طيفية همجية. وتندفع إلى الباب الذي لا يزال (موارباً) وتتزاحم جميعها لاجتيازه. ولكنها لا تقدر؛ فهناك كثير، كثير جداً. من هذه كلها، على أيها يقع الاختيار؟. .
(سهل علينا الحدس والتخمين. الآن فقط، عندما نستيقظ كانت الذكريات المحتملة هي التي استطاعت أن تطالب بوصل موقفي الحاضر بإحساساتي المطابقة للواقع. . . وهكذا إذن من بين الذكريات الطيفية، ذكريات تتوق إلى وزن نفسها مع اللون، والصوت. وبالاختصار مع المادية، تلك الذكريات التي تعقبها هي التي يمكنها أن تماثل لون التراب الذي أحسه وأراه، والضوضاء الخارجية أو الداخلية التي أسمعها، وغيرها. . . فعندما يحدث هذا الاتحاد بين الذاكرة والإحساس، فإنني أحلم.
(الأحساس عنيف حار، ملوَّن، فيه ذبذبة، وهو في الغالب حيّ، ولكنه غامض؛ والذاكرة واضحة وصافية، ولكنها بدون مادة ولا حياة لها.
الإحساس يتوق إلى قالب يجمِّد فيه ميوعته؛ والذاكرة تتوق إلى مادة تملأها وتدركها - وبالاختصار لتستوعبها. فهما منجذبان كلٌّ إلى الآخر؛ والذاكرة الطيفية، يجعلها نفسها مادية في الإحساس الذي يمدها باللحم والدم، لتصبح مخلوقاَ يعيش في حياة من حيواتها، حلم. . .
(ميلاد الحلم إذن ليس سراَ. . . فما الفرق الجوهري بين الكينونة في حلم والكينونة في يقظة؟ نجعل الكلام في ذلك بأن القوى العقلية ذاتها قد تمت ممارستها، سواء كنا في حالة اليقضة، أو في حالة الحلم؛ ولكنها تتوفر في الحالة الأولى، وتسترخي في الثانية. والحلم هو الحياة العقلية الصحيحة، ناقصة جهد التركيز).
هنا نرى أن نظرية برجسون الملخصة في هذه الكلمات، بسيطة غاية البساطة. عنصران يشتغلان لتلفيق حلم: إحساس، ووضع صورة منسوج حولها بوساطة الذاكرة، ضوء يومض من نافذتي بينا أكون نائماً؛ فتنسج ذاكرتي حول هذا الإحساس بالضوء قصة معقولة ومقبولة. هذه القصة أو هذا التعليل هو حلمي
كثير من الأحلام المألوفة لدى معظمنا يمكن أن تفسر على ضوء هذه النظرية. قد نحلم بأننا مسافرون بقارب في البحر، وتحدث بعض طوارئ صغيرة لها صلة بالمغامرة، ولكن العنصر السائد هو برودة الهواء. فنحن شاعرون ببرودة كما لو كنا مسافرين بالبحر.
ونستيقظ فنجد أن غطاءنا منزلق عن السرير، الأمر الذي نالنا منه برد شديد.
أو أننا قد نرى حلماً من تلك الأحلام التي نعيش فيها كما لو كنا في نعيم؛ كأن نكون مثلاً محلقين بلطف وبشكل توقيعي في أجواء الفضاء الفسيح. وإنه لبسيط كما أنه ممتع، فماذا علينا لو قلنا لأصدقائنا كيف يعملون مثلنا؟ ولكن للأسف، لقد فقدنا اللعبة حالما استيقظنا من النوم. والتفسير الصائب المعقول حسب نظرية برجسون ليس إلا نسمة في الغرفة قريبة منا تداعب الفراش أو قميص نومنا ذاته. ولكن أرجلنا لم تستند على الأرض، فنشعر في غير وضوح بهذه الحقيقة. ولا يمكن أن نكون سائرين فتفعل ذاكرتنا الباقي، إذ تؤلف القصة، ونرى أنفسنا طائرين. والاعتقاد بأن ما نأكله يؤثر في الغالب في أحلامنا ولاسيما في جعلها غير سارَّة، يتصل تقريباً بهذه النظرية. والإحساس في هذه الحالات هو المضايقة التي يسببها عسر هضم ينشأ من أكلة ثقيلة.
ولنرجع الآن إلى الرجل الذي قلب نظام الاتجاه نحو الأحلام؛ ليس هذا مجال الأشارة إليه إلا فيما يتعلق بما مضى، والتأثير الهائل الذي له على الفكرة اليوم؛ العبارات والتعبيرات التي أبدعها موجودة تقريباً في كل ما يتصل بآداب العصر الحاضر؛ والمواد التي كتبت مرة لتبرهن على أنه كان ذا تأثير في الأدب غير مرغوب فيه، مهنته العلاجية استعملت لكي تكون ضد اختيار طرائفه في التدريب. ولكن تأثيره لا يزال مستمراً سواء كان للخير أو للشر.
كثيراً ما نظن عن الحلم أنه مشوش ومقلق لنومنا، ولكنه بالنسبة لنظرية فرويد يُعد بمثابة حارس. فالحلم يقي النائم من الاستيقاظ، سواء بواسطة منبهات خارجية لحواسه، أو بواطسة منبهات داخلية تهيئها انفعالات، أو أفكار غير سارَّة. ومثل الحلم كمثل أم تقول لطفلها الذي تعرف أن أصواتاً أو مشاهد غير عادية تخفيه (لا تخف، إنه لم يكن إلا الهواء يداعب الأغصان)
كل حلم يعبر عن رغبة:
لكي نفهم هذه النظرية على حقيقتها يلزمنا أن نضع نصب أعيننا بضع قواعد ثابتة: كل حلم يعبر عن رغبة، والحلم الرمزي هو إشباع مستتر لرغبة مكبوتة. وفي الأحلام ننال ما تصبو إليه نفوسنا أخيراً، ولكن - (ليس هناك حلم واحد لا يمكن أن يظهر بواسطة التحليل ليعتدي على بعض قوانين أخلاقية أو شرعية) وإن التشبث والإصرار على هذين المبدأين هو الذي يسبب - في الغالب - ذلك السخط على فرويد. ولا نرى في الحقيقة سبباً للانزعاج أو الشك في هذه البيانات.
ومن المحقق أن أي شخص متأمل، أمين في تأمله، سيعترف بأنه غالباً ما يتمنى امتلاك ما ليس في حوزته، ويرغب في حوادث وعواطف يعرف أنها مطابقة لسبل حياة الزمن الحاضر ولا يمكنه امتلاكها. وما نسميه رغباتنا الشرعية أو القانونية لا نبكبتها بل نعبر عنها ونصرّح بها، ونحاول أن نحصل عليها أو على الأقل نسمح لها ببعض الأشتراك في حيواتنا. وإن مجرد الرغبات في الأشياء الممنوعة هي التي نخرجها من عقولنا، ظناً منا أننا بعملنا هذا قد نحوناها وحطمناها. ولكن هذا يبدو مريعاً ومبهماً.
وإنها لتبدو أقوى بنوع ما مع القوى الخبيثة المكتئبة. وستجد طريقها إن لم يكن في حياة يقظتنا إذن ففي نومنا.
نحتاج فضلاً عن ذلك إلى أن نفهم أن هناك محتويين لكل حلم، كما كانت آراء المفسرين مثل يوسف. فهناك المحتوى الحرفي أو الظاهر، إذ تحلم بحصان شرس. والمحتوى المجازي أو الكامن في مثل هذا الحلم، هو التعبير عن رغبة جنسية غير قانعة طبقاً لتفسير فرويد.
والمعنى الكامن كثيراً ما يبدو للحالم محرَّفاً، أو متنكراً لكي يستطيع المرور من (الرقيب) الذي يدل عليه اسمه، والذي يحاول في النوم دائماً أن يُخفي العناصر غير المناسبة عن عقولنا. هنا يأخذ فرويد على نفسه مسئولية ما ذكرناه آنفاً بأن جميع رغباتنا المكبوتة مخجلة وفاضحة لنا كمتمدينين، فهي في النوم لا يمكن أن تظهر بدون تحريف. فيلزمها إذن أن تتقنع
تأويل بسيط:
هنا الكثير مما يشمئز منه الشخص المحافظ على التقاليد، ويحجم عن قبوله، ولكن حينما يبدأ التأويل يكون هناك الرفض العنيف، أو الإستخفاف، أو السخرية من قبَل الكثير، لماذا تكون الحية والشمسية وسيقان الورد المستقيمة وغيرها من الأشياء البريئة لماذا تكون في الأحلام رُموزاً للأعضاء المستترة من جسم الإنسان؟ ولماذا يكون الحلم الذي فيه خيل، على وجه التخصيص، وأحياناً أنواع أخرى من الحيوان، أو الحلم بصعود سلالم، أو السير فوق ممر من تحته ثغرة واسعة، لماذا تكون هذه الأحلام (المقلقة) رموزاً لرغبة جنسية لم تشبع؟.
يجب أن يُفهم تماماً أن هذه الرموز لم يخترعها فرويد، ولم يذكرها بطريقة اعتباطية، ولكنها اكتشفت فقط. ومنبعها في لا شعور الفرد أو الذرّية. ولقد حلل فرويد وأتباعه آلافاً وآلافاً من الأحلام.
وفيما يلي نقتبس عبارة لبريل أتى فيها بحلم وتعليله، أو بالأحرى، بمعنييه الظاهر والباطن.
(حلمت إحدى مريضاتي أنها رأت ولدها الأكبر مُكفناً في تابوت، وكانت مع ذلك غير مكترثة به قط. ولما قيل لها إن الحلم يقوم إشباع الرغبة أصرَّت على أن هذه النظرية خاطئة، إذ أنها لا تضمر أي رغبة كهذه بخصوص ابنها. ومع ذلك فقد أظهر التحليل النفساني الحقائق التالية:
مات زوجها تاركاً لها طفلين؛ ثم تزوَّجت من أرمل له هو أيضاً طفلان. وكان الزوجان سعيدين، ولكن نظراً لأن لهما أربعة أطفال فإنهما لا يستطيعان القيام بتربية من يأتي بعدهم. وكثيراً ما أعربت الزوجة عن رغبتها الأكيدة في الحمل من زوجها الثاني لكي تقوي الرابطة بينهما، ولكن وجود أربعة أطفال في الأسرة يعوق هذه الرغبة. فالحلم يشبع رغبتها بأن يريها أن في الأسرة ثلاثة أطفال وحسب).
عبد العزيز جادو