مجلة الرسالة/العدد 775/لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات
مجلة الرسالة/العدد 775/لا، لا نملك تحريم تعدد الزوجات
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
كان صديقنا الأستاذ عبد المتعال الصعيدي يقرر في رده الأول علينا أننا (نملك تحريم تعدد الزوجات) ولكن بطريق مخالف لطريق معالي عبد العزيز فهمي باشا، (وقد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات)، وأشار إلى هذا الطريق بمثال هو (تحديد سن الزواج ونحوه مما جرى العمل الآن به، وألفه الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه)؛ مما يفهم منه بوضوح أنه طريق التشريع الوضعي القائم على استعمال ولي الأمر ما له من سلطان على عماله مأذونين كانوا أو قضاة بمنعهم من تحرير وثائق رسمية لعقود الزواج المتضمنة للتعدد أو سماع الدعاوي المترتبة على هذه العقود.
فلما بينا له - تعقيباً على رده - أنه قد أخطأ القصد إلى التحريم بما أشار إليه من طريق سلبي لا تعلق له بحل ولا بحرمة، وأن ما ينشأ بين الناس من علاقات شرعية في الأمور التي تناولها المشرع الوضعي بطريق المنع المتقدم، يعتبر صحيحاً شرعاً وقانوناً وتترتب عليه جميع الآثار المترتبة على سواه، عدا تحرير الوثيقة وسماع الدعوى وهما الأثران المعطلان خلافا لما هو النظر الصحيح في (قاعدة تخصيص القضاء)، راح - في رده الثاني - يحرر مراده بأن لو لي الأمر (أن ينهي عنه (تعدد الزوجات) إذا أساء المسلمون استعماله، فيصير حراماً لنهيه عنه، وإن كان في ذاته مباحاً (كما ينهى عن زرع القطن في أكثر من ثلث الملك) فيكون زرع القطن في أكثر من الثلث حراماً من هذه الناحية وإن كان في ذاته مباحاً. . . هكذا يقول الأستاذ.
وظاهر مما تقدم أن معالم هذا الطريق الأخير تغاير المعالم التي أقامها للطريق الأول تمام المغايرة، فذاك طريق ليس له سوابق في التشريع المصري الحديث ولا القديم على الأقل فيما يتعلق بنظائر تعدد الزوجات التي مثل لها الأستاذ نفسه بتحديد سن الزواج؛ فلا ينطبق عليه إذن القول بأنه (قد سلكه أولو الأمر حديثاً في نظائر لتعدد الزوجات)، وبالتالي لم يألف الناس هذا الطريق، فلا ينطبق عليه القول بأنه (مما جرى العمل الآن به وألفه الناس بعد أن ثاروا عليه عند تشريعه). كما أن ما ذكره الأستاذ نفسه في ختام رده الأخير من (أن الناس لم يتهيأوا بعد لفهم هذا الحق (حق ولي الأمر في التحريم)؛ بل يعدوه خروجا على الدين) يبين بجلاء أنه لم يكن الطريق الذي عناه في رده الأول ووصفه بأن تحريم تعدد الزوجات بواسطته (كان مطلباً سهلا لا يحتاج إلى ما تكلفه (الباشا) في أمره)، والذي تنطبق عليه هذ الأوصاف كلها إنما هو الطريق الذي فهمناه من رده الأول وأشرنا إليه فيما تقدم.
والظاهر أن الأستاذ قد استشعر - قبل سواه - هذا التغاير التام بين الطريقين وأنه لا يستساغ معه اعتبار ثانيهما تحريراً للمراد من الأول، فحاول أن يعقد بينهما وشيجة قربى إذ قرر في ختام رده الأخير ما يتضمن أن العلاقة بين الطريقين علاقة الفرع بأصله. فالطريق الذي قررنا أنه هو ما عناه في رده الأول ولايمكن أن يكون قد عنى سواه، متفرع - في رأيه - على الطريق الوارد في رده الأخير ولا يعدو أن يكون (تنظيما فيه أو استثناء له من ولي الأمر بما له من حق التحريم والمنع. ولعل مما يدعو إلى هذا أن الناس لم يتهيأوا بعد لفهم هذا الحق. . . الخ) والواقع خلاف ذلك لأن الطريقين متغايران - كما قدمنا - تمام التغاير، ولا يمت أحدهما إلى الآخر بالصلة التي حاول الأستاذ عقدها بينهما ولا بما يماثلها. فهما وإن كانا من حق ولي الأمر - فيما يرى الأستاذ - إلا أن حقه في كل منهما لابد من إرجاعه لأصل مغاير لأصل الآخر؛ فحقه في منع عماله من تحرير وثائق أو سماع دعاوي معينة راجع إلى (سلطته التنظيمية) عليهم باعتبارهم أدواته في مباشرة (ولايتي التنفيذ والقضاء). أما الحق المنسوب له في التحريم فلا مندوحة من إرجاعه إلى (لسلطة تشريعية) لولي الأمر تتعلق بأفعال المكلفين عامة مما يقتضيه تعريف الحكم الشرعي.
وحتى على التسليم بأن طريقه الجديد مما يصح اعتباره تحريراً لمراده بالطريق الأول، فهو مع ذلك غير مؤد إلى الغاية التي قصد إليها إلا وهي التدليل على دعواه أننا نملك تحريم تعدد الزوجات، إذ لم يرد عن أحد من القائلين بحق ولي الأمر في النهي عن المباح أن هذا يجري فيما وردت بحله نصوص (تفصيلية) محكمة في الكتاب والسنة كما هو الحال في تعدد الزوجات (وليست هذه النصوص - فيما أعتقد - موضع خلاف بيني وبين الأستاذ عبد المتعال)، ولا تفيد عباراتهم جريانه الا فيما هو من قبيل (المصالح المرسلة) التي لم يشهد لها الشارع بحل ولا بحرمة فتكون - قبل نهي ولي الأمر - على أصل الأباحة، أو (سد الذرائع) بالنهي عما يدخل تحت نصوص (أجمالية) بالإباحة إلا أنه يتخذ ذريعة لارتكاب محرم. والحرمة المستفادة من نهي ولي الأمر في هذه المواضع وما شابهها تكون مستندة في الواقع إلى دليل عام من الكتاب أو السنة، فلا يقال إنها شرعت بنهي ولي الأمر ابتداء. على أن مسألة نهي ولي الأمر عن المباح - حتى في نطاق هذا التحديد الذي بيناه - مسألة خلافية، القول فيها طويل والرأي غير مستقر؛ فهي، من كل الوجوه، ليست بالذي يصح أن يعول عليه في مثل هذا الباب.
أما ما استشهد به من موضوع (زراعة القطن) فلا يصلح للاستئهاد لأنه قياس مع الفارق الكبير، وهذا ظاهر.
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد