مجلة الرسالة/العدد 774/تولستوي الحائر
مجلة الرسالة/العدد 774/تولستوي الحائر
للأستاذ محمود الخفيف
أتم تولستوي (أنا كارينينا) وقد أصبح في روسيا أحد رجالها المعدودين، وفي أدبائها فارسهم المعلم، وأصبح في أوربا أجد القلة الأفذاذ من أساتذة الفن وأعلامه. وإنه لذو ثراء عريض، وذو بنين، يسكن إلى زوجة اختارها لنفسه عن بينة وحب؛ وهو إلى ذلك يتمتع بالعافية، وقد وهبه الله جسما قوياً لا تسكن حيويته ولا تفتر قوته، وإن موهبته الفنية لتمد اليوم لتمد اليوم أكثر مدها وإن روسيا كلها لتنظر إليه نظرتها إلى أعظم من أنجبت من رجال القلم في تاريخها، حتى لقد اغتدى اسمه لها مفخرة قومية، واغتدت به تباهي بأن صار لها في أدب الدنيا صفحة مرقومة ومقام معلوم.
ولكنه بين عشية وضحاها ينظر فإذا بهذا كله عنده لا شئ، وإذا يشعر أنه شقي لم يذق مثل شقائه أحد أو يعذب عذابه أحد على الرغم مما يحيط به مما يراه الناس من أسباب السعادة والنعيم إنه ليتقلب على فراشه إذا جنه الليل مسهد الجفنين. ولقد بين أنين المحموم بل لقد يجهش في الظلام كما يجهش الصبى؛ وإنه ليثب من فراشه فيذرع الحجرة حتى يتنفس الصبح. . . وإنه ليجلس إلى مكتبه مطرقاً أو محدقا في الفضاء، لا يفتح كتابا ولا يرفع قلماً؛ وإنه ليعتزل زوجته، ويتكره لأبنائه أو يشيح بوجهه عنهم؛ وإنه ليدفن وجهه ساعات بين كفيه؛ وإنه ليسرع ذات مرة إلى بندقية صيده فيبعدها ويغلق من دونها بابا مخافة أن يقتل بها نفسه؛ وإنه ليترك ما يأتيه من رسائل في غلقها، ولا يحب أن يلقى أحدا من صحابته؛ وإن زوجته لتملئ فرقا وحزنا حتى لتكاد تذهب نفسها عليه حسرات؛ وإن أولاده ليعجبون ولكنهم واجمون. .
ماذا دهاه؟ إن حاله من تلقى ضربة في الظلام تركته يترنح من الألم، وكلما أوشك أن يفيق أخذه دوار فتركه يتخبط
ويهذي، لا يدري متى يعود إليه صوابه. . .
ولكن تولستوي لم يتلق الضربة على حين غفلة، فإنه منذ صدر شبابه تهجس في نفسه أسئلة عن الحياة ومعناها،
والغرض منها؛ ولقد رأينا كيف ألحت عليه هذه الأسئلة وهو في القوقاز وشغلته آماله وأحلامه بالصيت والأسرة
السعيدة؛ كما شغله عمله على تحقيق هذه الآمال، وعمله في التعليم والمجلة والزراعة؛ ولكن تلك الأسئلة كانت
تعاوده بين حين وحين، وهي في كل مرة أشد إلحاحاً عليه منها فيما سلف. . . .
وعظم إلحاحها عليه بعد زواجه فقد كان قبل الزواج بعض ما كان يزيح عن نفسه هواجسها من أمل حلو. فلما
بات الأمل حقيقة ماثلة، التفتت نفسه إلى ما كان يكربها. . .
وظهر أثر تلك المخاوف قويا أثناء كتابته قصتيه الكبيرتين فيما أجراه على ألسنة بيبر والبرنس أندرو وليفن؛ ولقد
خاف ليفن أن يقتل نفسه من اليأس لأنه لا يرى في الحياة إلا العذاب ثم الموت. . .
وكان يصل به الحال أحيانا أثناء كتابته (أنا كارينينا) إلى ما يخيفه ويخيف زوجته كما أسلفنا، حتى لم يعد أكثر من مرة بينه وبين الجنون إلا خطوة، وما زاده التأمل إلا حيرة ولا دراسته الفلسفة إلا تشاؤماً وضيقاً. . .
وواجهته تلك الأسئلة بعد (أنا كارنينا) مواجهة مخيفة وعاد في إلحاح وفي ضيق يقول لنفسه: لماذا؛ ما وجودي وما الغرض منه؟ ما هذا الذي يسمى حياة؟ ولم كانت الحياة؟. قال في كتابه (اعترف) يصف هذه الحال (لقد أخذتني الحيرة حتى لا أدرى فيم أفكر؛ فإذا نظرت مثلا فيما عسى أن أعلمه أولادي قلت لنفسي: وفيم هذا؟ أو إذا فكرت فيما عساه أن ينهض بالفلاحين سألت نفسي: وماذا يعيني من هذا؟ أو إذا ذكرت ما عسى أن أكسبه من صيت بما كتبت قلت: سوف تغدو أبعد صيتا من جوجول أو بوشكين أو شكسبير أو موليير أو من كتاب الدنيا جميعا، فما جدوى ذلك؟ ولم أحر جوابا قط، وتلح الأسئلة على حتى ما تقبل ريثاً؛ فيجب أن تلقى جواباً على الفور؛ فإن لم اجب علها صار مستحيلا على أن أعيش. . . ولكنني لم أجد ما أجيب به. . . وأحسست أن ما كنت أضع عليه قدمي قد ذهب هباء، فليس ثمة ما اقف عليه؛ وما عشت زمانا عليه قد ولى، ولم يبق لي شئ. وبلغ بي الحال أن أصبحت أنا الرجل القوي الثري لا أطيق أن أعيش؛ وصارت تدفعني قوة لا تقاوم لأضع لحياتي حداً على صورة ما. ولست أستطيع القول: إني رغبت أن أقتل نفسي، فإن القوة التي كانت تنتزعني من الحياة كانت أقوى وأشمل وأوسع مدى من أن تكون مجرد رغبة. لقد كانت قوة شبيهة بتلك التي كانت من قبل تربطني بالحياة ولكن في اتجاه عكسي).
ويصور لنا حاله بإحدى الخرافات قال: (هناك خرافة شرقية قديمة عن سائح أقبل نحوه وحش هائج في أحد السهول؛ فلجأ هذا السائح هربا من الوحش إلى جب ناضب، ولكنه وجد في قاع الجب غولاً قد فغر فاه ليلتقمه، ولما رأى السائح التعس أنه لا يستطيع أن يصعد من الجب مخافة أن يلتهمه الوحش الثائر وأنه كذلك لا يستطيع النزول إلى قاعه مخافة أن يلتهمه الغول، فقد أمسك بفرع من النبات انبثق من صدع في الحائط وتعلق به؛ وأحس بالتعب يدب في يديه شيئا فشيئاً، وشعر أنه سوف يسلم نفسه عما قليل لا محالة إلى الهلاك الذي يتربص به من فوقه ومن أسفل منه، ولكنه لن يزال متعلقا بالغصن؛ ثم إنه ما لبث أن رأى فأرين أحدهما أبيض والآخر أسود، وقد دارا حول ذلك الغصن، وأخذا يقرضانه؛ وأيقن السائح أن الغصن لن يلبث حتى يقطع فيسقط هو في فم الغول؛ وبينما يرى ذلك، ويعلم أنه هالك لا محالة، إذ يبصر بقطرات من الشهد على بعض أوراق الغصن فيصل إليها بلسانه ويلعقها. . . وهكذا أتعلق أنا بغصن الحياة، وإني لأوقن أن غول الموت يتربص بي وأنه سوف يمزقني كل ممزق. ولست أستطيع أن أدرك لماذا وقعت في مثل هذا العذاب. ولقد حاولت أن ألعق الشهد الذي كانت لي فيه سلوة من قبل، ولكنني لم أعد أجد في الشهد ما يلذني؛ وما برح الفأران الأسود والأبيض، وهما الليل والنهار يقرضان الغصن الذي تعلقت به، ورأيت الغول في وضوح، ولم يعد للشهد طعمه الحلو. وليس أمام ناظري إلا الغول الذي لا مهرب منه والفأران، ولن أستطيع أن أدير عيني عن ذلك؛ وليس هذا حديث خرافة، وإنما هو الحق الذي لا ينكر والذي يفطن إليه كل إنسان).
لم يجد تولستوي معنى للحياة، فما هي إلا عبث، بل إنها واللاشيء سواء؛ ذلك ما رجع به من طول تأمله ومن طول قراءته شوبنهور وكانت وغيرهما، وذلك ما أجاب به عن تلك الأسئلة التي ظلت سنين تلح عليه وتعذب نفسه.
وهذا اللاشيء هو ما أفزعه، ثم إن انتهاءه إليه بعد طول التفكر هو الضربة التي تلقاها في الظلام والتي تركته يترنح ويصرخ من أعماق نفسه الحائرة: ما هذا؟ أين أنا؟ ولم جئت هنا؟ وإلى أين مصيري؟
لقد اهتدى البرنس أندور إلى الحب كما اهتدى ببير، واهتدى ليفن إلى السمو بالروح الخالدة والعزوف عن مطالب الجسد الفاني، ولكن تولستوي خالقهم لم يهتد إلى شئ، وظل حاله كما كان حال ليفن قبل هداه حين وصفه بقوله (عند ذلك تبين في جلاء أن كل حي إلى فناء وأنه هو نفسه ليس أمامه ما يتطلع إليه إلا الألم ثم الموت، ثم الفناء الأبدي، ولذلك استقر رأيه على أنه لن يستطيع بعد أ، يعيش على هذه الحال؛ فإما أن يجد تفسيراً للحياة أو فليقتل نفسه).
(البقية في العدد القادم)
محمود الخفيف