مجلة الرسالة/العدد 773/الأعلام
مجلة الرسالة/العدد 773/الأعلام
2 - الأعلام
أحمد فتحي زغلول باشا
(في مارس الماضي مضى على وفاة أحمد فتحي زغلول باشا
34 عاماً)
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
ولد أحمد فتحي زغلول في قرية أبيانة بمديرية الغربية في ربيع الأول سنة 1289 هجرية، وكان أصغر أنجال الشيخ إبراهيم زغلول أحد الأعيان البارزين في تلك القرية، ولكنه حرم حنان الوالد وعطفه؛ إذ مات والده وتركه رضيعاً لم تتفتح عيناه للحياة بعد، وكان شقيقه سعد زغلول فطيما، وكانت والدتهما - وهي إحدى عقائل عائلة بركات - لا تزال شابة لا تتجاوز العشرين، فمنحت شبابها لولديها اليتيمين، ووقفت نفسها على تربيتهما تحت رعاية أخيهما الكبير لأبيهما الشناوي زغلول الذي عني بتعليمهما على ما كان معهوداً في تعليم أولاد الأعيان يومذاك، وكان أن نفع الله بالطفلين اليتيمين على خير ما يكون النفع للأمة والوطن، فصار سعد إلى ما صار إليه في زعامة الأمة وقيادتها، وانتهى فتحي إلى ما انتهى إليه، دعامة من دعائم الإصلاح التشريعي والاجتماعي، ومنارة تهدي ركب الأمة إلى سواء السبيل.
ولم يكن أسمه أحمد فتحي، وإنما كان أسمه فتح الله صبري، هكذا سماه والده، وهكذا عرف في حياته الأولى، حتى انتهى من مراحل التعليم في كتّاب القرية، وفي مدرسة رشيد الابتدائية، ثم المدرسة التجهيزية، ودخل مدرسة الألسن وصادف أن زار أحمد خيري باشا ناظر المعارف يومذاك تلك المدرسة، فأعجب بذكاء الشاب فتح الله صبري، وأدهشه ما لمس فيه من نبوغ خارق، فخلع عليه أسم أحمد، ونحت من (فتح الله) أسم فتحي، وهكذا سماه أحمد فتحي، وأصدر أمره إلى المدرسة بقبوله بالمجان، ورد ما دفع من المصاريف إليه، وكانت هذه أول شهادة بالنبوغ لفتحي زغلول. . .
وتخرج فتحي متفوقاً في دراسته، فأرسلته نظارة المعارف سنة 1884 إلى فرنسا لدراسة الحقوق، وقد رجع في سنة 1887 بعد أن حصل على شهادة الليسانس في القانون؛ فعين بقلم قضايا الحكومة، ثم رقي رئيساً لنيابة الإسكندرية، ثم مفتشاً بلجنة المراقبة، ثم رئيساً لمحكمة الزقازيق فرئيساً لمحكمة مصر، ثم اختير وكيلا لنظارة الحقانية، وقد ظل في هذا المنصب حتى انتقل إلى جوار ربه. . .
تلك كانت حياة فتحي زغلول في مناصب الحكومة، وهي حياة يمكن للمؤرخ أن يجملها في سطور، وما كانت حياة الوظيفة في يوم مجال عبقرية ولا مظهر نبوغ، وإنما كان مجال عبقرية فتحي ومجال نبوغه في ناحية الإصلاح التي رادها، والتي رأى في انتهاجها خدمة للوطن ونفعاً للأمة وإفادة لشباب طامح يتوثب للنهوض، وينشد الحياة المهذبة الكريمة. فما هو ذلك المجال الذي اختاره فتحي للعمل، وآثره بجهوده ونبوغه؟
يقول فتحي باشا في كلمة من كلماته: (إن من يخبر حال هذه الأمة ويقف على كنه خلقها، ويعرف جيداً حقيقة خصالها ويدرك الصحيح من آمالها، وينعم النظر في أعمالها، يقتنع بأن التربة زكيه لا يفسد زرعها إلا شيء من البذور الرديئة، وبأن الخلق الكريم يغشاه ستار من عدم العلم التام بالواقع، وبأن الآمال كبيرة شريفة لكنها مشوبة بشكوك وأوهام تطوح بنا يوماً ذات اليمين ويوماً ذات الشمال. أما أعمالنا فثمرة هذا وذاك، نهتاج والسكون واجب، ونلهو وكل النجاح في العمل، وما كان شيء من كل هذا يكون لولا خطأ في تقدير حقيقة حالنا، وعدم التفات إلى حركة البيئة التي نحن فيها، ونسيان لشيء كثير من الماضي ولهو عن الحاضر وعدم اهتمام بما هو آت. ومحال أن تدوم هذه الحال، فلا بد لنا من إعداد العدة اللازمة لهذا التحول، وما هي إلا العلم؛ فإن العلم سلم الأمم إلى الحضارة، وكاشف ظلمات الجهل، ومسدد الآراء، ومنجح كل مجهود، وهو الذي ينفي الضمائر، ويجمع شمل المتفرقين، ويطهر السرائر، ويوحد كلمة المتنافرين، وينير البصائر فيهدينا إلى أن التآزر شرط النجاح، وأن يد الله مع الجماعة، وأن التباغض مجلبة الشر وأن التنابذ سبيل إلى الذلة). . .
هذا هو ما رآه فتحي في تشخيص داء الأمة، وتقدير الدواء لها، وعلى هذا اندفع ينشد العلم الصحيح لشفاء الأمة من دائها. العلم الذي (ينقي الضمائر، ويطهر السرائر، وينير البصائر)، العلم الذي (يقوم الأخلاق ويبصر الأمة بما لها من حقوق، وما عليها من الواجبات)، وبين غسق القرن الماضي، وغلس القرن الحاضر كانت تهز حياة الأمة دعوات الإصلاح المتتالية، فكان الأستاذ الإمام محمد عبدة يدعو دعوة الإصلاح في الناحية الدينية، وكان مصطفى كامل يحمل لواء الوطنية، وكان قاسم أمين يدعو إلى النهوض بالمرأة المصرية، وكانت هذه الدعوات يكتنفها ما يكتنفها من الضجيج والتدافع. أما فتحي زغلول فقد وقف في ميدانه ينادي: (علموا الأمة، علموا الأمة)، وانتحى من ذلك ناحية هادئة، فعكف على التأليف والترجمة، ونقل الآثار النافعة، حتى يقيم من ذلك دعامة للأمة تنهض عليها إلى ما تنشده من الحرية والكرامة وقوة الشخصية.
وكان فتحي زغلول رجل ارتقاء لا رجل ثورة كما يقول أحمد لطفي السيد باشا، وكان يرى أن الوصول في الإصلاح إلى نتيجة مضمونة يقتضي إدراك الحقوق والواجبات؛ حقوق الفرد وواجباته، وحقوق الأمة وواجباتها، ولهذا ابتدأ سنة 1888 على أثر عودته من فرنسا يترجم كتاب (العقد الاجتماعي) لروسو، ولكنه بعد أن قطع فيه شوطاً بعيداً تجاوزه، وأقبل على ترجمة كتاب (أصول الشرائع) لبنتام فأتمه وأصدره بعد فترة وجيزة، ثم مضى في الترجمة والتعريب، فعرب كتاب (خواطر وسوانح في الإسلام) للكونت هانري لأدمون ديمولان، و (روح الاجتماع) و (سر تطور الأمم) و (جوامع الكلم) و (حضارة العرب) لجوستاف لوبون، و (خطاب مصطفى فاضل باشا إلى السلطان عبد العزيز) و (كتاب يورجار في الاقتصاد السياسي)، و (جمهورية أفلاطون) و (القرد ضد المملكة) لسبنسر.
ومن هذه الكتب ما تم تعريبه وطبعه، ومنها ما تم تعريبه ولم يطبع، ومنها ما تركه رهن الإنجاز والإتمام ولا ندري ما صنعت به الأيام.
أما في مجال التأليف فقد ترك (كتاب المحاماة) و (شرح القانون المدني) و (رسالة في التزوير)؛ كما ألف كتاباً (في التربية العامة) فأتمه ولكنه لم يطبع فيما علمت. وهناك كتاب وهو كتاب (حاضر المصريين وسر تأخرهم) الذي ظهر سنة 1902 من تأليف (محمد عمر)، وكتب مقدمته فتحي باشا، فإن بعض العارفين يعزون تأليف هذا الكتاب إلى فتحي زغلول باشا، ويقولون إنه أخرجه على نسق كتاب (سر تقدم الإنجليز السكسونيين) الذي ترجمه، ولكنه لم يضع اسمه عليه إيثاراً للسلامة نظراً لما تضمنه الكتاب من نقد شديد لاذع. . .
وكان لفتحي باشا في التعريب طريقة آثرها وارتضاها. كان يقرأ الكتاب ويأتي عليه جملة، ويتشرب روح المؤلف ويتقمص شخصيته ثم يأخذ بعد ذلك في التعريب. قال أحمد لطفي السيد باشا: (ولفتحي باشا في تعريبه شخصية تامة ممتازة في طريقته وفي أسلوبه البياني. أما نحوه في التعريب فليس هو الالتزام الحرفي للأصل، ولا المجافاة للأصل، ولكن نحوه بين ذلك وسط مرض. وأما أسلوبه فهو عربي خالص لا يعني فيه بفضلة الزخرف والمحسنات اللفظية، ولكنه مع ذلك متين الرصف ظاهر الرشاقة جذاب جداً).
أما شخصية فتحي باشا فكانت شخصية العالم؛ فالهدوء والرزانة، والإخلاص للعمل، وأداء الواجب قبل كل شيء، والابتعاد عن مجال الضجيج والصخب. كل هذه كانت صفاته الظاهرة، حتى أنه لم يكن يرى في ميدان الحياة العامة إلا قاصداً لعيادة مريض، أو مواساة رفيق، أو متوجهاً لرد زيارة، أو مشاهداً لحفلة أنس لا بأس أن يجد فيها شيئاً من الرفاهية، وما عدا ذلك فكل وقته بين الدفاتر والقماطر، والتحرير والتحبير، كأنه كان يتعجل إنجاز مهمته قبل أن تعجله المنية. قال صديقه أحمد لطفي السيد باشا فيما رواه عنه:
(ما أنس لا أنس إذ دخلت إلى فتحي باشا في داره بهليو بوليس في يوم حر ذي لوافح محرقات. دخلت إليه وقت الهاجرة فوجدته على مكتبه، وأمامه أوراقه منثورة، وكتبه مفتوحة، يقرأ ويراجع، ويعرب ويكتب، كذلك دأبه لا ينقطع عند خلوه من عمله الرسمي إلى عمل واحد بعينه، كأن عادته في العدل بين الناس جعلته يعدل في تقسيم فراغه بين المقاصد العلمية المختلفة. أو كأنه يجد في الانتقال من عمل إلى عمل راحة وتنشيطاً. فقلت له: أتلك هي رياضتك في الإجازة وراحتك في حمارة القيظ؟ فقال وهو يبتسم: نعم هذه رياضتي. فخلفته فيما يظنه رياضة، ويتخيله سعادة، وخرجت أحمد الله على أن منا من ينفق صحته وملكاته ووقته في سبيل العالم).
هكذا عاش أحمد فتحي زغلول باشا للعلم، وفي سبيله أنفق صحته ووقته وجهده، وفي عام 1913 م أدرك أهل الفضل مدى ما أدى الرجل في هذه السبيل من مآثر ومفاخر، فأقاموا له حفلة تكريم خطب فيها أعلام القانون والبيان فأشادوا بأياديه وجهوده في خدمة التشريع والعلم، وكم كان الأسف بالغاً إذ لم تمض على ذلك شهور اختاره الله إلى جواره في 27 مارس سنة 1914، فكان الذين اجتمعوا لتكريمه؛ هم الذين اجتمعوا لتأنيبه. ولقد مضت على وفاة ذلك العالم الجليل أربع وثلاثون عاماً وما زالت الثروة العلمية التي خلفها خير زاد يقدم لأبناء الأمة في فترة الانتقال التي يواجهونها، وإن من المؤلم أن تبقى بعض الآثار التي خلفها فتحي باشا ولم يمهله الرحمن حتى يقوم بإذاعتها مطوية إلى اليوم.
محمد فهمي عبد اللطيف