مجلة الرسالة/العدد 771/من ظرفاء العصر العباسي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 771/من ظرفاء العصر العباسي:

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 04 - 1948


1 - أبو العيناء

191 - 283

للأستاذ صبحي إبراهيم الصالح

(في هذا العالم الزاخر بالتناقضات عرش للهزل كعرشه للجد، استوى عليه أبو العيناء منذ بلغ أشده من رد إلى أرذل العمر فمات)

بقي أبو العيناء معروفاً بهذه الكنية منذ اشتهر بين أهل عصره حتى انطوت حياته الطويلة الطريفة. أما اسمه فهو محمد بن القاسم الهاشمي بالولاء؛ لأن جده خلاداً كان من رقيق اليمامة، وكان مولى لأبي جعفر المنصور؛ فقد روي الخطيب في (تاريخ بغداد) عن محمد بن صالح بن النطاح مولى بني هاشم أنه قال: (حدثني أبي قال: طلب المنصور رجالاً ليكونوا بوابين له. فقيل: إنه لا يضبط هذا إلا قوم لئام الأصول، أنذال النفوس، صلاب الوجوه، ولا تجدهم إلا في رقيق اليمامة. فكتب إلى السري عبد الله الهاشمي - وكان واليه على اليمامة - فاشترى له مائتي غلام من اليمامة، فاختار بعضهم فصيرهم بوابين، وبقي الباقون فكان ممن بقي خلاد جد أبي العيناء. . .)

ويبدو أن القاسم بن خلاد والد أبي العيناء لم يطلب له المقام في بغداد، فولى وجهه شطر الأهواز بخوزستان؛ فكان مولد ابنه في كورة من كورها سنة إحدى وتسعين ومائة بعد نكبة البرامكة بسنوات، وقبل وفاة الرشيد بسنتين: فأبو العيناء قد تم الرضاعة حين بويع للأمين بالخلافة بعد وفاة أبيه في طوس، وأضحى في السابعة من عمره لدى مقتل الأمين، ونشأ أحول العين مخضوباً بالحمرة خضاباً ليس بالشبع، فأمضى فيها بقية حداثته وكل شبابه وجانباً من كهولته، في عصر المأمون الذي دام عشرين عاماً؛ فأصبح أبو العيناء في ربيعه السابع والعشرين، ثم في عصر المعتصم الذي بقي ثمانية أعوام فأضحى أبو العيناء في السادس والثلاثين، ثم في عصر الواثق بالله الذي ظل خمسة أعوام فجاوز أبو العيناء حدود الأربعين. ويومذاك اعتلت عيناه فأمسى بعد حوله أعمى بعد مغادرته البصرة إلى دار الخلافة ليقضي فيها أكثر من نصف عمره الطويل.

كان ذكي القلب، هميز الفؤاد، قوي الذاكرة؛ فساعدته هذه المواهب على الإقبال على طلب العلم في صغره، فحفظ القرآن وتعلم الفرائض، وتوفر على دراسة العربية، وبرع في حفظ الروايات والأخبار، حتى أن الدارقطني روى عنه (أنه أتى عبد الله بن داود بن عامر الهمداني الخربي وهو صغير ليحدثه فقال له: نحفظ القرآن؟ فقال: قد حفظته. قال: تعلم الفرائض؟ قال: قد حذفتها. قال: فتعلم العربية؟ قال: تعلمت منها ما فيه كفاية، فامتحنه في كل ذلك فأجاد. فقال لو كنت محدثاً أحداً في سنك لحدثتك)

وهذه القصة قد رواها الخطيب في تاريخه بأطول من هذا وأوضح (ص 172 ج3) وهي إن دلت على شيء فأول ما تدل عليه تصوير صادق لاستعداد أبي العيناء الفطري الذي يؤهله لسماع الحديث وروايته، لولا صغر سنه وحداثته. ولئن ضن الخريبي على الفتى بتحديثه صغيراً فإنه لم يعدم وسيلة للتشجيع؛ إذ وجد متنفساً لرغبته، وإرضاء لنهمه في كتابة الحديث وطلب الأدب لدى أبي سعيد الأصمعي، وأبي عبيدة معمر بن المثتى، وأبي زيد الأنصاري، ومحمد بن عبد الله العتبي، وأبي عاصم النبيل، الذين كان لهم اكبر الأثر في توجيه حياته العلمية.

وفي عهد طلبه للعلم على أبي زيد الأنصاري لحقت به كنيته المشهورة (أبو العيناء)، فقد سأله رجل: (كيف كنيت أبا العيناء؟ قال: قلت لأبي زيد سعيد بن أوس الأنصاري: كيف تصغر عيناً؟ فقال: عيينا يا أبا العيناء فلحقت بي منذ ذاك)

وقد لاحظت - بعد طول البحث والتنقيب - أنه كان منصرفاً إلى العلم الانصراف كله قبل أن يجاوز الأربعين من عمره فلم يحاول الاتصال بالخلفاء والأمراء، ولم يتكسب بالشعر والرواية كما كان يتكسب في عصره أمثاله من الرواة والشعراء. فكن واثقاً أنك لن تقرأ له خبراً واحداً أو نادرة واحدة تتصل بقصر الخلافة؛ لا في أواخر عهد المأمون ولا في شيء من عهد المعتصم. ولم يكن ليحول دون ذلك سكناه بالبصرة؛ فقد كان في مكنته أن يغادرها حين يشاء إلى دار الخلافة عن طواعية واختيار؛ بيد أن انتظر الأقدار حتى أخرجته من منشئه إخراجا، يوم نكب نكبة في أواخر أيام الواثق فحمل على أثرها غليه، فاتصل عفواً بابن أبي دؤاد الذي كان له نفوذ في الدولة كبير. روى أبو العيناء عن نفسه قال: (كنت في أيام الواثق مقيماً بالبصرة، فكنت يوماً في الوراقين بها إذ رأيت منادياً مغفلاً في يده مصحف مخلق الأداة فقلت له: ناد عليه بالبراءة ومما فيه - وأنا أعني به أداته - فاقبل المنادي ينادي بذلك. فاجتمع أهل السوق والمارة على المنادي وقالوا له: يا عدو الله! تنادى على مصحف بالبراءة مما فيه؟ وأوقعوا به. فقال لهم: ذلك الرجل القاعد أمرني بذلك. فتركوا المنادي وأقبلوا إلي وتجمعوا علي ورفعوني إلى الوالي وعملوا علي محضراً، وكتب في أمري إلى السلطان. فأمر بحملي فحملت مستوثقاً مني. واتصل خبري بأبي عبد الله بن أبي دؤاد، فتكفل بأمري والفحص عما قرفت به، وأخذني غليه ففك وثاقي؛ وتجمعت العامة وبالغوا في التشنيع علي، ومتابعة رفع القصص في أمري، فقلت لأبن أبي دؤاد: قد كثر تجمع هؤلاء الهمج علي وهم كثير. فقال: (كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله). فقلت: قد بالغوا في التشنيع علي فقال: (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله). فقلت: إني على غاية الخوف من كيدهم، ولن يخرج أمري عن يدك. فقال: (لا تحزن إن الله معنا). فقلت: القاضي - اعزه الله - كما قال الصموت الكلابي:

لله درك - أي جنة خاف ... ومتاع دنيا - أنت للحدثان

متخمط يطأ الرجال بنعله ... وطأ الفنيق دوارج الروان

ويكبهم حتى كأن رؤوسهم ... مأمومة تنحط للغربان

ويفرج الباب الشديد رتاجه ... حتى يصير كأنه بابان

قال: يا غلام! للدواة والقرطاس. . . أكتب هذه الأبيات عن أبي عبد الله. فكتبت له، ولم يزل يتلطف في أمري حتى خلصني)

ولم يأسف على فراقه البصرة؛ (إذ وجد ماؤها أجاجاً، ووجدها تطيب في الوقت إلي تطيب فيه جهنم) كما وصفها للخليفة المتوكل لما سأله: ما تقول في البصرة يا أبا العيناء؟

لا، لم يأسف على فراغها لولا أن الشقاء هجم عليه، وان الدهر قسا عليه، فأخذ نور عينه!

يومئذ بكى على البصرة وضيائها، ونقم على بغداد وظلامها. يومئذ عرف قيمة البصر بعد أن فقد البصر!

ولكن الصولي - كما في تاريخ الخطيب - يحدثنا عن أبي العيناء حديثا ً لا يخلو من طرافة يصف به الباعث على رحيله عن البصرة، فإنه روى عنه انه قال: (سبب تحولي من البصرة أني رأيت غلاماً ينادي عليه بثلاثين ديناراً يساوي ثلاثمائة دينار فاشتريته.

وكنت أبني داراً فأعطيته عشرين ديناراً لينفقها على الصناع، فأنفق عشرة واشتري بعشرة ملبوساً له! فقلت: ما هذا! فقال: لا تعجل، فإن أرباب المروءة لا يعتبون على غلمانهم هذا. فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعي ولم أدر! ثم أردت أن أتزوج امرأة سراً من بنت عمي، فاستكتمته ودفعت إليه ديناراً يشتري به حوائج وسمكاً هازباً فاشترى غيره فغاظني. . . فقال رأيت بقراط يذم الهازبا! فقلت: يا ابن الفاعلة لم أعلم أني اشتريت جالينوس. . . فضربته عشر مقارع، فأخذني وضربني سبعاً. وقال: الأدب ثلاث يا مولاي، وإنما ضربناك سبعاً قصاصاً. فرميته فشججته، فذهب إلى بنت عمي وقال: (الدين النصيحة) و (من غشنا ليس منا) إن مولاي قد تزوج واستكتمني فقلت: لابد من تعريف مولاتي الخبر، فضربني وشجني! فمنعتني بنت عمي دخول الدار، وحللت ما بيني وبين ما فيها، وما زالت كذلك حتى طلقت المرأة. وسمته بنت عمي (الغلام الناصح)، فلم يمكني أن أكلمه فقلت: أعتق هذا وأستريح. . . فلما أعتقته لزمني وقال: الآن وجب حقك علي. ثم إنه أراد الحج فزودته، فغاب عشرين يوماً ورجع وقال: أقطع الطريق، ورأيت حقك قد وجب. ثم أراد الغزو فجهزته، فلما غاب بعت مالي بالبصرة وخرجت منها خوفاً أن يرجع).

وهذا الحديث الطريف نقله عن الخطيب ياقوت في (معجم الأدباء) وابن حجر في (لسان الميزان) على اختلاف في الألفاظ يعين، وهو - في جملته أو تفصيله - لا يعتبر تعليلاً لتحول أبي العيناء من البصرة كما هو الواقع ونفس الأمر، وإنما هو تعليل فتحوله منها كما شاء هو أن يصوره بأسلوب المتهكم، وعرضه الساخر، في رواية الأخبار.

وكنت أود أن أصل الكتابة بتحليل نفسية هذا الظريف ودراسة أطواره من خلال آثاره - بعد أن عرفت بمولده ونشأته، ومقامه وانتقاله - لولا أني وقفت أمام نص في معجم الأدباء، يدور حول عمي أبي العيناء، فدارت حوله في نفسي عوامل شتى من الشك والارتياب. يفيد هذا النص (أن جد أبي العيناء الأكبر كان يلقي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، فأساء مرة المخاطبة بينه وبينه، فدعا عليه بالعمى - له ولولده من بعده - فكل من عمى من ولد أبي العيناء فهو صحيح النسب فيهم!).

لا أكتم القارئ الكريم أني ما إن قرأت هذه الرواية حتى شممت رائحة الوضع فيها، فقلت في نفسي: إنها لا تخرج عن أحد أمرين: إما أن راويها المعاصر لأبي العيناء المنافس له يريد باختلاقها النيل منه والتعريض به؛ إذ كان له ولدان أبو جعفر وعبد الله، وكلاهما كان بصيراً غير أعمى؛ فهما إذاً دعيان لا يصح نسبهما من أبيهما - وفي هذا قذف صريح في أبي العيناء - وإما أن بعض العلويين المتشيعين الكارهين له الناقمين منه أذاعها بين الناس لا على سبيل المنافسة ولكن على سبيل العداء؛ إذ كانت تبدو منه أحياناً كلمات مقذعة في المتشيعين.

هذا ما جاء في نفسي بادئ الرأي. . إلا إن رواية شديدة الشبه بالنص السابق - في تاريخ الخطيب - قد أراحتني من الشك الطويل، وجعلتني من تغيير حكمي بسبيل، لألتمس الواقعة أي تعليل. يقول أبو العيناء نفسه في هذه الرواية الجديدة: (دعا المنصور جدي خلاداً - وكان مولاه - فقال له: أريدك لأمر قد همني وقد اخترتك له، وأنت عندي كما قال أبو ذؤيب الهلالي:

الكنى إليها وخبر الرسو - ل أعلمهم بنواحي الخير

فقال: أرجو أن أبلغ رضا أمير المؤمنين.

فقال: سر إلى المدينة على أنك من شيعة عبد الله بن حسن، وأبذل له الأموال واكتب إلي بأنفاسه وأخبار ولده. فأرضاه. ثم علم عبد الله حسن أنه أتى من قبله، فدعا عليه وعلى نسله بالعمى. قال أبو العيناء: فنحن نتوارث ذلك إلى الساعة).

فقد اتفقت هاتان الروايتان في تعليل عمي أبي العيناء، بدعاء مستجاب شق حجب السماء، وإن اختلفتا في شخص الداعي أهو علي بن أبي طالب أم عبد الله بن حسن؟ وفي شخص المدعو عليه أهو جد أبي العيناء الأكبر أم جده القريب خلاد؟

ونحن إذا سلمنا بأصل الفكرة المنتزعة من الروايتين نعود من جديد أمام أمرين: إما التصديق بهذه الواقعة - عمى أبي العيناء استجابة للدعاء - على أنها مصادفة تلاقت مع الواقع، وما أكثر ما يتلاقيان وإما اتهام هذا الظريف نفسه باختلاق القصة من أساسها وإذاعتها بين الراغبين في سماع أخباره العجيبة، ونوادره المبتكرة، فرواها هو بلفظ ورواه السامعون بلفظ آخر، وتداولتها الألسن لتكون دليلاً صريحاً على تمكن ملكة الكذب من نفسه، وسيطرتها على لسانه، فإني - كما سترى من قريب - ما عرفت لساناً أحب إليه الكذب من لسانه، ولا نفساً أرضى بما تختلق من نفسه! وقد ترى غير ما رأيت، فتفرض أمراً ثالثاً وهو أن الرواية الأولى موضوعة، وأن الثانية على أبي العيناء مدسوسة. لولا أنك بهذا الغرض نتهم ياقوتاً الحموي بوضع ما لا غرض له في وضعه، ثم ترى الخطيب البغدادي بقلة تحريه وضبطه، مع أنه الحافظ المشهور الذي أجمع علماء الحديث ورجال الجرح والتعديل على قبول آثاره، ورواية أخباره.

وكيفما عللنا سبب عمى أبي العيناء، سنوافق على حوله قبل عماه، وسنؤيد المبرد في روايته عنه (أنه إذا صار أعمى بعد أن نيف على الأربعين وخرج من البصرة واعتلت عيناه فرمى فيهما بما رمى. ثم يستدل المبرد على ذلك بقوله: والدليل على ذلك قول أبي علي البصير.

قد كنت خفت يد الزما - ن عليك إذ ذهب البصر

ولم أدر أنك بالعمى ... تغنى ويفتر البشر!

والخطيب في تاريخه روى هذين البيتين بضمير المتكلم لجمع (كنا نخاف من الزمان. . الخ البيت الأول. لم ندر أنك الخ البيت الثاني) ونسبهما إلى أحمد بن أبي طاهر وهما - على كل حال - علامة تستأنس بها في ان عمى أبي العيناء كان طارئاً في كبره، ولم يكن في الولادة ولا في صغره. ويؤيد هذا محاورة ابن أبي دؤاد لأبي العيناء يوم سأله: (ما أشد ما أصابك في ذهاب بصرك؟ قال خلتان، يبدؤني قومي بالسلام، وكنت أحب أن أبتدئهم، وإني بما حدثت للعرض عني وكنت أحب أن أعرف ذلك فأقطع عنه حديثي! قال أين أبي دؤاد: أما من أبتدأك بالسلام فقد كافأته بحسن النية؛ وأما من أعرض عن حديثك فما أكسب نفسه من سوء الأدب أكثر مما وصل إليك من سوء اجتماعه!)

ويزيدني اطمئناناً بصحة ما ذهبت إليه أن ليس لدينا دليل واحد على أن أبا العيناء عمى قبل الأربعين - فضلاً عن أنه ولد أعمى. والخطيب وابن حجر - وإن كانا قد أوردا خبر عمله بصيغة التمريض - إلا إنهما لم يحددا زمناً لعماه قبل هذه السن ولا بعدها. ثم إنه ليس ضرورياً أن تفهم من عبارة أبي العيناء في رواية الخطيب (نحن نتوارث ذلك - أي المعنى - إلى الساعة) أن كل من تناسل من هذه الأسرة يقضي عليه قانون هذه الوراثة بأن يولد أعمى، فإن الوراثة - كما يصح أن تكون مباشرة - يمكن أن تفعل فعلها بعد زمن يطول أو يقصر: فلنا إذا أن نطمئن إلى رواية المبرد - في هذا الموضوع - ثم لنا أن نحكم بحول أبي العيناء قبل عماه من الروايات الكثيرة المتفاقرة التي نذكر منها على سبيل المثال محاورة لطيفة دارت بين أبي العيناء ومحمد بن خلف بن المرزبان.

قال أولهما للثاني: (أتعرف في شواء المحدثين رشيداً الرياحي قال محمد بن خلف: لا. قال أبو العيناء: بل هو القائل في:

نسبت لابن قاسم مأثرات ... فهو للخير صاحب وقرين

أحول العين والخلائق زين ... لا احولال بها ولا تلوين

ليس للمرء شائناً حول العيـ - ن إذا كان فعله لا يشين

فقال أبن خلف: وكنت قبل العمة أحول! أفمن السقم إلى البلى؟ فقال أبو العيناء: هذا أظرف خبر تعرج فيه الملائكة إلى السماء اليوم. ثم قال: أيما أصلح؟ من السقم إلى البلى أو حال العجوز - أصلحها الله - من القيادة إلى الزنا؟)

هذه رواية معجم الأدباء وشبيهة بها - مع اختلاف في اللفظ يسير - رواية تاريخ بغداد (ص 175 ج3)

والمحاورة فيها إذا ختمت بالدعاية، فقد بدئت بأقوى مظاهر الجد؛ لأن الفخر كان وما يزال حديث النفس. وحديث النفس كان وما يزال مستمداً من أعماق الشعور، والشعور كان وما يزال حاسة الواقع: فليس بغريب أن يستمد فخور بنفسه كأبي العيناء من واقعه ومن نظرة الناس إلى واقعه مدعاة إلى الاعتزاز والتعالي ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

وهنا تبرز جوانب خاصة من شخصية هذا الظريف تبعثنا على أن نؤكد لك أنك ستبحث في طوايا الأدب العربي طويلاً حتى تجد ظريفاً كأبي العيناء يحسن الهزل في جده كما يحسن الجد في هزله، فيمزج بينهما مزجاً يحيرك، ثم لا تدري: أتلتمس من بين غصون شعره أو نثره حقيقة ترضيك، أم خيالاً يلهيك!

فهو مثلاً يريد أن يتغاضى عن حوله بعد إلى تناسي عيبه، ويمعن في اظهارك على بعض ما أورثته الحول من الخيرات، وما حمل إليه من البركات، وما أنقذه من المآزق المحرجات، ويثني على الله هذا الثناء الذي قلما نسمع بمثله ولا من مثله:

حمدت إلهي إذ بلاني بحبها ... على حولي يغني عن النظر الشرر

نظرت إليها والرقيب يظنني ... نظرت إليه فاسترحت من العذر! هذه صورة من هزله في جده، لكن أسلوبه حين دافع عن عماه بعد أن لأخذ الله نور عينيه يختلف من بعض الوجوه عن أسلوبه ههنا، فإنه هناك أدنى ميلاً إلى الجد الذي يتجلى في فخره بنفسه، وفي اعتزازه بلطف سمعه وإرهاف حسه، وفي إعجابه بسلامة لسانه وقوة بيانه، وذكاء قلبه ورجاحة لبه، وصرامته في حماية ذاته من لهو العابثين:

إن يأخذ الله من عينيّ نورهما ... ففي لساني وسمعي منهما نور!

قلب ذكي، وعقل غير ذي خطل ... وفي فمي صارم كالسيف مأثور!

وقد يكون هذا الفخر بأدب كل من يشعر بنقصه من شيء ما! فإذا هو يتلمس الأسباب إلى ستر معايبه بمحاسنه. فيتجاهل الحقيقة المرة ويتفاخر بما عوضه الله من خير. . إلا أن أبا العيناء لا يكتفي بهذا، فلعله لديه ظاهر التصنع، بادي التكلف، وإنما يريد ان يجلو لك نفسه على حقيقتها كما يزعم ثم يشعرك بقيمة تلك الحقيقة، لتقتنع بقوة شخصيته، وهذا ضرب من جده في هزله.

(يتبع)

صبحي إبراهيم الصالح