مجلة الرسالة/العدد 77/الأنتكيرة هم الإنجليز لا الأسبان
مجلة الرسالة/العدد 77/الأنتكيرة هم الإنجليز لا الأسبان
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
هذا هو رأيي في ذلك النص الذي سأنقله بعدعن وزيرنا الخطير لسان الدين بن الخطيب في كتابه (الإحاطة في أخبار غرناطة ج2 ص24) وقد كتبت ذلك في جريدة البلاغ الغراء (8 - 3 - 1351هـ 12 - 7 - 1932م) تحت عنوان (الإنجليز في القرن الثامن الهجري كما يصفهم سياسي مسلم) أما الأستاذ محمد لبيب البتنوني فيرى في كتابه (رحلة الأندلس) إن الأنتكيرة الذين وردوا في ذلك النص من كتاب الإحاطة هم الأسبان. وقد ذكر ذلك في كتابه (رحلة الأندلس ص 160) بدون أن يعنى بتحقيقه أو يخطر بباله انهم أمة أخرى غير الأمة الإسبانية، فيحمله ذلك على العناية بإثبات رأيه، بل ذكره كأنه قضية مسلمة، وأمر مفروغ من صحته.
وقد قرأت كتاب الأستاذ البتنوني من شهور، ومن يوم أن قرأته وأنا أحاول أن أبين له صحة ما ذهبت إليه في (الرسالة) الغراء، فيحول بيني وبين ذلك اشتغالي بغيره من أمور عنيت بها قبله، وهاأنذا اليوم امضي فيما عزمت عليه من ذلك، ولا أحاول به أن انتقص شيئا من فضله، فان فضله اكبر من أن تؤثر فيه زلة من زلات القلم، ولكل جواد كبوة.
ذكر لسان الدين في كتاب الإحاطة من حوادث سنة 767 للهجرة إن بطرة بن الهنشة ملك أسبانيا حينما غلبه أخوه القمط على الملك التجأ إلى ابن صاحب (الانتكيرة) المعروف ببرقسين، وبين أول أرضه وبين قشتالة ثمانية أيام، فأعانه بجيش ذهب معه إلى إسبانيا، فحارب به آخذاه حتى غلبه واسترد ملكه، وقد رأى لسان الدين بن الخطيب حرب هذه الأمة الجديدة (الانتكيرة) أو سمع به فلفت نظره إليها وجعله يلقي فيها نظرة سياسي صادق الفراسة قد شاهد أفول نجم أمته في تلك القارة، فوقف ينظر من بعيد إلى من يخلفها فيها فأعجبه حال هذه الأمة الناشئة في حروبها واخلاقها، واخذ يوازن في ذلك بينها وبين أمة العرب في نشاتها، وكاني به كان يقدر لها مستقبلا مثل مستقبلها، وحكما متسعا في الأرض مثل حكمها، وقد صدقت فراسته في هذه الأمة، وأدت بها أوصافها التي أعجبته منها ولفتت نظره إليها إلى ما يقدر لكل أمة تتحلى بهذه الاوصاف، وتتجمل بتلك الشيم، وهذا هو الذي قاله فيها: (وحال هذه الأمة غريب في الحماية الممزوجة بالوفاء، والرقة و بالنفوس في سبيل الحمية عادة العرب الاول، واخبارهم في القتال غريبة من الإسترجال والزحف على الإقدام أميرهم ومأمورهم، والجثو في الأرض أو الدفن في التراب، والاستظهار في حال المحاربة ببعض الألحان المهيجة، ورماتهم قسيهم عربية جافية، وكلهم في دروع، ولا لجام عندهم، والتقهقر مقدار الشبر ذنب عظيم وعار شنيع، ورماتهم يسبقون الخيل في الطراد، وحالهم في باب التحلي بالجواهر وكثرة آلات الفضة غريب).
فهذه أوصاف تنطق بنفسها إنها لامة غريبة عن ارض الأندلس ومن فيها من نصارى ومسلمين، هذا إلى ان التاريخ الإنجليزي قد ورد فيه ما يؤيد رواية ابن الخطيب من ذهاب ذلك الجيش منهم إلى ارض الأندلس في الزمن الذي عينه ابن الخطيب له، فقد بلغت هذه الأمة في أوائل القرن الرابع عشر الميلادي (القرن الثامن الهجري) درجة عظيمة من التقدم السياسي والحربي على عهد ملكها (إدورد الثالث) وكانت له حروب كثيرة مع الفرنسيين انتصر فيها عليهم، وبينما كانت جيوشه تفعل ذلك مع فرنسا بقيادته، كانت زوجه تقود جيشا آخر حاربت به اسكتلندا وأسرت ملكها، ثم جهزت جيشا آخر سارت به إلى إسبانيا. فحاربت الأسبانيين وهزمتهم، وهذه هي الغزوة التي ذكرها لسان الدين ابن الخطيب في سنة 767هـ لان مدة ولاية أدورد الثالث على إنكلترا كانت بين سنتي (1327 - 1376م)، وهذه السنة الهجرية تقع في هذه المدة.
فهذا ما يؤيد رأينا من الناحية التاريخية، وأما الناحية اللغوية فهذا الاسم (الانتكيرة) من الأسماء التي أطلقها مؤرخو العرب على أمة الانجليز، ولم تخل من بعض تحريف لبعد ديار هذه الأمة عنهم، وما كانت فيه من عزلة بجزرها عن غيرها من الأمم، ولم يبتدئ تاريخ الأمة الإنجليزية إلا في نحو سنة ستين قبل الميلاد، وكانت جزائرها تسمى عند الرومانيين (بريطانيا) وكانوا يسمون سكانها بريطون، وقد فتحوها سنة 83 بعد الميلاد، ثم استقلت هذه الأمة بجزرها في أوائل القرن الخامس الميلادي، فقامت فيها حروب وفتن كثيرة مزقت شملها وأضعفتها، ولم تزل مضطربة بالحروب الداخلية وغزوات المجاورين لها، إلى أن استولى عليها بعض الجرمانيون، فطردوا سكانها الأصليين إلى الأقاليم المجاورة لها، ثم فتحها (اغبرت) سنة 823 ميلادية، وجعل نفسه ملكا عليها، وهو أول ملك قام بها، وكان يلقب نفسه ملك انكلتيرة.
وقد عرف المسلمون هذه الأمة بعد الرومانيين، إلا انهم لم يتصلوا بها ولم يعرفوا أمرها تمام المعرفة، وكان هذا سببا فيما وقع من اضطرابهم في اسمها، فسماها قدماء مؤرخيهم (الانكتار) وبعضهم كان يسميها (الإنكليز) ولعل كلمة (الانتكيرة) في ذلك النص الذي نقلناه عن لسان الدين بن الخطيب عن هذه الأمة محرفة عن هذه التسمية (الانكتير) بتقديم التاء على الكاف وزيادة التاء المربوطة التي زادها بعضهم بعد ذلك على هذا الاسم كما سيأتي.
ثم ذكر صاحب كتاب (الروضتين في أخبار الدولتين) هذه الأمة باسم (انكلتيرة) وكان المسلمون قد اختلطوا بهذه الأمة في الحروب الصليبية فعرفوا حقيقة اسمها وأضافوا إليه اللام التي كان يسقطها قدماؤهم منه، وصاحب كتاب الروضتين هو ابو محمد عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي المتوفى سنة 665هـ وكتابه في أخبار الدولة الاتابكية والدولة الأيوبية.
وقد ذكرهم بعد هذا في أواخر القرن الحادي عشر الهجري باسم (الإنكليز) صاحب كتاب (المؤنس في أخبار أفريقية وتونس) وهو أبو عبد الله محمد بن أبي القاسم وقد ذكر فيه أخبار هذا الإقليم إلى سنة 1092هـ والإنكليز سمك كالحية يكثر في البحر الذي توجد فيه الجزائر البريطانية فسموا هذه الأمة باسمه، ويسمى أيضاً الانكليس والجنكليس، ولم يسم هذه الأمة من مؤرخي العرب فيما اعلم بالاسم الذي كان يسميها به الرومانيون إلا صاحب كتاب (صبح الأعشى) فقد ذكرها باسم (بريطانيا) ولم نجد من سماها بهذا الاسم غيره.
فهذا هو رأينا فيما ورد في ذلك النص من أخبار أمة الانتكيرة. ولعل الأستاذ البتنوني يعلم في ذلك ما لا نعلم فينشر ما عنده فيه على صفحات الرسالة الغراء لنصل في ذلك إلى الصواب الذي هو غايتنا جميعا.
عبد المتعال الصعيدي