مجلة الرسالة/العدد 769/من مذكراتي اليومية:
مجلة الرسالة/العدد 769/من مذكراتي اليومية:
قصة فتاة
- 6 -
يوم الأحد 29 يوليو سنة 1945:
أخذت الفتاة منذ يوم الكرسال تطاردني بالتليفون ثم بالرسائل ثم بالرسل تريد أن نتلاقى في شرفة فندق من الفنادق الكبرى، أو في مقصف حديقة من الحدائق العامة، فكنت أجيبها بالمعاذير، أو أعللها بالمواعيد، أو أدافعها بالمطل، حتى لجأت آخر الأمر إلى الخديعة فادعت أنها ملت حياة المدينة، وحنت إلى حياة الريف، وأنها تود أن تلقاني لقاء الوداع لأنهج لها الحياة التي تحياها في العزبة، وأنتقى لها الكتب التي تقرأها في العزلة، وأعين لها الغاية التي تتوخاها في المستقبل. فقلت لنفسي المرتابة: ولم لا يجوز أن يكون الله قد كشف للفتاة عن بصيرتها، وأراد للشاردة أن تعود إلى حظيرتها؟ ثم واعدتها السادسة من هذا اليوم في شرفة الكنتنتال. فلما التقينا أخذت تبتدئ في العتاب وتعيد، وتلوم على الصدود وتحتج، وتعبر عن الشوق وتبالغ، وأنا قبالتها هادئ النفس، رزين الشعور، أسمع عتابها ولا أعتذر، وأقبل احتجاجها ولا أعترض؛ حتى إذا قرت الفورة وسكنت الريح قلت لها وقد لاحظت أن لسانها قد طال وأن احتشامها قد قل: أرجو أن تكوني قد سئمت الجبل ولما يلقك الذئب يا بلانكيت!
فضحكت الفتاة بملء فيها، ثم قالت: أوه! أنا أسأم الجبل؟! لقد وجدت فيه حرية نفسي ومتاع قلبي؛ أما ذئابه فقد تألفتها حتى صارت كلاباً، وأما نموره فقد رضتها حتى عادت هررة.
- إذن ما هذا الذي تزعمين من أنك عزمت الرجوع إلى العزبة؟
- ماذا أصنع؟ جربت الصدق في استدعائك فأخفق، فقلت أجرب الكذب!
- أظنك تذكرين أني عينت مكانك مني في حديث سبق، فوضعتك في موضع البنت أو الأخت أو التلميذة. ولكنك عققت الأب، وجحدت الأخ، وعصين المعلم! فماذا عساي أن أملك لفتاة ركبت رأسها وظلمت نفسها وأنكرت حجاها؟ - تملك أن تكون لها الصديق الذي يضاعف سرورها ويحفظ سرها؛ وتملك أن تكون لها الفنان الذي يرضى شعورها ويفهم شعرها. إن لروحي ما لجسدي من الرغائب والمتع؛ وقد أجد ما يلذ النفس والجسم في ملاهي القاهرة وأفاكيه الناس، ولكنني لا أجد ما يلذ العقل والروح في غير لقائك والحديث إليك.
لقد كنت وأنا في العزبة كلما أحسست أن هواي يستبد، وخطاى تتعثر، وخطاياي تثقل، كتبت إليك بما أعتزمت أو أجترمت، فأشعر بما يشعر به المسلم الذي تاب إلى الله فغسل بتوبته ذنبه، أو المسيحي الذي أعترف للقسيس فمحا باعترافه خطيئته.
كذلك وأنا هنا أحس بأثقال نفسي تهبط قواي، فأنا أريد أن أخفف منها بالاعتراف لك بها. وقديماً قالوا: لا ذنب لمن أقر، والاعتراف يهدم الاقتراف.
ثم استمرت الفتاة تقول دون أن تنتظر تعقبي على كلامها أو موافقتي على استرسالها:
ظفرت من أختي وزوجها بالحرية التي لا تحفل التبعة ولا تبالي المراقبة؛ ووجدت في أبنة أختي وصواحبها النمط الذي تجمعه وحدة الهوى وتملكه شهوة المغامرة؛ فالخروج غير مقيد بسبب، والرجوع غير محدد بزمن، والبيت كالفندق يجتمع فيه أهله للأكل والنوم ثم لا يسأل أحدهم الأخر أين كنت ولا متى جئت!
خرجت أول ما خرجت مع زوزو أبنة أختي إلى معارض الأزياء ومحال الزينة في شارع فؤاد؛ وكنا ساعتئذ في الضحى، والشبان يملئون طوارئ الشارع كأنما كانت المدارس في إضراب أو عطلة؛ فمشينا مشية العروس في ثياب الربيع ووشية، نقف هنا ونميل هناك، ونستحسن هذا ونستفتح ذاك ذاك، وزوزو تلمح اللمحة أو تبسم البسمة فتكون مغناطيساً يجذب القلب الحديد ويوهن الإرادة الصلبة. ثم ألتفت فإذا وراءنا أفراد وأزواج من الأيفاع والشبان والكهول، يوقعون خطاهم على ما نرسم، ويرهفون آذانهم لما نقول. فنبهت زوزو، فقالت أعلم! ثم مالت بي إلى معرض (شملا) فأخذنا نقلب النظر في معروضاته من وراء الزجاج، حتى وقع في اسماعنا صوت رقيق يدعونا إلى نزهة في (كرزلر)، فتشاغلنا فكرر، ثم تجاهلنا فأشار إلى العربة، فسرنا بجانبه صامتتين شامختين كأنما كنا ننتظر سواقنا ليرجع بنا في عربتنا إلى المنزل!
كان للفتى رفيق ينتظره في مكان القيادة من السيارة؛ فلما رآنا هش بوجهه ورحب بلسانه؛ ثم فتح الباب، فركبنا نحن الأربعة إلى الجزيرة الشاي، فشربنا بالأكواب الصغيرة، وأكلنا في الصحون الكبيرة؛ ثم ساعدنا المعد على الهضم بجولة في الحديقة خرجنا فيها قليلا عن المألوف من المزح والدعابة. حتى إذا فثر الحر وهبت نسمات الأصيل، ذهبنا نستنشق أنفاس الصحراء من وراء (مينا هاوس)؛ ثم عدنا فقضينا الهزيع الأول من الليل في سينما (ديانا)؛ ثم رجعنا في كرزلر بعد العشاء إلى البيت، فوجدنا الصالون قد أخذ زينته بمن حضرن من صواحب زوزو، وكن يقضين ساعة أنتظارنا في العزف والقصف والرقص. فأخذنا مجلسنا بينهن، وأخذت كل واحدة منهن تنشر على الأخريات خوائن عينها ودفائن صدرها، فاستنتجت من جملة أحاديثهن وحوادثهن أنهن يغامرن إما طلباً للزواج، وإما رغبة في المال، وإما أبتغاء للهو، وإما حباً للزهو؛ فاللائي يطلبن الزواج يتعرضن للشباب أو الأعز اب، يترصدنهم في كل طريق، ويتصيدنهم بأي وسيلة. واللائي يرغبن في المال يتوخين الكهول والشيوخ، فيبذلن لهم ظواهر اللذات أو بواطنها أبتغاء الهدايا من ثياب وزينة وعطر. واللائي يبتغين اللهو يخترن ذوي الوجوه الحسان والطباع الفكهة، فيساقينهم كأساً بكأس، ويبادلنهم متاعاً بمتاع. واللائي يحببن الزهو ينشدن أولى الجاه والنعمة، فيراكبنهم في العربات الفخمة، ويجالسنهم في الحفلات العظمى. وهؤلاء جميعاً قد ينجحن، إلا طالبات الزواج فإنهن بالتجربة يخسرن حيث يرجون الربح، وينقصن حيث يبتغين الكمال.
تركت زوزو تذهب إلى موعد الشابين في عصر اليوم التالي ومضيت وحدي إلى مواطن الفتنة ومزالق الصبي لشعر بعزة الأستقلال، وأنعم بلذة المغامرة. فما كان أدهشني حين علمت من نفسي أني فتانة بالطبع، خداعة بالفطرة، ألحظ فيصبو الشيخ، وأفتر فيخيف الحليم، وأشير فيعنو المتكبر، وأطلب فيسخو البخيل؛ وأقلب في كفي النفوس والقلوب فلا أجد نفساً تتأبه عن ضراعة، ولا قلباً يتأبى على أمرأة!
أولعت على الأخص بتجار الكلام من المحامين والصحفيين والممثلين، لأنهم يحسنون الحديث، ويجيدون الكتابة، ويحملون الواقع. وقد أغويت منهم حتى اليوم أربعة عشر رجلا بين شاب وكهل، وغني وفقير، وكيس وأحمق! وسأقص عليك حديث كل منهم لتعلم كيف يجعل الله من الرخاوة سلطاناً ومن الضعف قوة. فقلت لها وأنا أصفق للنادل وأتهيأ للقيام: حسبي يا أبنتي! لقد رأيت العينة وسمعت البينة. وما أحسبك تذكرين هذه المخازي لتندمي عليها وتتوبي منها؛ إنما تذكرينها كما تذكر العاشقة ما جرعت من رحيق الحب لتلتذ؛ وتجترينها كما تجتر بلانكيت ما أكلت من زهور المرج لتهضم. لا يغرنك يا مسكينة أنك لقيت أربعة عشر خروفاً في السهل وزيادة، فإنك عما قليل ستلاقين ذئباً واحداً في الجبل وكفى!
(النهاية في العدد القادم)
أحمد حسن الزيات