مجلة الرسالة/العدد 768/الأدب الماجن وأثره في نكبة فرنسا
مجلة الرسالة/العدد 768/الأدب الماجن وأثره في نكبة فرنسا
للأستاذ يوسف البعيني
منذ خمسين عاماً على التقريب لمع في سماء الغرب كاتب من أوسع كتابه ثقافة، وحكيم من أعمق حكمائه فكرة - هو الأديب الفرنسي المشهور رومان رولان الذي لا يجهله أحد من قراء الأدب العالمي الحديث.
ومما طالعته لهذا الكاتب الخلاب مقالة مطولة فيها نكبة فرنسا في الحرب الأخيرة وانتهى في تحليله إلى نتيجة فلسفية رائعة أن الأمم الضعيفة الأخلاق الماجنة التفكير في أدبها وحياتها، يتسرب إليها الخمول والاستسلام تسرب الانحلال في الشجرة لنخرة. فإذا لم تتلاف الأمم هذا الداء الوبيل قاضية على جراثيمه الفتاكة إلى الانقراض على ما يذكر التاريخ.
لقد أصاب هذا المصلح الكبير في تحليله. فهذه أمم الأرض وهي بين منقرضة هجرتها الحياة وخاملة يواكبها الفناء، نرى أن الضعف الأخلاقي والأدب الماجن المستهتر والانغماس في أقذار الدعارة كانت السبب الأهم في انهيار صولتها، وانطفاء أنوارها، وانطواء أعلامها في ساح الجهاد.
ذكرني وقال رومان رولان بما قرأته من أعوام للبحاثة الأسباني (أسين بالسيوس) عن تأريخ الشعب الفارسي وقد عزا سقوط الفرس، بعد أن دوخوا الأمصار واستظهروا في مختلف مرافق الحياة، إلى الضعف الأخلاقي الذي تمشي في آدابهم وضروب معيشتهم مثبتاً صحة كلامه بشواهد عديدة تشير كلها إلى أنواع الدعارة والفحشاء والانحطاط النفسي التي تمرغوا في أوحالها مستهينين في إرضاء حواسهم البهيمة بهدم كل قانون سام ونظام اجتماعي. ومن شواهده التي أودعها كتابه المذكور هذه الدعوة الوحشية وقد شاعت في عصرها شيوعاً عظيماً وهي للحكيم (شنهار). وفيها يقول:
(الويل كل الويل، لمن يكفر بالخمرة واللذة المصحوبة بنوبة من الذهول. فإن جزاءه الجحيم إذ تكوى روحه الشريرة بالنار، وتقطع أطرافه وأوصاله بالسكاكين والكلاليب، ثم يقذف في بئر من الدم طعاماً للأفاعي والغيلان. أما الذي يقبل على تقديس الخمرة واللذة فطوبى له إذ ينال رضي خالقه فيعيش سعيداً، ويموت سعيداً).
وهذه دعوة ثانية للشاعر (سنطور) الملقب بالعطار الفارسي وقد لاقت إقبالاً كبيراً عند خاصة الفرس وعامتهم:
(ملت إلى شفة الكأس الصينية المزخرفة
لارتشف منها ما ينبه حواسي الجسدية
وبينما الشفة على الشفة،
همست شفتيها الرطيبة:
اشرب ما دمت حياً
فاللذة ستفقدها بعد حين وعندها تمسي الحياة بلا جمال)
وزاد العلامة الأسباني على أدلته البليغة في كتابه قوله: إن الشعب الفارسي لم يرض بالذل والهوان، ولم يألف الانكماش والتواني إلا بعد أن فقد أخلاقه في أدبه واتجاهات حياته. هذه حقيقة ناصعة لا تقبل التأويل والاعتراض؛ لأن انحطاط الأخلاق فاتحة لتضعضع الأفراد والجماعات وهو أشد خطراً على المجتمع من الضعف المادي نفسه. وما أصدق كلام الشاعر العربي:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
وهوت الدولة الفرنسية في الحرب الخيرة أمام عدوها التاريخي اللد، فلم تغن عنها حصونها المنيعة ولم يجدها نفعاً جيشها المدرب. وغدت باريس - عاصمة النور - مسرحاً لعدوها المنتصر الذي طالما حلم بانتهاك تلك المدينة العظيمة التي ارتفعت تحت سمائها الصافية تماثل الجبابرة ودور العلم والاختراع ومتاحف الفن والجمال، وكلها تحتفظ بالذكريات الخالدة خلود الدهر.
وقد تبارى فريق من أمراء اليراعة في تشخيص هذه الفاجعة وتحليل أسبابها فقال أندريه موروا الكاتب العالمي أن تفكك بلاده كان سببه قلة السلاح. وأكد جول رومان صاحب المؤلفات القيمة في علم النفس أن تدهور أمته يعزى إلى خمول الساسة وزيغ أصحاب المقامات العليا. ونسب جاك ماريتان وشارل مورا وسواهما من انصار الملكية إنكسار الامبراطورية إلى الاشتراكية وغيرها من الآفات. . . ما خلا الحكيم الكبير والمصلح الاجتماعي رومان رولان فقد خالف أقرانه وجلا بوضوح وجرأة نكبة الشعب الفرنسي وأسبابها التي مهد لها الضعف الأخلاقي الذي تمشى في الأوضاع الاجتماعية والأدبية بعد الحرب الأولى قاضياً على عزة النفوس، وأمسى الرجل المسئول لا يفكر إلا في قضاء شهواته الحقيرة!
فهل صحيح قول هذا الحكيم؟
إن من تدبر الأدب الفرنسي الحديث الذي ظهر بعد أن عصفت زعازع الحرب الأولى على العالم مكتسحة من الحياة كل ما يجمل الحياة. . ويقر بحقيقة ما يقوله هذا المفكر البصير الذي عالج قضايا المجتمع في كتابه (جان كريستوف) بما لم يعالجه قبله أحد من كتاب الغرب. وحسب القارئ أن يقابل بين إنتاج أعلام الماضي وأدباء اليوم حتى يدرك موطن الحق وإن يكن جارحاً، ويحبس موضع الداء وإن يكن مؤلماً.
وعندي أن هذا النوع من الأدب الحديث هو الذي جنى على الأمة الفرنسية إذ أفسد أخلاقها وأمات فيها تقديس الكرامة وتلك النزعة إلى الحرية التي اشتهرت بها على مدى العصور. وأنا لم أقرأ رواية من هذه الروايات الماجنة المستهترة التي ظهرت بعد الحرب الأولى إلا رأيت الحب الجنسي والميول الساقطة تكاد تكون كل شيء، فلا يستوقف المطالع من شؤونها الطويلة العريضة سوى تصوير أمور شاذة معيبة يندى لها الجبين حياء وخجلاً لأنها تحمل في طواياها العفونة والفساد مع الإغراء الفاضح المتهتك. . .
وأكثر من شط هذا الباب زعماء مذهب (اللاوعي) الذي يلاقي اليوم أكبر تأييد في الشرق العربي وعلى الأخص في لبنان. ولزعماء اللاوعي شبه جنون في درس المسائل الجنسية فلا يرون في العالم شيئاً خلافها يستحق الاهتمام، وهكذا لا تجري أقلامهم إلا بوصف الشهوات وتفاعيلها وبكل مثير للأهواء ودوافع إلى الاستهانة بضوابط النفس والنظم الاجتماعية.
إليك مثالاً من هذا الأدب وهو للشاعرة (جان فالكر):
(لا أريد النوم!
إذ في النوم غفلة القلب، وغياب الحب، وحياة تمر ضياعاً قد أطوق ذراعي وأنا نائمة، ولكن فمي لا يقول للحبيب: اقترب
ومتى غرقت في سبات عميق تسكن همومي فلا أعود أشعر باللوعة تضني قلبي وتحطم جسدي. لذلك لا أريد النوم!
إني أحب آلامي الشديدة التي تضغط على كل شيء فيّ
أحب ساعات اليأس يسود فيها الجنون فتخور عزيمتي، وتضيع أنفاسي، وتتلاشى قواي
أحب الاستسلام إلى كل أنواع العذاب، لأنني بعد مجيء الصباح، أتلذذ بذكرى ما جرى لي تحت سدول الليل، لذلك (لا أريد النوم).
وإليك مثالاً ثانياً وهو للشاعرة (ماري درمار):
(كم فكرت عندما أكون بعيدة عنك قائلة في نفسي: - أي سر فيه يجذبني إليه؟ إنه ليس فتى جميلاً.
بل هو متسلط، قاس بمظاهره العنيفة!
كم قسوت علي بشراسة، وكم آلمتني حاملاً إلي العذاب بحبك الوحشي.
نعم لقد ملأت حياتي بالعذاب. ولكي أتخلص منك، أريد أن أبغضك.
ولكنني أشعر تحت تأثير قبلاتك الطائشة أنني ملكك إلى الأبد. . .)
وهاك مثالاً ثالثاً وهو للشاعر بول فرلين:
(وقفت أمام رسمه الجميل وقد لوى عنقه العاجي إلى اليمين
فعاودتني منه ذكرى ليالينا المبطنة بالآهات والدموع والغرام - وقد ذوى ربيعه، ما زال يئن في القلب قيثاره. والنظرة السارحة ألقيتها البارحة على جدث يضم رفاته الذي أمسى طعاماً للديدان.
وآهاً - كيف تعرى غصنه
حب تنوح في الدجى أشباحه
أهكذا يتلف الموت أعيادنا
ويغيَّب في الثرى أحلامنا
فيسمى بعد زهو المنى شبابنا ترابا
ويكفن النسيان بكفه العاتية،
ذكرياتنا الصَّباح العِذاب. . .
نظم فرلين هذه القصيدة بعد وفاة (صديقه) أرتور رامبو صاحب عدة مؤلفات شعرية وبينها ديوان (الزورق السكران) وقد تمكنت بينهما علاقات مريبة شاع خبرها في أوربا ثم انتهت في عاصمة بلجيكا بعد حادثة مشؤومة لا تزال وقائعها محفوظة طي إضبارة في المكتبة الملكية بتلك العاصمة. وأنا ما جئت على ذكر هذين الأدبيين إلا لأقول أن أتباعهما منتشرون في الغرب انتشار الدمامل الخبيثة. ففي أسبانيا تزعمهم الشاعر غرسيا لوركا الذي ذهب ضحية فرنكو في الثورة الأسبانية الأخيرة وقد ترك آثاراً يندى لها جبين الشعر. وفي البورتغال يعد أنطونيو يوتو في طليعتهم. أما في البرازيل فيعرفون باسم (الاعتزاليين) وهم أكثر من هموم إبليس. . . لكن المحيط البرازيلي الراقي يواجههم بالنقد القاسي والتقريع الصارم.
وهذا المذهب العاطل بما فيه من تفكك أخلاقي مهيض لأجنحة الشعر يقوم على التغزل بالرجل دون المرأة. والتغزل بالغلمان عرفه الفرس والعرب في عصر الانحطاط.
على أن ما يحيط بهذا المذهب المغري المشوق من صور ورؤى تموج في ظلال وألوان زاهية حيناً وقاتمة أحياناً وقع من نفوس أنصاره موقع التأييد والاستحسان فحسبوا غموضه إلهاماً علوياً وإباحيته فما غريباً. وفي المحاضرة التي ألقاها الأديب الكبير بول فالري عن فرلين برهان أكيد على شذوذهم وقد جاء فيها ما يأتي:
(إن السلوك الشاذ، والصراع مع الحياة القاسية، وسكنى السجون والمستشفيات، والعربدة المتصلة، ومخالطة الأدنياء، وحتى الإجرام نفسه - كل ذلك مما يلتئم والإنتاج الشعري الرفيع. والحق أن الشاعر ليس رجلاً اجتماعياً بالمعنى المعروف لهذا الاصطلاح، فما دام الشاعر شاعراً فلن يستطيع أن ينتظم في أية هيئة من الهيئات التي تنشد مصلحتها من طريق الحرص على الخلاق والقانون، فالقوانين المدنية تلفظ أنفاسها على عتبة شعره).
ويضيق بي المجال إذا جئت أعرض لكل ما هنالك من شؤون وعبر. ولكنني بإيراد مثال واحد وهو للشاعر بول جيرالدي صاحب ديوان (أنت وأنا) الذي قال عنه الفنان والفيلسوف الأسباني المشهور ميكال أوناموتو إنه من أحط ما نظمه الشعراء.
وهاته:
(وكنا اثنين، في الغاب مجتمعين، تحجبنا أشجاره عن أعين الرقباء، فإذا ساقية تسير مترنحة، وبلبل على الأغصان يغني.
كأنهما من صدى قبلاتنا ثملان. . . مترنحان.
قلت لرفيقي - وقد غمرته نشوة الحب - أمن قوامك الأهيف، ومن شفتيك الورديتين، تمتد رعشة سحرية في الغاب وفي الأشجار، في المياه والأطيار، وفي كياني المعذب بوخز الغرام!
غرام طام كالسيل، مستعر كالنار؟
وعلى هذا النسق المتعاظل يكتب الأدباء المعاصرون كتبهم ورواياتهم ويظنون أنهم يخدعون أمتهم المسكينة التي هوت إلى حضيض الهوان فكانوا هم الجانين عليها كما يقول رومان رولان كبير مفكريها في هذا العصر. وأنا حتى لا أتهم بالتحامل والخروج على الأمة التي أحببتها ووقفت على أدبها وتاريخها كأبنائها الحقيقيين أورد فيما بلى رأي أسطفان زويك الناقد العبقري المشهور في أدباء فرنسا المعاصرين وهو: (إن أدباء فرنسا الذين لمعوا بعد الحرب الكبرى متأثرين بمذهب عار من الخلق السامي الكريم والتصور الذي لا حدود له سيجرون المثل العليا إلى الهاوية. وإني آسف الأسف كله لمصير الشعب الذي سطر في التاريخ البشري أروع الصفحات وأمجدها).
وأورد أيضاً رأي الرئيس مازاريك الذي تمتع في حياته بزعامة الأدب والسياسة وقد أدلى به إلى الوزير لويس بارتو عندما زار تشيكوسلوفاكيا في عام 1933 وهو: (إن أبطال قصصكم الجديدة عامة تحركهم الشهوات الوضيعة والحب الجنسي الشره. ويمكنكم أن تتأكدوا أننا قد مللنا، بل قد اجتوينا هذا الضرب المأفون من الروايات العاطلة السقيمة التي لا تطالعنا فيها سوى امرأة سليطة يحبها اثنان أو ثلاثة عدا زوجها (الصنديد) الذي تخدعه بشتى الحيل. وهكذا في دائرة بغير انتهاء. فهل هذا هو الفن الكتابي الرائع الذي اشتهرتم به على مدى العصور؟ ذلك لا يمكن أن يكون بل هو زيغ وكبوة في الأدباء المعاصرين، فإذا لم تقضوا على هذا الداء الوبيل دفعتم غالباً ثمن تهاونكم في المستقبل.
إن تحت قباب قوس النصر ووراءستائر البانتيون عيوناً تحدق. فحذار من تلك النظرات المخيفة، حذار منها!!)
ولقد صدق الرئيس مازاريك رحمه الله في نبوءته وأدى الشعب الفرنسي ثمناً فاحشاً لقاء رضاه عن ذلك الأدب الماجن المخدر. فهل في نكبة فرنسا درس لنا أفراداً وجماعات؟ عندما حمل المصلح الاجتماعي الكبير المرحوم أمين الريحاني على الأدب المائع السخيف لم يكن يقصد في حملته الصادقة إلا الأدب الماجن المستهتر الذي نشره في لبنان بعض الكتاب والشعراء من أنصار مذهب (اللاوعي). وقد أحسن الريحاني الفيلسوف أيامئذ إلى أمته الصغيرة التي لا تملك من مفاخر الحياة سوى خلقها العالي المتين، والأمة التي تخسر خلقها تخسر كل شيء.
إن نكبة فرنسا درساً بليغاً لكل من ضعف خلقه وانحط تفكيره. ولو أن هذه الأمة اختطت لنفسها طريقاً قويماً غير الذي سلكته في العقد الخير مستوحية تاريخها العظيم الحافل بالأمجاد والزاخر بشواهد العبقرية لما اندحرت ذلك الاندحار الأليم الذي يشبه الأحلام!!
فهل يعتبر أنصار أدب الغموض والإبهام؟
يوسف البعيني
من العصبة الأندلسية