مجلة الرسالة/العدد 766/قصة فتاة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 766/قصة فتاة

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1948


- 3 -

الأربعاء 9 مايو سنة 1945:

كلمتني ضحى اليوم بالتليفون تذكرني بموعدها عصر الغد بجروبي؛ وتعتذر من هذا التذكير بأنها تخشى أن تكون استجابتي لمواعيدها في القاهرة كإجابتي عن رسائلها من العزبة. ولو لم يكن في مكتبي وهي تتكلم بعض المتزمتين لقلت لها إن الأمر بين الحالين جدُّ مختلف؛ فإن إجابتي عن رسائلها قد أصبحت من فضول القول بعد أن صارحتني بأنها تطلب الحب ولا تطلب المعرفة، وتريد الغزل ولا تريد النصيحة؛ ولكن استجابتي لموعدها أدب من آداب النفس المهذبة، يزيد في الحرص عليه شوقي إلى رؤية وجه يتجلى في اليقظة بعد أن تمثل لي طويلاً في الحُلم، ثم أملي أن ينجح في كبحها اللسان بعد أن فشل في كبحها القلم. ولقد استخفى علم الله صوتها الموسيقي في السماعة فهممت أن أطلب منها تقديم الموعد يوماً ولكنني لم أفعل؛ لأني أكبر نفسي أن تخضع في أية حال لهواها، ولأني أوثر أن أقرأ ما بقي من رسائلها قبل أن ألقاها.

حملتُها على قطع الحديث بأجوبتي البطيئة المقتضبة، لأن الجالسين إلي كانوا قد كفوا عن حديثهم وجعلوا بالهم لحديثي، وما أدري أكان ذلك منهم اتباعاً لأدب السلوك أم استطلاعاً لحديث امرأة! وضعت السماعة وعدت إلى زوّاري الأكرمين أناقلهم حديث الأدب وأراجيف السياسة، حتى انفض المجلس وخلا المكتب فنشرت بين يديّ ما عثرت عليه ليلة أمس من بقايا رسائلها الحمر، وأخذت أصفحها ورقة ورقة فأُلقي المكرر أو السخيف، وأُبقي المفيد أو الطريف، ثم رجعت النظر فيما استبقيت فلم أجد غير رسالتين اثنتين تستحقان التلخيص والتسجيل، وتستأهلان التعليل والتحليل، فأثبتهما ملخصتين في صفحة هذا اليوم من مذكراتي، لتكونا تكملة لصورتها وتغذية لتصوراتي

قالت الآنسة في رسالتيها ما ترجمته: (ما لك تبتعد عني متراً كلما دنوت منك فِتراً؟ لقد أوصدت بابك دوني ثم تركتني أطرقه وأطرقه حتى أصم أذنيّ الطرق وأنت لا تجيب! هل تجد في ردك على رسائلي إحراجاً لك أو إزراءً بك أو تبعة عليك؟ إن كنت لا تحبني - كما أعتقد - فهلا تظاهرت لي بالحب إشفاقاً على هذا القلب الذي يحترق ولا يجد بَرده إل فيك، ويذوب ولا يرى مساكه إلا بك! كان يقنعني منك أن تحبني بالكلام حتى لا تظل موجة حبي حائرة في الفضاء لا تجد جهاز استقبال ولا أُذن مستمع! لقد تركني بسكوتك عني أشبه بالمصوّت في المغارة لا يسمع غير الصدى، أو المنقطع في المفازة لا يجد غير السكون! أريد أن أعرف هذا المجهول وأستدني ذلك البعيد! يخيل إلي أحياناً أنه يناديني في زفيف الريح، أو يقبلني في انعطاف الغصن، أو يعانقني في لين الفراش، فأرهف أذني، أو أعرض خدي، أو أنصب صدري، فلا أحس وا لهفتاه إلا الرهبة والعزلة والفراغ! دعني أبحث عنه في كل مكان، وأتصوره في كل إنسان، ما دمت لا ترسله إلي بالبريد!

دخلت الإسطبل ذات صباح فرأيت الحلاّبة تحلب إحدى الجواميس، فطاب لي أن أرى هذا المنظر، وقام بي أن أجرب هذا العمل، فأخذت الوعاء من فوق ركبة الحلابة، وجلست القرفصاء تحت بطن الجاموسة، وقبضت بيمناي على حلمة من حلمات الضرع وجذبتها إلي فشخب اللبن حاراً في يدي. ولذّ لي لسبب لا أدريه أن أمعن في غمز الحلمة وعصر الضرع الحلب اللبن، شخباً في الإناء وشخباً في الأرض، وقد دب في بدني رعشة خفيفة، وسرى في دمي نشوة لطيفة، وجرى في نفسي إلى الرجل المشتَهى نزعة قوية! ولا أدري ما الذي ربط في ذهني بين حلب اللبن وشهوة الحب، ولا بين رؤية الجاموسة وذكرى الحبيب. ولكن ذلك كان وإن جهلت كيف كان. ولا يزال الشوق إلى هذه اللذة يعاودني فأذهب إلى الإسطبل في الصباح والمساء، حتى غدوت أبرع من يحلب في العزبة من الرجال والنساء!

ماذا تصنع الفتاة الوحِدة يا (حبيبي) لتهدئ قلبها الثائر، وترضي هواها الطموح، وتملأ فراغها الموحش؟ أخي لا يترك الدوار ولا يتكلم إلا في الزرع والضرع، وزوجه لا تفارق الدار ولا تتكلم إلا في الطهي والغسل، وأنت لا تدع الصمت ولا تتكلم إن تكلمت إلا في الفضيلة والفضل! أما الكلام الذي يمتزج بالنفس ويأتلف مع الشعور فلا أسمعه إلا في هتاف حمامة لإلفها، أو حمحمة فرس لسائسها، أو غمغمة بقرة لولدها، أو تحية ابن البستاني لي وهو ذاهب إلى الحديقة أو عائد منها. وابن البستاني فتى ريان الشباب، وثيق التركيب، على وجهه وسامة، وفي عينيه ملاحة، وعلى شفتيه جاذبية. يجيء أباه في أكثر الأيام ليعاونه في أعمال الحديقة؛ فكنت كلما رأيته تمنيت أن أديم النظر إليه وأطيل الحديث معه؛ ولكن الفروق الاجتماعية التي بيني وبينه كانت تكسر من طرْفه وتعقل من لسانه فلا ينظر إلا خُلسة ولا يتكلم إلا جمجمة. دعوته ذات مرة ليقطف لي رمانة لم تصل إليها يدي ولا مجناتي؛ فلما قطفها وقدمها إلي وقف ينتظر أمراً آخر؛ فقلت له بعد أن جسست بعيني نوافذ الدار ومماشي الحديقة: تعال معي نقطف باقة من الزهر، ونجن سلة من الثمر. فمشى الفتى بجانبي على استحياء وحذر، فأردت أن أزيل احتشامه فسألته في لهجة تسيل أنوثة وعذوبة: أمتزوج أنت أم خاطب؟ فقال والخجل يضرج محياه: خطبوا لي يا سيدتي ابنة الخولي، وستزفّ إلي في موسم القصب. فقلت له ضاحكة: إذن سيكون شهر العسل عظيماً! فنظر الصعيدي إلي مبهوتاً كأنه لم يدرك النكتة ولم يفهم الجملة! فقلت له: وماذا تقول لفتاتك إذا خلوت بها؟ فأجاب الفتى في حرج ودهشة: وكيف أخلو بها قبل الزفاف يا سيدتي؟ إني أراها في الحقل أو أقابلها في الطريق أو ألمحها في البيت، فتغض هي من طرفها، وأشيح أنا بوجهي، لكي لا تتلاقى النظرتان فنأمن مقالة السوء ونضمن دوام الخطبة. فقلت له وأنا أعبر بصوتي الممطوط عن الرثاء والشفقة: مساكين! إن الخطبة عند المتمدنين تدريب وتجريب ومتعة. تدريب على الزوجية بالفعل، وتجريب للشخصية بالخبرة، ومتعة للنفس بالرقص والرياضة والرحلة. إذا كانت خطيبتك بخراء فكيف تعرفها بغير القبل؟ وإذا كانت مصنَّة فكيف تكشفها بغير العناق؟ وإذا كانت مذياعة فكيف تمتحنها بغير الائتمان على (سر)؟ سأمثل معك دور الخطيبة الحبيبة رحمةً بك وحناناً عليك، وسأعلمك ما ينبغي أن تعمل، وألقنك ما يجب أن تقول. وفي ظل شجرة غيناء من شجر التفاح أخرجت منديلي الرقيق فمسحت به ملاغم الفتى؛ ثم جذبت بيديّ جانبي رأسه، ودسست شفتيّ في زاوية فمه؛ ثم وثّقت القبلة وعمقتها وطوّلتها وعرّضتها، وكان الشاب قد صدمته المفاجأة فتصلب أولاً ثم استرخى، وأردت أن انزع فمي من فمه فاستعصى؛ ورفعت بصري إلى أعلى الشجرة فرأيت أفعى (حواء) بجانب التفاحة تريد أن تسقطها إليّ، ففرت مذعورة ففرت مذعورة إلى المنزل. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد. وفي اليوم التالي عدت إلى التعليم وعاد إلى التعلم. وكان الفتى في هذا اليوم على غير عادته نظيف الوجه جديد الثياب جرئ القلب، فأطلنا الدرس وشفينا النفس وشققنا الحديث. وتعاقبت الأيام على هذه الحال الراضية، فسكت في رأسي صوت كان لا يفتر عن الصراخ، وسكن في نفسي وسواس كان لا يني عن الحركة. وكدت أُشغل بالفتى عنك، وباللهو المتحقق عن الحب المتخيَّل، لولا أن أخي وقف من زوجته على الحقيقة، فضربني علقه دامية وحرمني النزول إلى الحديقة. . .

(للقصة بقية)

أحمد حسن الزيات