مجلة الرسالة/العدد 766/غاندي الفيلسوف المجاهد

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 766/غاندي الفيلسوف المجاهد

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 03 - 1948



للأستاذ حسين مهدي الغنام

- 1 -

في اليوم الثلاثين من شهر يناير الماضي قتل موهانداس كارامشانذ غاندي، وهو ذاهب إلى الصلاة، برصاص أحد أبناء جلدته ودينه المتعصبين، فأعاد إلى الأذهان سيرة الأنبياء والمصلحين كما أعاد بحياته حياة السيد المسيح.

لقد كانت حياة غاندي مأساة كما كان موته مأساة أشد وأروع. كان غاندي فيلسوفاً جعل السياسة مذهبه.

وقد ظل خمسين عاماً يكافح في سبيل استقلال بلاده، حتى نالته في حياته، ولكنه لم يعش حتى يرى السلام يرفرف على ربوعها المترامية، وهو الذي وهب نفسه لخدمة السلام.

عاش غاندي كالناسك. لبس ملابس خشنة في غاية البساطة، حراماً غزله بنفسه على مغزل يد بدائي، وخفين (صندلين) من القش!

ولم يأكل اللحم، بل عاش على الفاكهة والخضر واللبن

وقضى حياته كلها مجاهداً. وقد اتخذ جهاده ثلاث وجهات رئيسية:

الأولى ضد الطبقات المعينة العالية التي فرضها المستعمر على مئات الملايين من طبقات الهند الدنيا، التي لا تجد القوت.

والثانية جهاده ضد المستعمر.

والثالثة جهاده في سبيل السلام والحب، ومناضلة الشرور والخطايا، آخذاً بمبدأ المقاومة السلبية وعدم العنف.

كما أنه كافح كفاحاً اقتصادياً واجتماعياً عظيماً، فنبه الوعي القومي والاقتصادي، وأنشأ آلاف المدارس، وحارب الرجعية ونادى بحق المرأة الهندية، ولكنه غالى في تقديس الناحية الدينية وغذاها بين الشعب، جاعلاً من التسامح والإخاء بين الهندوس والمسلمين والمنبوذين هدفه الأول. . .

ولقد شابه غاندي الفيلسوف الروسي الإنساني الشهير، ليو تولستوي، وتأثر به في حياته تأثراً كبيراً.

وكان دائماً يبشر بقوله: (أنكم سوف لا تقترفون القتل) ولكنه مات قتيلاً!

وكان مثل تولستوي في لباسه الخشن، وفي نظرية عدم العنف والمقاومة السلبية، وفي دفاعه عن السلام ودعوته لإتيان الخير، والمعروف وللمحبة بين الناس جميعاً، وإن لم يكن تولستوي في مثل إخلاص غاندي!

وكان الناس في كل مكان يتشوقون إلى تذوق ثمار فلسفته، ولكن قلوبهم لم تعمر بمثل الإيمان الذي عمر به قلبه، فلم يفعلوا في سبيل تأدية رسالته شيئاً أكثر من التمني!

كان غاندي يعمل في سبيل الروح، ولكن الناس الذين بشر بينهم بمبادئه كانت تربطهم أسباب قوية بعالم الماديات الدنيوي في عالم الوقائع والأرقام التي عمته جميعاً حتى غزت الشرق نفسه، الشرق أبا الروحانيات ومهد السلام.

إلا أن الشرقي شرقي بطبعه وغريزته. وفي الشرقي لطف غريزي، فلم ينعت هؤلاء الناس غاندي بالجنون، كما نعت الروسيون والأوربيون تولستوي، ولكنهم بالغوا في نعتهم للفيلسوف الشرقي حتى ألهوه، وسموه القديس. . . سموه المهاتما!

ولعل غاندي أخطأ في مخاطبته لعامة الجماهير، وتبشيره بينهم، كما قال بعض مفكري الهند، وقالوا لو أن غاندي أنصف نفسه لجمع حوله خلاصة الشباب الطامحين إلى بناء الهند الحديثة، فإن التعاليم السامية العميقة تفعل فعلها في نفوس الذين أصابوا من الثقافة حظاً كبيراً؛ وإلى هذا يعزون بعض فشله في تعميم دعوته.

يقول السردار إقبال علي شاه عن غاندي والشعب الإنجليزي (لقد أخطأ غاندي في فهم عقلية الرجل الإنجليزي المتوسط، إذا كان هذا الشخص وجد، ولهذا لم تفهمه الغالبية من الشعب البريطاني، فلقد اختلفت العقليتان كما يختلف القطبان شمالاً وجنوباً. . .

(ولم يكن غاندي كذلك بالشخصية الرسمية القوية العنصر، ومن هنا كان اختلافه عن ساسة الهند اليساريين، فقد كان دائماً يغتفر للرسميات خطاياها، وإن صح هذا في الهفوات، فإنه لا يصح في الخطايا قطعاً!

(وكان غاندي في نظر الرجل الإنجليزي فيلسوفاً ضالاً، أو الكاهن الرفيع المقهور. وعقلية الرجل الإنجليزي لا تقبل هذا الوضع، فلم تأبه له كثيراً، لأنها لم تفهمه.

(ولكن للإنجليز ذاكرة قوية. . . وإنهم ليذكرون ما فعل غاندي قديماً من أجل أبناء وطنه المهضومين المدقعين الذين تدوسهم العلية من القوم، ويذكرون ما صنع في حرب البوير والزولو من عمل جليل وهو يرأس كتيبة الإسعاف الطبي.

(إلا أن غاندي احتل من تفكير الإنجليز ما يحتله كبار الإنجليز أنفسهم. والإنجليز تسوءه الحملات العنيفة على أمثال هؤلاء، لأنه يعتقد أنهم مخلصون، والإنجليز يرحب بالصراحة والإخلاص ويحترمها!

(ولقد استاء الرأي الإنجليزي العام من الحملات التي كانت توجه إلى غاندي في بعض جرائدهم، ومن الصور الهزلية التي تصوره قارحاً بلا أسنان، أصلع الرأس، مخلوقاً عريان إلا من ذلك اللباس التقليدي.

(والمسلمون والإنجليز يتفقون في هذه الناحية، فكلاهما يحترم الشخصيات الفذة، ويأنف من السخرية اللاذعة منها ومن مهاجمتها بلا اعتدال، على عكس الغربيين الآخرين.

(وكان غاندي الوطني، والفيلسوف، والداعية، مجهولاً من العالم كله، حتى اعتزم أن يعتزل المحاماة في جنوب أفريقيا، وينقلب مجاهداً وسياسياً قوياً. .

(وكان قبل ذلك قد رأى بعض أنحاء الدنيا، ورأى تعصب البيض ضد الملونين، وإن كان هذا خف اليوم إلى درجة ما!)

ولقد حورب غاندي كثيراً حتى الكسندر العظيم كان يساعد معارضي غاندي مساعدات مادية كبيرة، ليحدوا من نجاحه في الهند.

ولكن ذلك الناسك الهزيل استحوذ على ألباب الملايين من الهنود ببساطته الدينية المتناهية، فاحترموه ثم أحبوه ثم عبدوه واعتقدوا أنه شبه إله!

في سنة 1922 سجن غاندي، ثم أطلق سراحه بعد عامين وفي تلك الأثناء كان معارضوه في حزب المؤتمر، وهم المعروفون باسم سواراجست، أكثر من أتباعه، وأحسن منهم تدريباً واستعداداً، وحضروا اجتماعاً لهم وعارضوا ما سموه دكتاتورية غاندي في حزب المؤتمر، ثم انسحبوا، فاعتبر غاندي هذا هزيمة له وانسحب. . .

وعلى الرغم من تلك الهزيمة، فقد كان لهذه اللفتة النفسانية البليغة أثرها في تقوية غاندي فقد جلس صامتاً، وأخذ يتحدث بعد قليل، ثم تكلم عن هزيمته، وعن حالة الهند المؤسية، ثم انحدرت دموعه على خديه وتتابعت سريعة. وهنا بكى جميع الحاضرين معه بدموع غزار.

وانضموا إليه واحداً واحداً، وهنا عادوا إلى صفه ثانيةً، وكسبهم إلى جانبه من أضعف نقطة حساسة هاجمهم فيها.

فهذه القوة - في بساطة مظهرها - وبتلك النفحة السيكولوجية حرك غاندي قلب الهند على بكرة أبيها. . .

وكانت الجماهير تنظر إلى آرائه على أنها غير مستحيلة التحقيق فصدقوه فيما قال، إذ كان في نظرهم مبعوثاً سماوياً، ويجب أن يكون صادقاً في آرائه.

وقد سمى غاندي الحكومات الإنجليزية بالحكومات الشيطانية فصدقه الملايين من الهنود. . . وما زالوا يعتقدون نفس الاعتقاد، ولكنهم نسوا أن غاندي هو صائغ هذا التعبير.

وكلما مرت السنون، وكلما فشل غاندي في تحقيق ما وعد به شعبه، وكلما كان فشله مريعاً، زادت مكانته في نظر الشعب وازداد هذا الشعب له حباً واحتراماً وتبجيلاً وتقديساً!

(يتبع)

حسين مهدي الغنام