مجلة الرسالة/العدد 765/هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
مجلة الرسالة/العدد 765/هل نملك تحريم تعدد الزوجات؟
للأستاذ إبراهيم زكي الدين بدوي
- 2 -
تفنيد رأي الباشا الجديد
5 - بينت فيما تقدم أن ما استقر عليه رأي الباشا في بحثه الأخير يقوم على عناصر ثلاثة.
(أ) تفسيره لقوله تعالى (وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فأنكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا)
(ب) تفسيره لقوله تعالى (ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم، فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة)
(ح) محاولة التوفيق والتنسيق بين التفسيرين أو التأويلين. كما أتيت فيما سبق أيضاً على خلاصة وافية لهذه العناصر. وهاأنذا أوجز فيما يلي ما استدل به معاليه لكل منها مردفاً كل دليل بردي عليه: -
6 - أدلة العنصر الأول: استدل معاليه لرأيه في تفسير الآية الأولى بالأدلة الآتية: -
الدليل الأول - أن تحديد عدد الزوجات من الأمور الأساسية في التشريع للعرب، فلا يستقيم مع بلاغة القرآن الإتيان بحكمه بصفة عرضية جواباً لعبارة شرطية واردة لغرض آخر هو الإقساط لليتامى، (بدليل أنها مسبوقة بقوله تعالى: وآتوا اليتامى أموالهم - الآية 2 من سورة النساء) فهي بعيدة بظاهرها كل البعد عن نكاح النساء وتقييد التعدد ولا مناسبة بينها وبينه.
وردي على هذا الدليل:
1 - أن السورة الواردة فيها هذه الآية تسمى (سورة النساء) وهي من أكثر سور الأحكام اشتمالاً على أنواع مختلفة منها، فمن أحكام خاصة باليتامى والسفهاء ومعاملتهم والإقساط لهم إلى أخرى خاصة بالنساء ونكاحهن والمحرمات منهن إلى ثالثة خاصة بالمواريث والمعاملات المالية إلى رابعة خاصة بالقتال والجهاد في سبيل الله، وفي التلاوة ليست الآيات الخاصة بكل نوع مجموعة في موضع واحد من السورة بل تجد بعض آ الواحد متفرقة في مواضع مختلفة منها، فمثلاً أحكام المواريث وردت عنها الآيات ذوات الأرقام 11 و12 و18 و175، وأحكام القتال والجهاد في سبيل الله وردت عنها الآيات ذوات الأرقام من 71 إلى 77 و83 و89 و90 ومن 94 إلى 96. وكذلك أحكام النساء وردت آياتها متفرقة في مواضع مختلفة من السور ومثلها أحكام اليتامى، وفي بعض المواضع تتعاقب آيات النوعين كما في الآية ذات الرقم 3 التي نحن بصددها إذ سبقتها الآية ذات الرقم 2 وعن اليتامى وهي قوله تعالى (وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم أنه كان حوباً كبيرا) ولحقتها الآية ذات الرقم 4 وهي قوله تعالى (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شئ منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئا) ثم الآية ذات الرقم 5 عن السفهاء والآية ذات الرقم 6 عن اليتامى؛ ومن الآيات ما تشتمل الواحدة منها على نوعين أو أكثر من الأحكام، كالآية 5 من سورة المائدة. وهذا النهج الدالة عليه جزئيات أخرى كثيرة في مختلف الصور، راجع إلى مراعاة ما بين بعض موضوعات الأحكام المتعاقبة آياتها من وجوه المشاكلة والمناسبة بالرغم من اختلاف هذه الموضوعات، وإلى أن التنزيل كان منجماً تبعاً لأسباب ومناسبات النزول. وإذن فليس في مجرد سبق الآية ذات الرقم 2 الخاصة باليتامى للآية ذات الرقم 3 ما يدل على أن الأخيرة نزلت أيضاً في شأن اليتامى قصداً وأن ما ورد فيها عن النساء جاء بصفة عرضية غير مقصودة.
2 - والدليل على أن الكلام في هذه الآية وارد في شأن نكاح النساء قصداً لا عرضاً الآية ذات الرقم 127 المبدوءة بقوله تعالى (ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن، وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن) وهي التي تشير كما ذكر معالي الباشا إلى حكم الآية السابقة ذات الرقم 3 مما يبين أن تلك الآية نزلت قصداً في حكم النساء أيضاً، ولذا اتبعت كما قدمنا بالآية ذات الرقم 4 الواردة في حكم آخر خاص بنكاح النساء، وهو حكم صداقهن
3 - أن في تفسير هذه الآية أقوالاً أربعة ذكرها ابن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هجرية مؤيدة بالمأثور عن الصحابة والتابعين في بيان سبب نزولها وتفسيرها على ضوئه. وأحد هذه الأقوال ما ذكره الباشا من أنها أمر لأولياء، اليتيمات بنكاح سواهن إن خافوا ألا يقسطوا لهن في أموالهن. لكن ابن جرير بعدما ذكر هذه الأقوال الأربعة قال: (وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بتأويل الآية قول من قال بتأويلها: وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فكذلك فخافوا في النساء، فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الأربع إلى أن قال) وإن خفتم أيضاً الجور على أنفسكم في أمر الواحدة بإلا تقدروا على إنصافها فلا تنكحوها ولكن تسروا من المماليك فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن لأنهن أموالكم وأملاككم ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر). فعلى هذا التفسير المختار تكون الآية كلها بما فيها من عبارة الشرط وعبارة الجواب واردة في نكاح النساء عامة، ويكون ذكر اليتامى في عبارة الشرط لمجرد قياس وجوب العدل في النساء على وجوب العدل فيهم ليكون ذلك أفعل في النفوس ورعاية للمناسبة بين هذه الآية والآية السابقة الواردة في اليتامى. وسواء أكان المقصود بالآية رعاية الإقساط الواجب للنساء كالإقساط الواجب لليتامى أو رعاية الإقساط لليتيمات أنفسهن، فلفظها صريح في تحديد نكاح النساء بعدد معين، وحكم إباحة التعدد مأخوذ منها اتفاقاً لأن العبرة كما هو معلوم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب
ومما تقدم يتضح وجه الارتباط بين عبارتي الشرط والواجب في الآية ويندفع الاعتراض على إفادتها حكم التعدد.
الدليل الثاني. إن كلمة (ما) في قوله تعالى (ما طاب لكم) هي من أقوى ما يكون في إفادة العموم، والباشا يميل إلى القول بأنها نكرة بمعنى (أي شئ) أي أية امرأة أو مجموعة من النساء ولا يميل إلى القول بأنها موصولة بمعنى (من) وقد استعمل مشاكلة لها كلمة (طاب) ولم يستعمل كلمة (حل) لأن الطائب قد يكون حلالاً وقد يكون حراماً، فما يطعن على بلاغة القرآن وتساوق عباراته أن ينحدر من هذا العموم الكلي إلى التحديد والقصر على الأربع.
وأقول في الرد على هذا الدليل أنه فضلاً عن أنه لم يرد عن أحد من رجال اللغة - الذين يقول الباشا أنه اعتمد على مقرراتهم في فهم الألفاظ التي تناولها بالتفسير - القول بأن (ما) هنا نكرة، وبالرغم من أن لطاب معنيين: المعنى الذي أورده الباشا، ومعنى آخر هو (حل) وهذا المعنى هو ما قال به أئمة اللغة في تفسيرها هنا وما استقر عليه اصطلاح الأئمة والفقهاء في استعمالها، فكان أحدهم إذا استفتي في حكم فعل من الأفعال قال: أراه طيباً أو أراه يطيب له (أي للفاعل) بمعنى أنه حلال أو يحل - أقول فضلاً عن ذلك فليس فيما فهم به الباشا هذين اللفظين ما يعكر على دلالة الآية على تحديد التعدد، ذلك أن العموم المستفاد من (ما) إنما هو (عموم وصفي) أي مستغرق لجميع الأفراد المندرجة تحت وصفها (لأنها نكرة موصوفة فتكون مقيدة، بوصفها كما هو معلوم) لا (عموم عددي) فالتحديد بعد ذلك في العدد لا يتعارض والعموم لأنه تحديد لغير الجهة المقصود عمومها، وإنما يمس عموم هذا اللفظ ما يخرج منه بعض أفراده أي ما يخرج بعض النساء الطيبات عن حل نكاحهن كما لو قال (فأنكحوا ما طاب لكم من النساءِ على أن كن مسلمات (أو غير يتيمات)) فتخرج في هذه الحالة الكتابيات واليتيمات مع اندرجهن تحت عموم النكرة الموصوفة. وإلا فليتفضل معالي الباشا فيدلنا على صيغة أخرى كان يمكن نزول القرآن بها للدلالة على حل نكاح ما يطيب للرجل من النساء في حدود الأربع. على أني أسارع فأنبه إلى أنه حتى على التسليم بأن في القول بدلالة الآية على تحديد التعدد قصراً وتحديداً لعمومها المستفاد من لفظ (ما) فليس في ذلك ما يصح اعتباره عدم تساوق يطعن على البلاغة إذ غاية ما فيه أنه تخصيص علم وذلك مألوف ومتعارف في القرآن وفي غيره من بليغ كلام العرب حتى قالوا (إنه ما من عام إلا وخصص) وجعلوا من أنواع العام: العام المخصوص والعام الذي أريد به الخصوص.
الدليل الثالث: أن القول بدلالة الآية على حكم تحديد التعدد يؤول بنا إلى نتيجة منكرة: ذلك أن مثنى وثلاث ورباع معناها المتفق عليه عند الجميع اثنان اثنان وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة، فيكون المعنى أن يأتي الرجل لامرأتين فيتزوجهما في وقت واحد بعقد واحد، أو لثلاث نساء أو لأربع فيتزوجهن في وقت واحد بعقد واحد كذلك. وهذا من أشد ما يكون إفساداً للفكر لمخالفته ما هو معلوم من مجريات العادة عند العرب وغير العرب في الزواج. فليس إذن المعنى الحرفي هو المقصود وإنما هذه الألفاظ كناية عن الأخذ الجزاف المنافي لكل تحديد؛ لأن عبارة (مثنى وثلاث ورباع) أتت بكل ما في العربية من ألفاظ الصفات العددية التوزيعية إذ لم يسمع في العربية بعدها إلا لفظ (عشار) فقط
ويرد على هذا الدليل من وجهين: (الوجه الأول) إقرار معاليه على ما رآه من أن المعنى الحقيقي لهذه الألفاظ لا يمكن أن يكون مراداً بها، ومع أن يكون الأخذ الجزاف المنافي لكل تحديد لازماً لهذا المعنى الذي ليس له في الواقع لازم عقلي، وغاية ما فيه أنه يمكن الخروج من النص - إذا أغفلنا معنى تحديد التعدد المتعارف منه - بأنه لم يرد فيه ما يوجب التحديد، والفرق بين الناحيتين واضح إذ الأولى ناحية إيجابية كان يجوز لو وجدت أن تكون مقصودة للشارع، أما الثانية فلا يمكن أن تكون مقصودة له لأنها أمر سلبي.
(الوجه الثاني) أنه حتى على التسليم بأنه هذا المعنى لازم للعبارة فلا يمكن أن يكون مكنياً بها عنه إذ يشترط في الكناية - كما هو معلوم - جواز إرادة المعنى الأصلي. وقد سلم معنا الباشا بأن هذا المعنى لا يمكن أن يكون مراداً. على أنه ليس مما يناسب بلاغة القرآن ومقاصده - وهو بصدد تأليف العرب بعد مصادمتهم في العادات المتأصلة فيهم كما يقول الباشا - أن يستعمل في ذلك عبارة تخالف - في ظاهرها على الأقل - ماجريات هذه العادات وقد كانت له مندوحة عن ذلك باستعمال الحقيقة، بدلاً من الكناية، في هذا المقام.
الدليل الرابع - أن القرآن لو أراد بهذه الآية تحديد تعدد الزوجات بالأربع لعبر عن ذلك بعبارة بسيطة موجزة (يحل نكاح النساء إلى أربع) بل لنص على تحريم ما وراء الأربع في آية المحرمات
والرد على الشق الأول من هذا الدليل أن التعبير على هذا النحو لا يتناسب والمستوى الرفيع لأسلوب القرآن القائم على قواعد من الترغيب والترهيب، والتبشير والتنفير، والوعظ والزجر، والوعد والوعيد، مما هو وحده كفيل بتحقيق أغراضه السامية؛ فقد أراد سبحانه أن يبين للعرب بهذه الآية الكريمة مما أطلقه لهم من سعة في أمر النكاح المشروع تغنيهم عن مقارفة الحرام فشرع لهم نكاح كل منهم اثنتين بدلاً من واحدة إن أمن الجور، فثلاثاً بدلاً من اثنتين إن أمن ذلك، فأربعاً بدلاً من الثلاث إن أمن ذلك أيضاً، فإن هم خافوا الجور في الأربع فليعدل الخائف عنهن إلى الثلاث أو الثنتين، أو الواحدة، أو ما ملكت يمينه. ولا يخفى ما في سوق التعبير على هذا النحو من بلاغة مقنعة للمخاطبين مما لا تفي به العبارة التي رآها الباشا (بسيطة موجزة)
والرد على الشق الثاني من الدليل أن آية المحرمات لم تستقص كل النساء المحرم نكاحهن، فلم يرد فيها مثلاً ذكر لزوجات الأب اللائي حرم نكاحهن بآية أخرى هي قوله (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلا) وذلك عناية منه عز شأنه بهذا التحريم يخصه استقلالاً بآية توضح شناعة ما كان متعارفاً مألوفاً من ذلك النوع من النكاح، كما لم يرد فيها ذكر المشركات المحرم نكاحهن بقوله تعالى في آية أخرى (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) وذلك قصد بيان أغراض خاصة بمدى هذا التحريم (حتى يؤمن) وعلة (أولئك يدعون إلى النار) مما لا يشترك فيه تحريم آية المحرمات، فكذلك الحال فيما يتعلق بتحريم ما زاد على الأربع يخصه استقلالاً بآية تفي بالأغراض السابق بيانها. على أن الأمر في هذه الآية ليس مقصوراً على تحريم ما زاد على الأربع حتى كان يمكن أن تشمل مدلولها آية المحرمات، بل قصد أيضاً بيان حل التعدد إلى الأربع وترتيب التحريم لما جاوزهن على بيان حلهن وما فيه من سعة مجزئة تناسب تخصيص آية لذلك تنتظم هذه الأغراض التي لا يتناولها شأن الوارد ذكرهن بآية المحرمات واللائي قصد إلى تحريمهن لذواتهن، لا لأمر عارض كزيادتهن على الأربع. . .
(يتبع)
إبراهيم زكي الدين بدوي
المتخصص في الشريعة الإسلامية والقانون من جامعات
الأزهر وباريس وفؤاد