انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 764/طرائف من العصر المملوكي:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 764/طرائف من العصر المملوكي:

ملاحظات: بتاريخ: 23 - 02 - 1948



الشعر والنقد الاجتماعي

للأستاذ محمود رزق سليم

نقد المجتمع من أهم ما يعنى به المصلحون، إذ يقوم إصلاحهم على دعامة منه، ينظرون في شئون مجتمعهم، ويتتبعون ضروب الفساد فيه، ثم يحملون عليها حملات شعواء لا تبقي ولا تذر، ويبينون للناس ما هم متردون فيه من شقاء. ثم يعملون جاهدين على إنقاذهم من مترداهم، وتوجيههم إلى سبل السعادة المرجوة. فمثلهم مثل الأطباء يتحسسون الداء ويصفون الدواء. وكلما اتضحت ضروب الفساد، وناء المجتمع بما فيه من أمراض، اشتدت الحاجة إلى هؤلاء المصلحين، ودعت الداعية إلى بروزهم في الميدان ليعملوا ويكافحوا. فيلجأ الخطيب منهم إلى خطابته والكاتب إلى مقالته والشاعر إلى قصيدته وذو الرأي إلى قريحته وفكرته وقد يكون الشعراء أبعد القادة وأولي الرأي عن النظر في شئون المجتمع من ناحية تلمس نقائصه، وتتبع مثالبه، والعمل على تلافيها والدأب على إصلاحها. إذ هم في أغلب أمرهم صدى للمجتمع نفسه بما فيه من نقائص ومثالب، لذلك يلتمس مؤرخ الأدب أحياناً نقائص عصر ومثالبه في شعر شعرائه، كما يلتمس مزاياه وفضائله سواء بسواء. فكم يكون جميلاً إذن، أن نرى الشعراء يدلون بدلوهم في الدلاء، ويشاركون في باب الإصلاح، ويتتبعون مثالب مجتمعهم ونقائصه فينحون عليها باللائمة ويثقلون ليها بالنقد اللاذع، ويشهرون أمر فساده بين الناس حتى تتضح معالمه وتبين شياته وهناته. . .

إنها لظاهرة أدبية طيبة واتجاه فكري سام، يسجله مؤرخ الأدب لشعراء عصر من العصور، إذا ما وجد من بينهم ثلة صالحة يهولها فساد المجتمع، ويروعها اتضاعه وترديه، فتعمل جاهدة في صدق على نقده وتنفيره مما هو فيه، على أمل أن يثوب إليه رشده، ويثوب إليه صوابه. ثم هي بذلك تمد التاريخ بوثائق صادقة يقرأ فيها بوضوح بعض نواحي العصر.

هكذا نسجل - ونحن نؤرخ العصر المملوكي وأدبه - هذه الظاهرة النابهة لشعرائه. فقد أضحى النقد الاجتماعي غرضاً شائعاً هاماً بين أغراضه الشعرية المطروقة.

وإن القارئ ليملؤه العجب ويأخذه الدهش إذا علم أن شعراء هذا العصر هم وحدهم الذ حملوا راية النقد الاجتماعي دون سواهم من القادة وأولي الرأي والبصر. لذلك كان حمدنا لهم مضاعفاً وثناؤنا عليهم مستطاباً.

ولا نتجنى على غيرهم من أصحاب البيان وأهل القلم واللسان، فقد ترى لكاتب نقدة عابرة، أو تسمع لخطيب زجرة طائرة، ولكن ذلك كان على وحي وارتياب. ولم يكن خطة موضوعة ولا منهاجاً متبعاً. بل حوادث فردية ووقائع شخصية. وإنك لو طويت الكشح عن عظات لبعض علماء العصر على المنابر أو غيرها، يوجهونها للشعب أو حكامه، وإنك لو لويت الجيد عن بعض ما تخلل مقدمة ابن خلدون وبعض كتب التاريخ من نقدات، ما وجدت بعد ذلك من النقد الاجتماعي شيئاً يدل عليه ويشار إليه. فإذا أردت أن ترى أين النقد حقاً، فانظر في شعر شعراء العصر، فإنك واجد في - بلا ريب - ما تشتهي.

أما خطباء العصر فكانوا من علماء الدين جلهم اتخذ الخطابة المنبرية وسيلة إلى الرزق أكثر منها سبيلاً إلى النصيحة، وطريقاً إلى الجاه أقرب منها أداة إلى الإصلاح. وكتاب العصر كانوا في شغل شاغل بوظائف الدواوين وتدبيج رسائل السلاطين، وما يدره عليهم ذاك من خير وفير ورزق كثير. وعلماء العصر ممن شغلوا أنفسهم بالتأليف كانوا في أبراجهم العاجية يعيشون بمنجى عن الشعب ومنأى، بين ترف ذهني ونعيم فكري. وليس لهم هم إلا أن يؤدوا للعلم أمانته ويدونوا ما خلفته العصور وما وعته الصدور. فلم يبق إلا الشعراء فهم من الشعب وإليه، وهم تراجمته ومرائيه، ولسنه المشروع، وحناجره النافثة، صوتهم من صوته، ونداؤهم من ضميره، ونقدهم قبس مما يتردد في أعماقه ويتراءى في آفاقه. والشعب - على ضعفه وغفلته - له نقدات مريرة ولفتات خطيرة، تتنزى برنينها نفسه، ويموج بأنّاتها فؤاده. ولكن فكره موءود، ولسانه معقود، وغضبته مطروحة، وحدته مكبوحة. ولا من يترجم عنه أو يتحدث بما في نفسه إلا شعراؤه. هكذا كان شعراء العصر المملوكي.

والمجتمع المصري حينذاك كان فياضاً من الفساد لا حد لها، غاصاً بمواضع النقد، قميناً بالحملة عليه والسعي في إصلاحه. ولكن هيهات.

لقد كان الشعب يعاني من حكامه جوراً وعسفاً، ومن موظفيه نهباً وسلباً وإهمالاً. وكان هؤلاء طبقتين متميزتين عن بقية طبقات الشعب التي منها طبقات التجار والزراع والصناع، لا تكاد تجمع بينهم جامعة صالحة إلا جامعة الدين والوطن. وكانت مشاكل الأسرة لا تقف عند حد، وادعاءات الطوائف لا تعرف هوادة. وكثر أدعياء العلم والأب، ومحترفو الزهد والورع. وكادت الرشوة والسعي بها إلى المناصب تصبح قانوناً منظماً. وذاعت السرقات الأدبية في غير مبالاة. وانتشر الزنى واللواط والتسري بالغلمان. . . وشرب الخمر وتعاطي الحشيش، إلى غير ذلك من مفاسد شائعة ذائعة.

نظر الشعراء إلى كل ذلك فنقدوه وحملوا عليه، وخلدوا عنه في التاريخ صفحة لا تلين ولا تمين. ولسائل أن يقول لم أهتم الشعراء كل هذا الاهتمام بنقد مجتمعهم، ولم ينصرفوا عنه انصراف سواهم راضين منه بالعافية والسلامة؟ نعتقد أن في مقدمة أسباب هذا أن العصر بحكامه وشعبه جهل مكانتهم ونكر منزلتهم وأن الثراء عن طريق القريض كان قد صوح زمانه، وضوى ينعه وريعانه، فلا سلطان يسخو ولا أمير يجود. لهذا قاسى الشعراء مع ألم النكران مرارة الحرمان. فأحقد ذلك نفوسهم وأحنقها، وأثار خواطرهم وأقلقها، والمحروم واجد النفس مفتوح العين على الثغرات يرى منها ما لا يراه سواه. . . ثم هم أمنوا المغبة واطمأنوا إلى العاقبة، وذلك لأن الحكام أعاجم بالفطرة لا يفهمون من الشعر إلا أثارة. وهم عن مساقط الشعراء مشغولون بحروبهم في الخارج أو فتنتهم في الداخل، ثم هم بين هذه وتلك يخبون في نعيم وارف وترف فياض، يحجب عن أسماعهم شكوى المحروم وأنة المكلوم ودعاء المظلوم - كان الشعراء إذن في حرية رافهة وأمن واسع، وانطلقوا من كل قيد يخشاه الأديب على نفسه حتى قيود المجاملة والرياء، وثارت ثائرة بعضهم حتى خلط في حديثه بين النقد والهجاء

ولو قد وجدا في الشعب مستجيباً وملبياً لكان لنقدهم أثر حميد وعاقبة نافعة، وفعل رشيد.

ولا يهولن القارئ - إذا ما عرضنا عليه نماذج النقد - ما يراه فيها أو في بعضها من نزول في مستوى أسلوبه، وبخاصة إذا قاسه بما درس من شعر أندادهم في عصور كانت فيها الملكات العربية لا تزال على مجادتها أو في عصور التقت فيها الثقافات ولفحت العقول وكرمت المغريات على القول.

ويطالعنا في أول ما نسوقه، نقد شرف الدين البوصيري (695هـ). كان البوصيري حسن السيرة صادق السريرة وظف في مطالع حياته في دواوين الدولة كاتباً، فرأى من عبث كتابها وجباتها ما هاله من عبث. وشهد من إهمالهم ما راعه من إهمال. فجأر منهم بالشكاية وأنحى عليهم بالزراية فقال يخاطب أحد أولي الأمر:

فلا تدن منهم واحداً منك ساعة ... ولو فاح من برديه مسك وعنبر

وبرد فؤادي بانتقامك منهم ... فقد كاد قلبي منهم يتفطر

منعت بهم حظي شهوراً ولم أصل ... إلى حظهم حتى مضت لي أشهر

فما فيهم - لا بارك الله فيهم - ... أخو قلم إلا يخون ويغدر

وقال فيهم أيضاً:

نقدت طوائف المستخدمينا ... فلم أر فيهم رجلاً أمينا

فقد عاشرتهم ولبثت فيهم ... مع التجريب من عمري سنينا

فكتاب الشمال هم جميعاً ... فلا صحبت شمالهم اليمينا

فكم سرقوا الغلال وما عرفنا ... بهم فكأنهم سرقوا العيونا

ومنها يذكر من ادعى منهم النسك، ويذكر اختلاف الطوائف في مصر وادعاء كل طائفة بحقها فيها:

تنسك معشر منهم وعدوا ... من الزهاد والمتورعينا

وقيل: لهم دعاء مستجاب ... وقد ملئوا من السحت البطونا

تفقهت القضاة فخان كل ... أمانته وسموه الأمينا

وما أخشى على أموال مصر ... سوى من معشر يتأولونا

يقول المسلمون: لنا حقوق ... بها ولنحن أولى الآخذينا

وقال القبط: نحن ملوك مصر ... وإن سواهمو هم غاصبونا

وحللت اليهود بحفظ سبت ... لهم مال الطوائف أجمعينا

ومن طريف نقد البوصيري قصيدته الرائية الفكاهية التي وصف فيها حال أسرته في رمضان وعيد الفطر، وما استحدثاه بين أفرادها من خلف ونزاع هما نتيجة الحرمان. وهو وصف يشعرك بما للفاقة من أثر سيئ في التفرقة بين أفراد الأسرة. ويشعرك بأن أسرة البوصيري هي نموذج للأسرة المصرية المتوسطة، ونموذج لمشاكلها من عهده إلى الآن ومنها يصف أفرادها قال: صاموا مع الناس ولكنهم ... كانوا لمن أبصرهم عبره

إن شربوا فالبئر زير لهم ... ما برحت والشربة الجره

لهم من الخبيز مصلوقة ... في كل يوم تشبه النشره

أقول مهما اجتمعوا حولها ... تنزهوا في الماء والخضره

ثم يصف العيد وتطلع الأبناء فيه إلى الكعك والنقل، ثم ما يدب من النزاع بينه وبين زوجته، وتدخل أخت الزوجة في هذا النزاع لمصلحة أختها، فهي بذلك تضرم نار العداوة بين الزوجين، وتهون شأن الزوج وتجري عليه زوجته، فتنتهي المأساة بأن تستقبل رأسه بآجرة. وهكذا ترى كيف يغشى الجهل بأصول الحياة وروابط الأسرة عيون أفراد الأسرة المصرية من قديم الزمان فلا يفهم بعضهم أن رابطة الأسر شركة تعاونية بل فرصة استغلالية وهكذا. ومما يشبه قول البوصيري في كتاب الدواوين، قول علاء الدين الواسطي يشكو قوماً إلى نائب السلطان بالشام قال:

يا نائب السلطان لا تك غافلاً ... عن قتل قوم للظواهر زوقوا

ما هم تجار بل لصوص كلهم ... فأمر بهم أن يقتلوا أو يشنقوا

وأراك لا تجدي إليك شكاية ... إلا لأنك حائط لا ينطق. . . الخ

وقال شهاب الدين الأعرج ينقد الأتراك والقبط ويذكر استئثارهم بالرزق:

وكيف يروم الرزق في مصر عاقل ... ومن دونه الأتراك بالسيف والترس

وقد جمعته القبط من كل وجهة ... لأنفسهم بالربع والثمن والخمس

فللترك والسلطان ثلث خراجها ... وللقبط نصف الخلائق في السدس

ونقد كمال الدين الإدفوي (748) هـ صاحب كتاب (الطالع السعيد) حالة التعليم والمعلمين في عصره فقال:

إن الدروس بمصرنا في عصرنا ... طبعت على لغط وفرط عياط

ومباحث لا تنتهي لنهاية ... جدلاً ونقل ظاهر الأغلاط

ومدرس يبدي مباحث كلها ... نشأت عن التخليط والأخلاط

ومنها قوله:

والفاضل النحرير فيهم دأبه ... أقوال رسطاليس أو بقراط وعلوم دين الله نادت جهرة ... هذا زمان فيه طي بساطي

وقال مجد الدين بن الخياط يصف شعارير زمانه - وهم كثر في كل زمان -:

وفي متشاعري عصري أناس ... أقل صفات شعرهم الجنون

يظنون القريض قيام وزن ... وقافية وما شاءت تكون

وبمناسبة ذكر الشعراء نسوق بيتين من أبيات لشهاب الدين أحمد الأنصاري يهجو منهم من يقترف ذنب المديح فقال:

مالي أرى الشعراء تكسب عاراً ... بهجائهم وتحملوا الأوزارا

مدحوا الأخساء اللئام فضيعوا ال ... أشعار لما أرخصوا الأشعارا

هذا مع العلم بأن قوماً من الشعراء ربئوا بأنفسهم عن المدح بل عن صناعة الشعر وفضلوا عليها حرفة متواضعة احترفوها. انظر إلى أبي الحسين الجزار يقول:

كيف لا أشكر الجزارة ما عشـ ... ت حفاظاً وأرفض الآدابا

وبها صارت الكلاب ترجيـ ... ني وبالشعر كنت أرجو الكلابا

وكثير من الشعراء نعى حظ الآداب ورثى لحال الشعراء وشكا انصراف الناس عنهموعن إنصافهم.

وكانت الصوفية قد وجدت في هذا العصر مراحاً خصيباً ورعى رطيباً، غير أنه - بلا ريب - اندس بين أهلها من ليس منهم فشابوها وعابوها:

فكان ذلك مثاراً للنقد القاسي المقذع. قال الأديب المؤرخ فتح الدين بن سيد الناس:

ما شروط الصوفي في عصرنا قط ... عاً سوى سنة بغير زيادة

وهي. . . . . . والسكر والسط ... لة والرقص والغنا والقيادة

وإذا ما اهتدى وأبدى اتحاداً ... وجميلاً من خلوة وإعادة

وأتى المنكرات عقلاً وشرعاً ... فهو شيخ الشيوخ ذو السجادة

ونختتم هذا الحديث بذكر أد أدباء العصر وهو الشاعر جمال الدين السلموني من شعراء العصر الغوري فقد وقعت بينه وبين قاضي قضاة عصره عبد البر بن الشحنة الحنفي، فتنة أوذي الشاعر بسببها، وليس هنا مجال تفصيلها وكان الشاعر قد هجا القاضي ونقده بقصيدة لاذعة مريرة رددها كل لسان وسارت بذكرها الركبان، وأبياتها إذا أغضينا النظر عن القاضي عبد البر - تصور إلى حد ما مفاسد القضاة تصويراً صادقاً. قال منها:

فشا الزور في مصر وفي جنباتها ... ولم لا وعبد البر قاضي قضاتها

أينكر في الأحكام زور وباطل ... وأحكامه فيها بمختلفاتها

إذا جاءه الدينار من وجه رشوة ... يرى أنه حل عن شبهاتها

ومنها:

ألست ترى الأوقاف كيف تبدلت ... وكانت على تقديرها وثباتها

وقد وثبت فيها قضاياه بالأذى ... وبالبيع مثل الأسد في وثباتها

وبعد فهذه فضالة مما وعاه الرأس وثمالة من رحيق الكأس، تنبئان عنهما كما ينبئ الشعاع عن الشمس.

محمود رزق سليم

مدرس بكلية اللغة العربية