مجلة الرسالة/العدد 761/عود إلى مسألة العقل

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 761/عود إلى مسألة العقل

ملاحظات: بتاريخ: 02 - 02 - 1948


للأستاذ عباس محمود العقاد

تلقيت تعليقين على مقالي السابق في الرسالة حول مناقشة الأستاذ نقولا الحداد في مسالة العقل والدماغ.

أول هذين التعليقين ينبهني إلى مسائل أخرى في مقال الأستاذ الحداد لم أتناولها بالرد، وهي كثيرة لا تنحصر في اصل العقل وعلاقته بالدماغ.

والتعليق الثاني يشير إلى قولي في ذلك المقال: (المعقول أن الإنسان تكلم لأنه فكر، وليس بمعقول انه يفكر لأنه يفكر لأنه يتكلم) ويسألني مزيدا من الإيضاح لرأي السلوكيين في هذا الموضوع.

أما أنني تناولت مسالة العقل دون غيرها من المسائل التي تضمنها مقال الأستاذ الحداد في عدد (المقتطف) الأخير فذلك صحيح وسببه إنني أردت التمثيل بطريقة الأستاذ الحداد في التفكير ولم أرد أن أتعقبه في كل فكرة وكل دليل.

فالأستاذ الحداد رجل فاضل مطلع على الآراء العلمية محب للبحث على الطريقة التي يسميها بالطريقة التجريبية، ولكنني احسبه - من كلامه - لم يشغل نفسه كثيرا بالمباحث الفلسفية، ولم يعود عقله أن يعطيها حقها من التقدير الواجب والتأمل الطويل. ولا يعاب الأستاذ على ذلك لأن الناس جميعاً لم يخلقوا لمباحث الفلسفة ودراساتها، بل حسب العارف من المعرفة ما تهيا له وجنح إليه بطبعه واستعداده، وإنما يؤخذ عليه أن يقدح في معرفة لم يملك أسباب الحكم عليه وأن يتصدى لرأي من الآراء بغير عدته التي تعينه على نقده وتمحيصه.

ولا نريد في هذا المقال أن نتعقب كل ما كتبه الأستاذ الحداد في مقاله بالمقتطف فربما أغنانا عن ذلك زيادة مثل أخر على انفراج الشقة بين طريقته الفكرية وبين الموضوعات التي يتصدى لها بغير عدتها.

فالأستاذ يستغرب مثلا قولنا (إن الموجود غير المعدوم) ويتساءل: (أي معنى تفيده عبارة غير المعدوم زيادة على الموجود؟ أليست عبارة غير المعدوم مرادفة لكلمة الموجود لا مفسرة لها؟ بل أليست كلمة موجود أوضح من عبارة غير المعدوم؟. . .) فلو أن الأستاذ الحداد كلف نفسه أن يراجع تعريفا واحدا من التعريفات المصطلح عليها لاستغنى عن هذه الأسئلة وأعادها إلى نفسه ليعلم إنها لا تبطل شيئا مما أراد إبطاله.

فتعريف الجزيرة مثلا هو إنها قطعة من الأرض يحيط بها الماء من جميع الجهات. فماذا نفهم من قطعة الأرض التي يحيط بها الماء إلا إنها الجزيرة؟.

وتعريف الخط المستقيم مثلا هو انه اقرب موصل بين نقطتين فماذا نفهم من اقرب موصل بين نقطتين إلا انه الخط المستقيم؟ هل تطالبني بإفهامك ما هي النقطة قبل أن تسلم بالوصل بين النقطتين؟ هل تطالبني بتعريف الجهات حول الدائرة أو حول المثلث أو حول المربع أو حلو المستطيل إذا كانت الجزيرة على شكل من هذه الأشكال؟.

كل ما يطلب من التعريف انه ينفي الالتباس ويحصر الصفة. فإذا قلت لي ما هي مزية وصفك الموجود بغير المعدوم؟ فهذه المزية هي إننا نخرج من هنا (غير المحسوس) و (غير المفهوم) و (غير المدرك) وغير المعلوم؛ فلا ننفي وجود شئ لأننا لا نحسه أو لا نفهمه أو لا ندركه أو لا نعلمه، ويصبح الموجود بذلك اعم واكبر من أن يلتبس بالمحسوسات والمدركات والمفهومات والمعلومات.

ولو أن الأستاذ احسن تطبيق هذا التعريف لما استطاع أن يقول أن المكان (هو العدم المطلق) كما قال في ذلك المقال.

فعلى طريقتنا نحن نقول أن المكان موجود لأنه غير معدوم ونقيم الدليل على انه غير معدوم بأنه يقاس ويحتوى الموجود ولا عدم لا يقاس ولا يحتوى الموجودات فلا يسعك أن تقول أن مترا مكعبا من العدم اكبر من قدم مكعبة من العدم. ولا يسعك أن تقول أن العدم المطلق يحتوى جميع الموجودات.

ولقد رأينا عقلا من اكبر العقول البشرية - كعقل اينشتين - يكاد يفسر الموجودات كلها بهذا الفضاء الذي يحسبه الأستاذ الحداد عدما مطلقا لا يوصف بمجرد الوجود.

فقد قال انشتين أن كل وصف للأثير يمكن أن ينطبق تمام الانطباق على الفضاء. ومن ثم وضع تلك الصيغة المشهورة عن المادة الفضائية وعنى بها أن الفضاء جوهر وقد يكون مصدر جميع الموجودات. فان مصدر جميع الموجودات من العدم المطلق في رأي الأستاذ الحداد؟ إذا كان رجحان الفكرة إنما يظهر لنا بمقدار ما تفسره من الأشياء التي لا تقبل التفسير بغيرها فالقول بان الفضاء مصدر جميع الموجودات يفسر لنا أمورا كثيرة لا نستطيع أن نفسرها الآن ومنها أن الأفلاك وما فيها من المادة نشأت من السدم الملتهبة. . . فمن جاءت السدم الملتهبة بالحرارة؟ هل جاءت بها منها أو من خارجها؟ فإذا كانت قد جاءت بها منها فقد فسرنا الماء بالماء. وإذا كان الفضاء هو مصدر كل حرارة فليس هو بالعدم المطلق كما يقول الأستاذ الحداد.

وهكذا يجهل الأستاذ الحداد معنى (غير المعدوم) فينتهي به الأمر إلى وصف اثبت الموجودات - أو مصدر الموجودات على هذا التقدير - بأنه العدم المطلق الذي لا يتصور له وجود. .!

أن إظهار الخطأ في مقياس التفكير عند الأستاذ الحداد يغنينا عن متابعة كل اعتراض يعترض به لي وجه التفصيل فذلك عناء يطول كل نقاش بين طرفين يجري على غير قياس.

ولعل هذا التمثيل قد أغنانا عن التفصيل والتطويل.

أما قولنا أن الإنسان يتكلم لأنه يفكر - فمرجعه عندنا إلى الحقيقة المشاهدة في التفكير والكلام.

فالحقيقة المشاهدة أن الإنسان قد يجد الفكرة ولا يجد لها كلاما. ولو كان الكلام هو مصدر التفكير لما وجد الفكر إلا حيث يوجد الكلام.

والحقيقة المشاهدة أننا نجد عقولا رياضية وعقولا فنية وعقولا علمية وعقولا فلسفية، وليس اختلافها في التفكير متوقفا على اختلافها في الكلام.

والحقيقة المشاهدة أن الكلام قد يضيق بأفكارنا فنلجأ إلى التعبير عنها بالرموز أو بتشبيهات المجاز أو بالأنغام والألحان ولو كان هو الأصل في تفكيرنا لما جاشت أنفسنا بفكرة واحدة لم تخلق لها قبل ذلك كلمة أو كلمات. والحقيقة المشاهدة أن كثيرا من المعاني العقلية ليست مما يتمثل للحس ويتسمى بالأسماء، ومنها الأقيسة والمقارنات.

ومذهب السلوكيين ينقض نفسه بنفسه في تعليل التفكير بالقدرة على الكلام. فانهم يزعمون أن الإنسان لم ينفرد بالسلوك أو يتفاعل الغرائز الجسدية التي تجري مجرى التصرف والتفكير. ولكنهم لا يذكرون لنا لغة للحيوان تصدر منها أفكاره أو تصرفاته، ولا مناص لهم من ذلك أن صح عندهم أن كل تفكير فمصدره لا محالة من الكلام.

وقد ناقش العالم النفساني الكبير وودورث هذا المذهب فساق من الأدلة على بطلانه أن الإنسان قد يقرأ قصيدة طويلة وهو يفكر - أثناء قراءتها - في شئ أخر. وليس ذلك بممكن لو كانت مسالة التفكير مسالة (عضلية) تتحرك فيها العضلات حين تحركها الكلمات.

وفي كتب هذه العلامة وكتب وليام مكدوجال على الخصوص إشباع واف للبحث في مذهب السلوكيين عن التفكير يرجع إليه من أراد التوسع في هذا الموضع.

ونوشك أن تقول أن تعليل التفكير بالكلام قد يكون تعليلا كافياً لأفكار السلوكيين ومن جرى مجراهم؛ ولكنه غير كاف لتعليل كل ضرب من ضروب الأفكار. . .!

عباس محمود العقاد