مجلة الرسالة/العدد 760/فاس عاصمة الأدارسة

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 760/فاس عاصمة الأدارسة

ملاحظات: بتاريخ: 26 - 01 - 1948


للأستاذ مصطفى بعيو الطرابلسي

بقيام الخلافة العباسية تبدأ صفحة جديدة في تاريخ العلويين تختلف تمام الاختلاف عما ألفناه في عهد بني أمية؛ فهم في هذه المرة يلجون إلى وسيلة جديدة لمناهضة أعدائهم وتحقيق أغراضهم.

هذه الطريقة الجديدة هي الانتشار في الأقطار الإسلامية بعيداً عن العاصمة وعيون الخلافة ومحاولة إنشاء خلافة علوية.

وربما كان العلويون في ذلك قد اهتدوا بهدي العباسيين عندما بعثوا بدعاتهم إلى البلاد الشرقية ولا سيما خراسان حيث نمت دعوتهم وترعرعت. وإذا كانت الخلافة العباسية قد وجدت من الظروف والملابسات ما ساعدها على القيام في المشرق فإن العلويين قد وجدوا في بلاد المغرب ظروفاً أخرى مشابهة ساعدتهم على تحقيق أغراضهم؛ فهي بعيدة عن مركز الخلافة بعداً كافياً يساعدهم على العمل والحركة بالإضافة إلى ما كان يسود تلك الجهات من تذمر بين اهلها الذين رأوا الغبن ينزل بهم رغم ما أبدوه من مساعدة فعالة للعرب في فتوحاتهم في أسبانيا، ولكنهم لم يقاسموهم الأغنام بل ولم يخفف الولاة ما كانوا يفرضونه عليهم من ضرائب. وبجانب هذا كله كانت النزعة الاستقلالية عند البربر في شمال أفريقية مازالت متحفزة تتحين الفرص لإظهار نفسها. وقد عانى العرب الكثير من جراء ذلك في سبيل إخضاع هذا الإقليم. لذلك كان أهله على استعداد للترحيب بأي داع للخروج على الخلافة العباسية في بغداد، وهذا ما نستطيع أن نعلل به انتشار مذهب الخوارج هناك وبالتالي المذهب الشيعي.

أما متى وكيف وصل الأدارسة إلى المغرب الأقصى وكيف استطاعوا إنشاء دولتهم هناك فهذا ما يمكن تلخيصه في السطور التالية.

على أثر فشل الحركة التي قام بها الحسين بن علي بن الحسن المثلث في عهد الخليفة الهادي تفرق أتباعه ومن بينهم عمه إدريس ابن عبد الله الكامل الذي فر إلى مصر صحبة مولاه وأمينة راشد ابن مرشد الزبيدي ومنها إلى شمال أفريقية بمساعدة الواضح صاحب بريد مصر الذي كان يبطن العقيدة الشيعية. وهناك أخذ يتنقل بين مدن المغرب الأقصى حتى انتهى به المطاف في مدينة وليلى حيث أكرمه أميرها إسحاق بن محمد زعيم قبيلة أوربة البربرية وأكثرها عدداً.

ولما علم إسحاق بحقيقة أمره وتأكد من صحة نسبه تنازل له عن إمارته وطلب من قبيلته وبقية القبائل الأخرى مبايعته فأجيب إلى طلبه.

وهنا يحق لنا أن نتساءل هل فعل إسحاق ذلك لاعتقاده أحقية إدريس في الإمارة دونه فأقدم على هذه التضحية في سبيل مبدئه، أم فعل ذلك لأغراض سياسية؟ ربما كان السبب الثاني أقوى للأخذ به؛ ذلك أن مظهر التضحية في سبيل العقيدة يتنافى مع ما كان عليه هذا الأمير من اعتناق لمذهب الخوارج في أول الأمر ثم تحوله إلى المذهب الشيعي. والواقع أن هذا الأمير أراد بسلوكه هذا أن يكسب لقومه أكثر مما خسر؛ فهو يأمل أن تقام هناك دولة في شمال أفريقية يكون له فيها ولأتباعه من البربر نفوذ كبير بعد أم يئسوا من إنصاف العرب لهم. فكأنهم كانوا يرمون إلى إنشاء دولة يكونون فيها العماد الرئيسي كما كان للفرس النفوذ الأكبر في العصر الأول للدولة العباسية. ويمكننا أيضاً تعليل هذا النجاح الذي صادفه إدريس في أول أمره بأنه كان قد اصطحب معه مولاه راشد بن مرشد الزبيدي وهو على ما قيل بربري الأصل أُسر أبوه في إحدى غزوات موسى بن نصير، فلما رجع مع إدريس إلى موطنه الأصلي كان خير مساعد له على بسط نفوذه هناك. هذا إلى ما كان عليه إدريس من ذكاء خارق وحسن سياسة؛ يتجلى لنا ذلك عندما أراد أن يشغل أتباعه حتى يضمن ولاءهم له، فخرج غازياً ناشراً الدين الإسلامي في البقاع المجاورة التي لم ينتشر فيها بعد.

هكذا وضع إدريس النواة الأولى لدولة الأدارسة في مدينة وليلى، واستطاع أن يكتسب صداقة الحكم بن هشام أمير الأندلس الذي أرسل إليه وفداً يهنئه بالأمارة الجديدة ويطلب إليه التحالف على من يناوئهما؛ فقابل الوفد بالحفاوة والإجلال. ولا شك أن الأغراض السياسية هي التي وحدت وقاربت بين نظريهما.

خاف الرشيد استفحال خطر إدريس بالمغرب الأقصى فسعى للتخلص منه؛ ولكن كيف السبيل إلى ذلك وهو على بعد لا يساعده على إرسال الجيوش للقضاء عليه؟ استشار في ذلك يحيى بن خالد البرمكي فأشار عليه بإرسال من يستطيع قتله فلقيت هذه الفكرة قبولاً في نفس الرشيد فعول على تنفيذها. وإذا كانت الروايات قد اختلفت في طريقة دس السم لإدريس، وهل أرسل إليه الرشيد مباشرة شخصاً لتنفيذ ذلك أو كلف إبراهيم بن الأغلب لإرسال من يقوم بهذه المهمة فإنها قد أجمعت كلها على وفاة إدريس مسموماً.

وعلى أي حال لم ينقرض حكم الأدارسة بموت إدريس الأول على رغم أنه لم يترك من يخلفه، وربما كان ذلك راجعاً لإخلاص البربر وحسن تدبير راشد السابق الذكر الذي استطاع أن يقنعهم بضرورة الانتظار حتى تضع كنزة جارية إدريس البربرية طفلها فإن كان ذكراً بايعوه، وإن كان أنثى أجمعوا رأيهم على من ينتخبوه. وتحقق الأمر ووضعت كنزة طفلاً هو إدريس الثاني الذي قضى عصر الوصاية كله في فتن لما كان يظهره إبراهيم بن الأغلب من تحرش بأتباعه. ولما كبر ذاع اسمه وأتته الوفود من سائر البلاد. وكان ممن وفد عليه خمسمائة فارس من أفريقية والأندلس من القيسية ولأزد والخزرج ومدلج وبني يحصب. فأكرم الإمام وفادتهم وأجزل صلاتهم وقربهم ورفعهم وجعلهم بطانته دون البربر. وربما كان هذا راجعاً إلى أنه كان يرى نفسه وحيداً بين البربر. ولكن الأمر ما لبث أن تطور إلى تفضيلهم علانية على البربر الذين انقلب عليهم فاستوزر رجلاً من العرب هو عمير بن مصعب الأزدي بدل إسحاق بن محمد الذي أنزل به غضبه فقتله رغم ما أداه لوالده من جلائل الأعمال بحجة موالاته لإبراهيم ابن الأغلب. وربما كان إدريس في عمله هذا غير محق؛ فهو قد اعتمد على البربر وتأييدهم ولولاهم ما وصل أبوه ولا هو من بعده إلى هذا المركز. ثم هو أيضاً يمت بصلة القربى إلى القبائل البربرية من جهة أمه، فتمرده عليه مظهر إن دل على شيء فهو يدل على حب التحرر من القيود والشعور بالخوف من البربر؛ وليس هذا بغريب في تاريخ قيام البيوت الإسلامية؛ فالخلافة العباسية في أول قيامها اعتمدت على العنصر الفارسي حتى إذا ما وثقت من نجاحها انقلبت عليه. وكذلك الحال في الخلافة الفاطمية؛ فالعوامل السياسية والأهواء الشخصية تتحكم كثيراً في مجرى الحوادث التاريخية.

ولما رأى إدريس الثاني أن الأمر قد استقام له، وأن مدينة وليلى لم تعد صالحة لأن تكون عاصمة لدولته عزم على الانتقال منها إلى مدينة يقوم بتخطيطها فيسكنها هو وخاصته وجنوده ووجوه أهل بيته. وربما كان إدريس في بنائه لهذه المدينة الجديدة وأعنى بها مدينة فاس مدفوعاً بعامل آخر هو ما اعتدنا ملاحظته عند قيام أي خلافة أو دولة إسلامية جديدة حتى يكون التجديد عاماً شاملاً. واختيار العواصم الجديدة ليس من الأمور السهلة؛ فهو يحتاج إلى دراسة وخبرة بالأمكنة المختارة حتى تؤدي العاصمة الغرض من إنشائها.

وقع بصره على جبل زالغ فأعجبه ارتفاعه وطيب تربته واعتدال هوائه فأمر ببناء العاصمة في سفحه. وبدأ العمل بسورها، ولكن ما لبث أن انحدر سيل من أعلى الجبل فهدم ما كان قد بناه من السور وحمل معه ما كان حوله من خيام العرب، فاضطر أن يرحل عن هذا المكان فانتقل إلى وادي سبوا فأعجبه المكان ولكنه خاف كثرة مياهه حتى لا تتكرر الحوادث. وأخيراً ترك أمر اختيار مكان عاصمته الجديدة لوزيره عمير بن مصعب الذي وفق كل التوفيق.

ذلك أن عميرا قد استمر يختبر البقاع حتى انتهى به المطاف إلى العيون التي ينبع منها نهر فاس، فلفت نظره كثرة عددها وقد سالت مياهها فسار مع مسيل الوادي حتى وصل إلى موضع مدينة فاس فأعجبه المكان إذ هو في وسط منبسط يفصل تلال الساحل عن جبال الأطلس الكبرى، وعلى الطريق الرئيسي الذي يعبر هضاب الأطلس، وحيث تلتقي أهم طرق مراكش البرية، وحيث يبدأ المخرج النهري لهذه الناحية وأعني به نهر سبوا الذي يصب في المحيط الأطلس والذي يعتبر أكبر أنهار مراكش. نظر عمير إلى ما بين الجبلين فإذا غيضة ملتفة الأشجار بها خيام من شعر لقبائل من زناته يعرفون بزواغة وبني يزغة فرجع إلى مولاه وأخبره بنتيجة بحثه فتفاءل إدريس باسم مالك هذه الجهة عندما عرف أنها ملك لقوم من زواغة يعرفون ببني الخير فاشتراها منهم.

(البقية في العدد القادم)

مصطفى بعيو الطرابلسي

ليسانسيه في الآداب من جامعة فاروق الأول