مجلة الرسالة/العدد 76/الدعوة إلى القصص

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 76/الدعوة إلى القصص

ملاحظات: بتاريخ: 17 - 12 - 1934



علام تقوم وماذا أنتجت؟

للأستاذ محمد عبد الله عنان

يجوز الأدب العربي اليوم حركة تطور وتجديد لا ريب في قوتها وأهميتها؛ والحركات الفكرية، كالحركات السياسية، عرضة للإغراق والتطرف، ولا سيما قبل أن تبلغ مرحلة النضج والاستقرار؛ وقد كانت حركتنا الأدبية عرضة لبعض هذه المظاهر المتطرفة؛ فقد أفرط البعض مثلا في التحدث عن الجديد والقديم دون أن يسفر هذا الجدل الخالد عن معان واضحة أو نتائج عملية؛ وقد زعم البعض أن التجديد هو إغفال الماضي كله، والسير وراء التفكير الغربي في حركة تقليد عمياء؛ وظهرت في الأعوام الأخيرة في حركتنا الأدبية خاصة تطرف أخرى، هي الإغراق في التحدث عن القصة وكتابة القصة، وفي تقدير المكانة التي يجب أن يتبوأها القصص في أدبنا؛ ويذهب بعض أصحاب هذا الحديث إلى أن القصص هو اعظم وأجمل وأقيم ما في الأدب الغربي، فيجب أن يكون له مثل هذه المكانة في أدبنا، ويجب أن ينصرف الكتاب إلى تأليف القصة حتى يصبح لنا تراث قصصي عريض مثلما في الأدب الغربي

وهذا قول يحتاج إلى بيان ومناقشة. نعم إن القصص يتبوأ في الآداب الغربية الحديثة أسمى مكانة؛ ولكنه ليس كل شيء في هذه الآداب، وليس هو أعظم شيء فيها؛ وإنما يتخذ القصص هذه المكانة في آداب عظيمة تفتحت فيها جميع نواحي التفكير والفن ونضجت، واتصلت مراحل نموها وتطورها مدى عصور. وللقصص الرفيع في هذه الحضارات والآداب العظيمة مهمة سامية أخرى غير متاع القراءة والرياضة العقلية، هي المعاونة في تربية النشء وتكوينه، وتكوين الأخلاق والخلال الفاضلة، والدعوة إلى المثل العليا. والقصص يتخذ أداة للتعبير عن خفايا النفس البشرية، وصياغة العواطف النبيلة والعبر المؤثرة، كما يتخذ أداة لعرض ما في اللغة القومية من كنوز البيان الساحر. وإنا لنتساءل أولاً: هل يفهم القصص في أدبنا على هذا النحو؟ وهل استطعنا بعد كل هذا الضجيج أن نخرج في ميدان القصص ما يمكن أن يرتفع، في فنه وفي قيمته الأدبية، إلى هذا المستوى؟ وهل نضجت حركتنا الأدبية واستكملت كل ما ينقصها من النواحي والعناصر التي يجب أن تمثل في كل الآداب العظيمة فلم يبق أمامنا إلا أن نعالج القصص وان نحسنه؟

إن القصص لم يتبوأ مكانته الرفيعة في الآداب الغربية ألا في العصر الحديث حينما ازدهرت هذه الآداب، واستكملت عناصرها الجوهرية. نعم إن القصص وجد في الآداب القديمة منذ اقدم العصور؛ ولكنه لم يشغل في الآداب القديمة ذلك الفراغ الشاسع الذي يشغله في الآداب الحديثة، وقد كان فوق ذلك من نوع خاص، قصصاً دينياً أو قصص بطولة أو فروسة قومية، ولم يخرج قصص العصور الوسطى في الآداب الغربية عن هذه الدائرة. ولنا مثل هذا القصص في أدبنا العربي القديم؛ ولكن الحركة الفكرية اضمحلت في الشرق في الوقت الذي نهضت فيه في الغرب وأخذت تتفتح في سائر النواحي وتنمو بخطى عظيمة؛ وبينما كانت الآداب الغربية تغزو ميادين جديدة، منها ميدان القصص، إذا بالحضارة الإسلامية والآداب العربية تخبو وتتراجع أمام الغزوات البربرية التي قام بها التتار والترك في سائر أنحاء العالم الإسلامي؛ ولما افتتح الترك مصر، وهي يومئذ ملاذ التفكير الإسلامي، لقيت الآداب العربية ضربتها القاضية، وركدت ريحها زهاء ثلاثة قرون، وتخلفت عن الآداب الغربية في كل نواحي التقدم؛ ولم تستطع أن تنهض من سباتها الطويل إلا بعد أن تقلص عنها ظل هذا النير البربري

وما نراه اليوم من نقص في نواحي حركتنا الفكرية، إنما هو من أثر هذا الاضطهاد الذي أصابها مدى هذه الأحقاب الطويلة؛ والقصص إحدى هذه النواحي، بيد انه ليس أهمها وأحقها بالعناية؛ فهنالك نواح أخرى في أدبنا لم تنضج ولم تستقر، وهنالك في ميادين العلوم والفنون نقص واضح، والقصص الرفيع عنوان حركات فكرية نضجت واستقرت وازدهرت فيها مختلف نواحي الثقافة والفنون. وقد يظهر القصص في آداب أمم وحضارات متأخرة، ولكنه يكون قصصاً ساذجاً تنقصه عناصر الفن والتفكير. وإذا كان من المسلم به أن حركتنا الفكرية لا زالت بحاجة إلى استكمال كثير من العناصر الجوهرية، فليس مما يقويها ويدعمها، أن ننصرف إلى نواح دون أخرى، وأن نؤثر بعض هذه النواحي بالأهمية والخطورة، وأن نصورها خلاصة الفن والأدب، وكل شيء فيهما، على نحو ما يصور البعض كتابة القصص، فمثل هذا الإغراق لا يخدم قضية الأدب والثقافة؛ ولكنه بالعكس يجنى عليها إذا أثمر ثمره في الأذهان والأقلام الناشئة. وهذا ما يلوح لنا أنه يحدث اليوم في حركتنا الأدبية؛ فقد ذهب أصحاب الدعوة إلى القصص في تصوير أهميته وقيمته الأدبية إلى حدود بعيدة، وتأثر بهذه الدعوة المغرقة كثير من الشباب الذين لم يستكملوا كل عناصر الثقافة القوية، فانصرفوا إلى قراءة القصص والى كتابته، حتى أصبحنا أمام سيل من القصص الساذج الغث يشغل وقت الشباب والناشئين

والآن لنر ماذا كانت نتائج هذه الدعوة، وهل أسفرت حقاً من الوجهة الأدبية عن نتائج تذكر. وأول ما يلفت النظر هو كثرة القصص التي تغمر الصحف والمجلات. ولكن الكمية ليست هي كل ما في الإنتاج الأدبي، وإنما يهم النوع قبل كل شيء؛ ومن الزعم الباطل أن يقال إننا استطعنا أن نخرج حتى اليوم آثاراً قصصية ترتفع في قيمتها الأدبية والفنية إلى مستوى القصص الغربي؛ وقد نظفر بآثار قليلة تمتاز بشيء من القوة والطرافة، ولكنها مع ذلك تحمل طابع المجهود الأول، وينقصها كثير من العناصر الفنية؛ أما الكثرة الساحقة من هذا القصص الذي يغمر اليوم ميدان أدبنا، فليست لها أية قيمة أدبية تذكر؛ ويلاحظ أولاً أن كثيراً من القصص الذي يبدو في ثوب التأليف إنما هو قصص منقول عن الأدب الغربي، يصاغ في أثواب مصرية لكي تضيع معالمه، ولكنه ينم دائما على حقيقته؛ ولا نلمس في هذا القصص الناشئ أية لمحة من الفن الحقيقي أو الخيال الشائق؛ ثم هو لا يكاد يحظى بأي قسط من البيان القوي، بل يعرض دائماً في أساليب ضعيفة ينقصها روح التعبير القوي، ويبدو فيها أثر التقليد والنقل واضحاً؛ ولسنا ندري ماذا تكون القيمة الأدبية لقصص عاطل عن مزايا الفن والخيال والبيان معاً، وكل ما فيه أنه قصص فقط؛ أضف إلى ذلك أن هذا السيل المتصل من القصص ينقصه عنصر التوجيه والثقافة، فهو لا يتجه إلى غاية ثقافية معينة، ولا تحدوه أية مثل اجتماعية، أو أخلاقية محترمة

ولقد قام القصص الغربي في معظم الأحيان على تراث التاريخ والحضارة، وما زال في كل أمة معرضاً قوياً للتاريخ القومي والحياة الاجتماعية القومية، ولكن ما هي المواد التي يستقي منها كتاب (القصص) عندنا؟ وأي نواح من حياتنا الاجتماعية أو تاريخنا القومي استطاعوا أن يعرضوه؟ إنهم في الواقع يعرضون صوراً باهتة من الحياة الاجتماعية الغربية، ويحاولون أن ينسبوها للحياة الاجتماعية المصرية. ذلك لأنهم مقلدون ناقلون في الغالب، يندفعون وراء نزعة لم تقم على الدرس الصحيح؛ وهل قصص الحب المبتذل، ومناظر المسارح والملاهي والمراقص، ومقابلات السينما والشاطئ (البلاج)، والمراسلات الغرامية السخيفة، هي كل ما في الحياة الاجتماعية المصرية؟ ولقد كان لنا ثمة مادة بديعة للقصص في تاريخنا القومي، فهو حافل بصنوف المآسي الملوكية والشعبية، والحوادث والمواقف الشائقة، فهل فطن أحد من كتاب القصص إلى هذا الكنز الزاخر والمورد الخصب؟

ولقد قلنا انهم يزعمون أن الرجوع إلى الماضي ينافي دعوة (التجديد) التي يضجون بها، ولا يستطيعون فهمها أو تحديد معانيها، فهم لذلك لا يعنون بالتنقيب في تراثنا الغابر؛ ولكن الواقع انهم لا يفعلون ذلك تعففاً أو قصداً وإنما هو القصور وانقطاع الصلة الروحية لديهم بين مراحل الأدب الذين يزعمون أنهم طلائعه. والبحث يجشمهم جهوداً لا يستطيعون الاضطلاع بها. على أن القصص الرفيع في الآداب الغربية يفسح أكبر مجال لمآسي التاريخ وحوادثه. ويكفي أن نذكر بعض الأسماء لتأييد هذه الحقيقة، فقد كان التاريخ وحده تقريباً مادة شيللر في جميع قصصه المسرحية؛ وكان أروع ما أخرجه سنكيفتش قصته التاريخية الرومانية (كوفاديس) التي تعتبر من أعظم ما أخرج القصص الغربي؛ وكتب لورد ليتون (أيام بامبياي الأخيرة)، وكتبت جورج اليوت (رومولا) وعرض إسكندر ديما مراحل التاريخ الفرنسي في سلسلة من القصص التاريخية البديعة. بل لقد ألفى بعض أكابر كتاب الغرب في تاريخنا، وفي التاريخ الإسلامي مادة نفيسة؛ فكتب تشارلس كنجسلي (هيباسيا) عن العصر اليوناني الروماني في مصر، وكتب اسكوت (ايفانهو) عن بعض حوادث الحروب الصليبية، وصاغ فون هامار ولاهارب مصرع البرامكة في قالب قصصي بديع، وكتب شاتوبريان (آخر بني سراج) إلى غير ذلك مما يضيق المقام بذكره

والخلاصة أننا كلما تأملنا هذه الدعوة الصاخبة إلى كتابه القصص واعتباره كل ما في الأدب من قيم ونفيس، وتأملنا ما انتهت إليه من النتائج العملية، ألفينا فراغاً في كل ناحية، وألفينا فشلاً مطبقاً. والفشل دائماً حليف كل نزعة أو حركة لا تقوم على قواعد صحيحة، ولا تتوسل إلى غاياتها بالوسائل الطبيعية؛ وقد فشلت هذه الحركة المغرقة، لأنها قصدت أن تبتدئ حيث يجب الانتهاء، ولم تسر في مراحل التدرج؛ جنباً إلى جنب مع باقي نواحي الحركة الأدبية؛ ولم تقم بالأخص على الدرس والبحث، وإنما قامت على عوامل وبواعث مصطنعة. أراد فريق من كتابنا أن يصبحوا بين الأمس واليوم من أساتذة القصص، وأن يناهضوا كتاب القصص الغربيين الذين كونتهم حضارة وآداب وثقافات مؤثلة متصلة المراحل، وتصورا أنهم يستطيعون تحقيق هذه الغاية بإخراج هذه القطع الركيكة الذابلة التي تنقصها كل عناصر الفن والخيال والبيان

ونحن نقدر قيمة القصص ورفيع مكانته في الأدب الغربي، ولكنا نود فقط أن نعرض الأمور على حقيقتها، وأن نلفت النظر إلى ما يترتب على هذا الإغراق في شأن القصص من الآثار السيئة في حركتنا الأدبية، وهي لم تستكمل بعد كل عناصر النضج والاستقرار. ولقد كان الاندفاع في هذا التيار على هذا النحو من وجوه الضعف في حركتنا الأدبية؛ لأنه يستغرق جهوداً كان خليقاً أن تصرف في نواحي أخرى؛ ولقد كان الجهد كبيراً مستفيضاً، ولكن دون تبصر وتمكن، فجاء الغم ضئيلاً يدعوا إلى الرثاء. ومن المبالغة أن نقول إننا قد استطعنا أن نغزو بعد ميدان القصص الرفيع، أو إننا أخرجنا تراثاً قصصياً يجدر بالتقدير والاحترام.

محمد عبد الله عنان المحامي