مجلة الرسالة/العدد 759/طرائف من العصر المملوكي:
مجلة الرسالة/العدد 759/طرائف من العصر المملوكي:
الحركة العلمية
للأستاذ محمود رزق سليم
جميل بنا أن نعني بدراسة تاريخ مصر، ونتعرف إلى نواحيه المختلفة، لنشهد ما قدمه بنوها في أجيالهم المتعاقبة من جهود في مضمار العلم والأدب، ولنعرف مكاننا من المدينة، وموقفنا من الحضارة الفكرية. فان مصر في عصورها المتعددة كانت تشترك باستمرار وبرغبة ذاتية في بناء المدينة والحضارة، وتسعى دائبة لرفع لوائهما ونشر سلطانهما.
والعصر الذي نحن بصدده، عصر فريد من عصور مصر، وبخاصة في اتجاهاته العلمية، وهو لذلك جدير بالبحث والتمحيص اكثر مما بحث ومحص. بل لا أغلو إذا قلت أن الغموض لا يزال يكتفه من نواح عدة. بل لا تزال الفكرة المركزة في أذهان كثير من الأدباء عنه، مشوهة ظالمة. ولذلك يتأبى بعضهم على البحث فيه وتمحيص نواحيه. مع أن أبناءه حملوا من أمانة العلم والأدب ما يئود. ألقته المقادير على كواهلهم إلقاء فحملوا الأمانة وأدوا الرسالة، صابرين في الحمل، محسنين في الأداء.
نهضت بغداد من قبل، برسالة العلم، والأدب زهاء خمسة قرون وكانت - في الجملة - شمسا للبلاد الإسلامية شرقيها وغربيها تستضئ بهديها. وتسير على قبس منها. فلما دهمها التتار عام 656هـ، وأزالوا خلافتها، ونكلوا بأبنائها وعبثوا بمؤلفاتها، ضاعت بذلك ثمار كثيرة من ثمار هذه القرون الخمسة، ووقفت بها رحى العلوم والآداب إلا لماما. هنا لم تجد القاهرة بداً من الظهور في الميدان، أكثر مما كانت ظاهرة، وتقدمت لحمل أمانة العلم والأدب برغبة وشجاعة. ولولا تقدمها لخبا الزناد وكبا الجواد، وانقطعت سلسلة العلوم والآداب الإسلامية، وتوارت عن الأنظار أمداً طويلا.
وقد هيأ الله للقاهرة من الأسباب ما عاونها على بلوغ غايتها. فقد كانت حينذاك عاصمة لأقوى مملكة إسلامية، ورزقت ملوكا أحسوا أن عليهم واجب حماية الدين والحرص على بلاد المسلمين. فدافعوا عنها أعداءها، ووطئوا للعلماء أكتافهم، ورحبوا بالقادمين منهم إلى مصر. وأغرى العلماء ما في مصر من خير وكرم وحسن وفادة وطيب لقاء. فوفدوا إليها تباعا من كل فج، واتخذها بعضهم دار مقام، حتى أصبحت منتدى العرب وحج المسلمين، وقبلة علمائهم وطلاب العلم فيهم من كل بلد ومحلة.
وقد دعمت هذه الحياة بتجديد الخلافة الإسلامية منذ عصر الظاهر بيبرس. فأصبحت الخلافة - على علاتها - ذات قوة أدبية لها تأثيرها الروحي في نشاط الحركة العلمية الإسلامية، وعاونت مصر على أن تكون بيئة دينية صالحة جليلة القدر، ينبت فيها ويفئ إليها علماء الدين على اختلاف مذاهبهم.
ولم يدخر السلاطين وسعا - كما نوهنا - في تبجيل العلماء وتعظيمهم أمام الخاصة والعامة، حتى اطمأنت نفوسهم، ولم يلههم عن الإنتاج العلمي شئ من جوع أو خوف، وحرصت أجيالهم الناشئة على متابعة جهودهم العلمية لتظل لهم هذه المنزلة السامية لدى السلاطين والشعب.
ونذكر منهم على سبيل المثال: عز الدين بن عبد السلام وكان يدعى بسلطان العلماء، وكان الظاهر بيبرس يهابه ويقدر رأيه. وتقي الدين بن دقيق العيد، كان السلطان لاجين يقبل يده. وعلاء الدين السيرامي فرش له السلطان برقوق السجادة بيده.
والى جانب هذا سرت في السلاطين والأمراء ومن إليهم، روح عجيبة قوية لإبقاء أثرهم وتخليد ذكراهم. واتخذوا إنشاء المساجد الجامعة في مقدمة وسائل هذا الإبقاء والتخليد، قربى إلى الله وزلفى، وليتعبد فيا الناس وليتفقهوا في دينهم؛ وقرروا فيا الدروس، وعينوا لكل درس شيخا، ورصدوا لذلك الأوقاف الطائلة، ليقضوا لهذه المدارس بقاء طويلا، واجروا على الطلبة المنقطعين فيها لطلب العلم نفقات وأطعمة وأكسية، والحقوا بكل مدرسة دار كتب قيمة حسدوا إليها الآلاف من المؤلفات الثمينة.
ولم تكن هذه الجهود مقصورة على مدينة القاهرة وحدها. بل اشتهرت إلى جانبها مدن أخرى كثيرة كالإسكندرية وأسيوط وقوص ودمياط ومنفلوط وبوتيج وأخميم وأسوان وبلببيس، هذه فضلا عن المدن الشامية والحلبية والحجازية.
وبلغ عدد مدارس القاهرة نحو خمسين فوق ما أنشأه الأيوبيون والفاطميون من قبل ولا يزال كثير منها مائلا للعيان في القاهرة حتى اليوم.
وفي مقدمة هذه المعاهد التعليمية مستشفى قلاوون. بناء عام 682 هـ. وكان عبارة عن مدرسة للطب كبيرة. به قسم للحميات، وقسم للرمد، وقسم للجراحة، وقسم للأمراض النسوية، غير ذلك. وجهز بمن يهيمن عليه من الأطباء والموظفين والممرضين والصيدلانيين. كما زود بأدوات العلاج والصيدليات. واعدت به أسرة للمرضى، وقسم للعلاج الخارجي وكل ذلك بالمجان. وهيئت به قاعة محاضرات تلقى بها دروس الطب، كما زود بخزانة كتب جليلة القدر.
هذه العوامل جميعها من شانها أن توقظ الهمة وتشحذ العزيمة، وتهيئ السبيل إلى الاشتغال الجدي العلم. وقد انتهز العلماء هذه الفرصة النادرة، وتلك الموارد الشهية التي أتيحت لهم، فنهلوا منها وعلوا. وكان لهم مما أصاب العرب والمسلمين في ثرائهم الفكري، ببغداد وغيرها خير حافز على النهوض بتدوين العلوم تدوينا جديدا، وبالإضافة إليه كلما وجدوا مزيدا، حتى يعوضوا اللغة والدين شيئا مما فقداه في محنهما، وحتى يبرئوا الذمة أمام الله والتاريخ ويبرهنوا إنهم حملوا العبء بلقب ثابت ونفس راضية
وقد كان لهذه الحركة العلمية مظاهر متعددة، أهمها مظهران هما: الحركة التعليمية، والحركة التأليفية.
أما الحركة التعليمية فقد انتعشت انتعاشا محمودا. وكان بالبلاد نوعان من التعليم هما: التعليم العسكري، والتعليم الشعبي.
أما العسكري فقد كان مقصورة على طائفة المماليك، محظورا على أفراد الشعب. وهذه إحدى نقائصه على طائفة المماليك، محظورا على أفراد الشعب. وهذه إحدى نقائصه في نظر المؤرخ الوطني. وكانت طباق القلعة المقر الرسمي لجنود الدولة منذ عصر قلاوون. يجلبون إليها من الأسواق صغار ويقسمون فرقا حسب أجناسهم ويقيم في كل طبقة جنس يشرف عليه عدد من الزمامين (الأغوات) ويقوم هؤلاء الصغار بتمرينات رياضية سهلة مناسبة ويعلمون الكتابة والقراءة ويلقون آيات من الذكر الحكيم. ويعودون الصلات وبعض الفروض الدينية، ويحفظون شيئا من الأدعية وتحبب إليهم الأخلاق الفاضلة والدفاع عن الدين والجهاد في سبيل الله. ثم إذا بلغوا الحلم يعلمون تمرينات رياضية اشد قسوة، ويمرنون على السباحة واستعمال السيف والرمح، وقذف الأطواق وركوب الخيل والمبارزة ورمي النشاب ولعب الكرة. وفي هذه المرحلة تنضج مواهب المملوك وتبرز خصائصه وتبدو مهارته وشجاعته. فإذا عرف فضله وشهد بلاؤه صار في عداد المحاربين ثم قد يدفع به حظه إلى العتق ثم الترقي في سلك الامارة، وقد تسوق إليه المقادير في أعقاب ذلك سلطنة البلاد.
وقد عنى السلاطين عناية بالغة بتنشئة مماليكهم تنشئة عسكرية صالحة، كما عنوا بطعامهم وشرابهم وصحتهم فتخرجوا - كما قال المقريزي - (سادة يدبرون الممالك، وقادة يجاهدون في سبيل الله، وأهل سياسة يبالغون في إظهار الجميل) وبتوالي الأيام تراخى السلاطين في بذل هذه العناية فاضطرب نظامهم شيئا فشيئا، وكان لذلك أثره السيئ في أخلاقهم، فانقسموا شيعا، وتدخلوا في سياسة الدولة فافسدوها، وشغلوها بأطماعهم غير المشروعة وقعدوا عن الجهاد الصادق، حتى صاروا كما قال المقريزي (أرذل الناس وأدناهم وأخسهم قدراً، وأشحهم نفساً، وأجهلهم بأمر الدنيا، وأكثرهم إعراضاً عن الدين، ما فيهم إلا من هو أزنى من قرد وألص من فارة، وافسد من ذئب).
أما التعليم الشعبي فقد كان مقره المساجد وما شابهها مما أنشأه السلاطين والأمراء ومن لف لفهم - كما ذكرنا - ومهما قيل في سبب انشائها، فهي لا شك كانت الدعامة الأولى من دعائم هذا التعليم. وقد كانت بمثابة جامعات علمية عظيمة الشان بها من الجامعات الحديثة خصائصها ومميزاتها، وإن افترقت عنها في الشكل والعرض بل لعل التعليم بها كان ميسرا اكثر مما هو ميسر اليوم. وكان الطالب بها حرات يندمج في إعداد من يشاء من الطلاب ويقعد أمام من يشاء من الأساتذة. ويضع جدول حصصه بنفسه، ويطوف على كل مسجد إذا شاء ليقتطف منه أشهى ثمراته. ولا يتحمل في سبيل ذلك من نفقات التعليم، بل بالعكس كان يجد البر والمعونة من كثير من أهل الفضل فإذا أتم إحدى مراحل تعليمه بقراءة كتاب في مادة أو بحفظ طائفة من الأحاديث أو نحو ذلك، منحه شيخه إجازة يشهد له فيها بتمام هذه المرحلة.
وكان السلاطين يعنون عناية دقيقة باختيار الشيوخ المدرسين في مدارسهم، ينتخبونهم من بين الأفذاذ المشهود لهم بالعلم والفضل والذين لا ينون يجعلون العلم ونشره غايتهم الكبرى. وكان بعض هؤلاء الشيوخ يستمر في مدرسته طويلا، ويلازمها، حتى لنستطيع القول - جملة - أن كل مدرسة كان بها منهم هيئة تدريس خاصة بها. لكل مادة من المواد المقررة بها أستاذ. ونذكر على سبيل المثال شيوخ الجامع المؤيدي وهم: شهاب الدين بن حجر العسقلاني لفقه الشافعية. ويحيى بن محمد بن احمد البخائي المغربي لفقه المالكية. وعز الدين عبد العزيز بن علي بن الفخر البغدادي لفقه الحنابلة. وبدر الدين محمود العينتابي للحديث. وشمس الدين محمد بن يحيى للقراءات. وشمس الدين محمد بن الديري لفقه الحنفية وشيخ للصوفية. وهكذا.
أما مواد التعليم فقد كان طبيعيا أن تكون العلوم الدينية في مقدمتها، بدافع من رد الفعل الذي أحدثته حوادث اغتيال العلماء ومؤلفاتهم، في بغداد وسواها من عواصم المسلمين. وبدافع ما أشرنا إليه من أن البيئة المصرية تحولت إلى حد ما بيئة دينية ألقيت عليها تبعات الذود عن الدين وعلومه وأهله. ويليها علوم اللغة للحاجة الماسة إليها في درس العلوم الدينية وضبط شئون الدولة. ويليها غيرها من المواد لأنها تكمل المتعلم وتؤهله لتركيز علمه. وكانت مواد التعليم هي الفقه بمذاهبه الأربعة، وأصول الفقه، والحديث والتفسير والقراءات والوعظ والكلام والتصوف ثم درس النحو والصرف والأدب، ثم الطب والفلك والهندسة والتاريخ والتقويم والرياضة.
وقبل أن يدرس الطالب هذه الدراسة، يمر بأحد المكاتب المنشأة بجوار المساجد، ليحفظ به القرآن الكريم ويتعلم مبادئ القراءة والكتابة.
ولم يكن لدور التعليم مناهج خاصة في موادها المقررة. واغلب الظن أن منهج المادة كان رهنا برغبة أستاذها. فهو وحده يختار الكتاب الذي يقرؤه فيها لطلابه. ومهما يكن من شئ فقد سعدت كتب خاصة باتخاذها مناهج لموادها المقررة. نعرف ذلك إذا اطلعنا على تراجم الأعلام من علماء العصر؛ لذلك نستطيع القول أن من بين الكتب التي اتجهت العناية إليها لدراستها ما يلي: التنبيه. المنهاج الأصلي للنووي. الشاطبيتان في القراءات العمدة للحافظ النسفي في الأصول. والكافية لابن الحاجب في العربية. ومختصر القدوري في الفقه. وجمع الجوامع. والأربعون حديثا النووية وتلخيص المفتاح في البلاغة، والكنز في فقه الأحناف. والمنار في الأصول. وألفية ابن مالك في النحو. والملحة. والمختار والمنظومة كلاهما للنسفي في الفقه. ونظم قواعد الإعراب لابن الهائم. وايساغوجي في المنطق وكتب الحديث الستة.
وقد امتلأت المساجد بطلاب العلم على اختلاف مذاهبهم، واختلاف بلادهم، ممن وفدوا على مصر يستظلون بطلها ويستمدون رفدها وينهلون من مواردها. حتى ضاف بهم بعضها على رحبة، وكان منهم (المنتسبون) وهم الدائمون الذين قيدت أسماؤهم لينالوا شيئا من الأوقاف بصفة مستمرة. أما غيرهم فأخلاط شتى من محبي العلم من الشعب.
وأهم ما يوجه إلى هذا الضرب التعليمي من النقد - إذا نظرنا إليه نظرة حديثة - أنه لم يكن سياسة للدولة مرسومة، بل كان نتيجة جهود فردية، وأنه لم يؤد إلى الشعب باعتباره حقا من حقوقه، بل باعتباره منحة له وتفضلا عليه، وأن الأساتذة عنوا بنشر العلم فحسب، ولم يتخذوه وسيلة إلى إيقاظ الشعب وتنبيهه إلى حقوقه وواجباته.
غير أنه - بلا شك - نظام قد انجب. واغلب بخبائه من رجال الدين. وبلغ بعضهم مرتبة الأئمة المجتهدين. قاموا بحركة تأليفيه مباركة، هي حلقة غريدة من حلقات العلوم والآداب كان لا بد لحياة العلم والأدب من وجودها.
أما هذه الحركة التأليفية فكانت المظهر الخالد للحركة العلمية. وشجعها السلاطيندعوا العلماء أحيانا إلى التأليف برسم الخزانات الشريفة. فمنهم المؤرخ أبو بكر بن ايبك، الف كتابه (كنز الدرر) للناصر بن قلاوون. والطبيب محمد القوصي ألف للغوري كتاب (كمال الفرحة) في الطب وعماد الدين موسى بن محمد الحروب) للسلطان جقمق.
على أن التأليف لم يكن وقفا على تشجيع السلاطين أو سواهم، بل كان غاية من غايات العلماء. لذلك نشطوا في ميدانه نشاطا هو مثار الدهشة والعجب، لبلوغه حدا من الإعجاز وتعددت مؤلفات بعضهم حتى عدت بالمئات، وفي فنون شتى. واتسعت أحيانا حتى صارت موسوعات جامعة امتدت فيها أفاق العلم. وعنوا بعلوم الدين أولا، ثم التاريخ وفنون العربية، ثم غيرها. وحظي تاريخ الأعلام والخطط بنصيب كبير من العناية. وهكذا ترى أن مؤلفاتهم لا غنية عنها للفقيه والمؤرخ واللغوي والأديب والمحدث والنحوي والبلاغي وغيرهم. وبعضها يعد فريدا في بابه منقطع النظير.
وأهم ما يوجهه الناقد إليها أن بعضها رسائل صغيرة، وأن منها ما يشوبه الجمع والنقل ويندر فيه الابتكار. وأن منها المتون وشروحها ومختصرات شروحها. غير أن هذه النقدات يسهل الرد عليها وتعليلها فيساق العصر كان يدعو إليها إسراعاً إلى تدوين المحفوظ وعجلة إلى تسجيله حذرا من أن تعبث به يد الزمان ثم هيهات أن تقلل هذه النقدات من خطر تلك المؤلفات. وإلا فأين فيما ألفه السابقون كتاب كالإتقان للسيوطي، أو شرح البخاري ومقدمته لابن حجر، أو الفتاوى لابن تيميه، أو المدارج لابن القيم أو المغني لابن هشام، أو الجموع للنووي، أو تكملة للتقي السبكي. أو الخطط للمقريزي. بل اين مثل ما كتبه مؤرخ مصر في تاريخها وتاريخ أعلامها من أمثال الإدفوي وابن خلكان والتاج السبكي وصاحب الدرر، وأبي المحاسن والصفدي وابن إياس والسخاوي بل أين الموسعات التي تشابه موسعات القلقشندي والنويري وابن منظور وابن فضل الله؟
وبعد فهذا غيض من فيض وقل من كثر ولمحة خاطفة من شمس ضاحية، وقبس عاجل من سراج وهاج.
(حلوان)
محمود رزق سليم