انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 758/الكندي ورجال الدين

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 758/الكندي ورجال الدين

ملاحظات: بتاريخ: 12 - 01 - 1948



للدكتور أحمد فؤاد الاهواني

بين الفلسفة والدين، وبين الفلاسفة ورجال الدين، خصومة قديمة تذهب إلى أبعد العصور، ولا تزال سارية حتى اليوم. فقد كانت التهمة التي وجهت إلى سقراط أنه أنكر آلهة اليونان، ومن أجل ذلك حكموا عليه بالإعدام. وتاريخ الحضارة الإسلامية يسجل صراعا مستمرا حادا بين الفلاسفة ورجال الدين، أشتهر بعضه، وخفي عنا بعضه الأخر. وأظنك لا تجهل كيف نهض الغزالي يهاجم الفلاسفة هجوما عنيفا في كتابه تهافت الفلاسفة، وانبرى له أبن رشد يفند أقواله في (تهافت التهافت) كما ألف في التوفيق بين الفلاسفة والدين، ويدعو إلى رفع الخلاف عنهما كتاب (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال). ولا نحب أن نستعرض كل ما وقع في تاريخ الفكر، فالخصومة أشهر من الاستعراض ولا تحتاج إلى استرسال. غير أنا نحب أن ننشر صفحة طواها التاريخ أجيالا، وسعى الباحثون عنها فلم يجدوا إلا ظلا وخيالا، تلك هي صفحة الكندي، فيلسوف العرب، الذي ضاعت كتبه، وطويت في بطون المخطوطات، حتى كشف حديثا عن جملة من رسائله، تفصح عن فلسفته، وتلقى الضوء على مذهبه.

وسوف نحدثك في هذه الكلمة عن جانب واحد من جوانب فكره: هو موقفه من الدين ورجاله، فنذكر طرفا من احتجاجه وجداله.

فقد شاع عن الكندي أنه ينتسب إلى يونان، وانه كفر بعد اصطناع آرائهم في الفلسفة، كما روى المسعودي في مروج الذهب فقال: (وقد كان يعقوب الكندي يذهب في نسب يونان إلى ما ذكرنا: أنه أخ لقحطان، ويحتج لذلك بأخبار يذكرها في بدء الأشياء. . . وقد رد عليه أبو العباس عبد الله بن محمد الناشئ في قصيدة له طويلة، ووكد خلطه نسب يونان بقحطان على حسب ما ذكرنا أنفا في صدد هذا الباب، فقال:

أبا يوسف أني نظرت فلم أجد ... على الفحص رأيا صح منك ولا عقدا

وصرت حكيما عند قوم إذا أمرؤ ... بلاهم جميعا لم يجد عندهم عندا

أتقرن إلحادا بدين محمد ... لقد جئت فينا يا أخا كنده أد

وتخلط يونان بقحطان ضلة ... لعمري لقد باعدت بينهم ونحن نرى أن الكندي برئ من التهمتين جميعا: تهمة الانتساب إلى اليونان وتهمة الإلحاد. وإنما شاع ما شاع عنه بدافع أغراء الحساد والمنافسين. ذكر أبن النديم في الفهرست عند الكلام على أبي معشر المنجم (أنه كان أولا من أصحاب الحديث. وكان يتضاغن الكندي، ويغري به العامة، ويشنع عليه بعلوم الفلاسفة).

وأنصفه المغفور له مصطفى عبد الرزاق في بحث له عن الكندي فقال: (هكذا يبلغ العبث بالتاريخ حدا يشوه من خلق الكندي ومن عقله، وقد كان الرجل في خلقه وفي عقله من أعظم ما عرف البشر).

وأكبر الظن أن المعاصرين للكندي أضافوا إليه القول بالانتساب إلى يونان، لما رأوه من انصرافه إلى البحث في الفلسفة اليونانية، ونقل أراء الفلاسفة وكتبهم إلى العربية، مع تحبيذ هذه الآراء والدفاع عنها. القفطي في أخبار الحكماء أن الكندي هو المشتهر في الملة الإسلامية بالتبحر في فنون الحكمة طبقات الأطباء (حذاق الترجمة في الإسلام أربعة: حنين بن إسحاق، ويعقوب بن إسحاق الكندي، وثابت بن قرة الحراني، وعمر بن الفرخان الطبري).

كان الكندي أذن حذاق المترجمين عن اليونانية، وله في الدفاع عن الفلسفة اليونانية حجة لطيفة خلاصتها أن الفرد الواحد لا يستطيع بلوغ الحق وحده فلا بد من التعاون في الفكر والأخذ عن المتقدمين إلى أن قال: (وغير ممكن أن يجتمع في زمن المرء الواحد وان اتسعت مدته، واشتدت بحثه، ولطف نظره، واثر الداب، ما أجتمع بمثل ذلك من شدة البحث، وألطاف النظر وإيثار الدأب في أضعاف ذلك الزمان الأضعاف الكثير. فأما أرسطو طاليس، مبرز اليونانيين في الفلسفة فقال: ينبغي لنا أن نشكر أباء الذين أتوا بشيء من الحق، إذ كانوا سبب كونهم، فضلا عن أنهم سبب لهم. وإذ هم سبب لنا إلى نيل الحق، فما أحسن ما قال في ذلك).

ثم أضاف بعد ذلك: وينبغي لنا إلا نستحي من استحسان الحق، واقتناء الحق من أين أتى، من الأجناس القاصة عنا والأمم المباينة. . .).

ولسنا ندري هل كان الكندي هو الذي بدا الهجوم على رجال الدين، أم كان يدفع عن نفسه هجماتهم. ذلك أن الفلسفة لم تكن قد أوغلت في الحضارة الإسلامية، ولم يكن العهد بينه وبين عصر المأمون بعيدا، والمأمون كما نعرف هو الذي شجع حركة النقل وأنشأ في بغداد دار الحكمة، وبعث في طلب كتب الطب والفلسفة وأجرى الأرزاق على المترجمين، وكان أغلبهم من السريان. والراجح أن الكندي هو أول فيلسوف عربي، وأول ناقل عربي، ولهذا قالوا عنه (فيلسوف العرب).

وكانت السنة رجال الدين حادة عنيفة ترمى المشتغلين بالفلسفة بالكفر، على الرغم من دفاع الخلفاء عنهم في صدر حركة النقل. وهذا هو السبب الذي دعا الكندي إلى الحذر في نقل جميع أراء أرسطو، وفي ذلك يقول: (توقيا سوء تأويل كثير من المتسمين بالنظر في دهرنا من أهل الغربة عن الحق، وإن تتوجوا بتيجان الحق من غير استحقاق؛ لضيق فطنتهم عن أساليب الحق، وقلة معرفتهم بما يستحق ذوو الجلالة في الرأي والاجتهاد في لانتفاع العامة الشاملة، ولدرنة الحسد المتمكن من أنفسهم البهيمية، والحاجب بسدف سجونه أبصار فكرهم عن نور الحق ووضعهم ذوي الفضائل الإنسانية - التي قصروا عن نيلها، وكانوا منها في الأطراف الشاسعة - لوضع الأعداء، ذبا عن كراسيهم المزورة التي نصبوها من غير أستحقاق، بل للترؤس والتجارة بالذين وهم عدماء الدين، لان من تجر بشيء باعه، ومن باع شيئا لم يكن له، فمن تجر بالدين لم يكن له دين.

ويحق أن يتعرى من الدين من عاند تقنية علم الأشياء بحقائقها وسماها كفرا؛ لان في علم الأشياء بحقائقها علم الربوبية وعلم الوحدانية وعلم الفضيلة.

وجملة كل علم نافع والسبيل أليه، والبعد عن كل ضار والاحتراس منه، واقتناء هذه جميعا هو الذي أتت به الرسل الصادقة عن الله جل ثناؤه، فإن الرسل الصادقة، صلوات الله عليها، أنما أتت بالإقرار بربوبية الله وحدة وبلزوم الفضائل المرتضاة عنده، وترك الرذائل المضادة للفضائل في ذواتها وإيثارها) فأنت ترى أن الخصومة كانت عنيفة بين الطرفين؛ فرجال الدين يرمون الكندي بالكفر والإلحاد، ويذهبون إلى أنه يجعل يونان أخا قحطان والكندي يرمي رجال الدين بأنهم يتجرون بالدين وهم عدماء الدين، ويطلب منهم الحجة أن كان عندهم برهان أو دليل.

يقول عنهم أنهم يتسمون بالنظر وهم أهل غربة عن الحق، وانهم يتتوجون الحق بغير استحقاق، يحجب الحسد أبصارهم عن نور الحق، بغير استحقاق، يحجب الحسد أبصارهم عن نور الحق، ويتربعون على كراسي الدين طلبا للرئاسة وذبا عنها ثم يبين الكندي الصلة بين الحكمة والشريعة بل يذهب إلى أن الدين من الفلسفة، فهي قنية علم الأشياء بحقائقها وفي ذلك علم الربوبية والوحدانية والفضيلة فالفلسفة توافق الدين لان الرسل الصادقة أتت بالإقرار بربوبية الله وحده.

ثم يحتج الكندي لرجال الدين بحجة عقلية تضيق عليهم الخناق فيقول: أن اقتناء الفلسفة (يجب أو لا يجب، فان قالوا يجب وجب عليهم طلبها؛ وان قالوا أنها لا تجب، وجب عليهم أن يحصروا علة ذلك، وأن يعطوا على ذلك برهانا وإعطاء العلة والبرهان من قنبة علم الأشياء بحقائقها. فواجب أذن طلب هذه القنية بألسنتهم والتمسك بها اضطرار عليهم).

غير أن النصر في هذه المعركة كان لرجال الدين إذ شوهوا أثار فيلسوف العرب، وصرفوا عن قراءتها أغلب الناس. ويبدو كذلك أنهم أوغروا عليه صدر زعيم من أئمة الأدب في ذلك العصر هو الجاحظ الذي تناوله بالنقد والتجريح والسخرية اللاذعة في أكثر من كتاب، في الحيوان والبيان والتبين والبخلاء

ومن التهم التي رمى بها الكندي فساد الذوق الأدبي، وضعف الأسلوب والبعد عن البلاغة وهي تهمة لصقت به، لا نستطيع أن تحقق فيها إلا إذا تناولنا أسلوبه بناء على ما ظهر له من نصوص.

أحمد فؤاد الاهواني