مجلة الرسالة/العدد 758/الفتوة الإسلامية
مجلة الرسالة/العدد 758/الفتوة الإسلامية
للأستاذ محمد فهمي عبد اللطيف
عرفوا الفتوة في اللغة بأنها: الكرم والسخاء، والشجاعة والمروءة، فإذا عرفنا أن هذه الفضائل الخلقية كانت جماع الشرف والحمد في البيئة العربية أدركنا أن (الفتوة) كانت دلالة النبل والسمو في تلك البيئة. ولقد قالوا (لا فتى إلا علي) يعنون أنه كرم الله وجهه كان غاية في أدراك هذه الفضائل والشمائل، على أننا نجد معنى (الفتوة) فيما بعد الصدر الأول للإسلام قد أتسع في دلالته فاصبح يضم إلى ما سلف من الفضائل الخلقية فضيلة الإيثار والتضحية وإنكار الذات، وبهذا انتقلت (الفتوة) من طور إلى طور، فالفتى في الطور الأول كان فردا غايته أن يفعل ما يكسبه الحمد في قومه، وان يحافظ على شرفه الذي هو شرف قبيلته، أما في الطور الثاني فانه أصبح فردا يعيش لغيره ويؤثره على نفسه أو كما نقول في اصطلاح العصر: فردا يعيش للجماعة، وقد حدد الشاعر العربي هذه المعنى إذ يقول:
فإن فتى الفتيان من راح واغتدى ... لضر عدو أو لنفع صديق
ويظهر أن (الفتوة) قد ابتدأت تتميز في البيئة الإسلامية كظاهرة من ظواهر المجاهدة وكمرحلة من مراحل التصوف، على عهد الحسن البصري ومما يؤثر عن الحسن قوله: (كان الفني إذا نسك لم نعرفه بمنطقة وإنما نعرفه بعمله) وبهذه المعنى تلكم في (الفتوة) جعفر الصادق، ثم الفضل، ثم الإمام أحمد، ثم سهل، فالجنيد، وإضرابهم من الصوفية. قال علي بن أبي بكر الاهوازي (إن أصل الفتوة إلا أن يكون العبد أبدا في أمر غيره) وقال بعضهم في تفسير قوله تعالى (قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم) أن الفتوة هي كسر إبراهيم للصنم، وصنم كل أنسان نفسه، فمن خالف هواه فهو فتى على الحقيقة وهكذا نجد (الفتوة قد اتخذت في البيئة الصوفية مظهرا يلائم تلك البيئة في اتجاهاتها وفي أهدافها. . .
والكلام على ما كان من نظام (الفتوة) في محيط الصوفية يحتاج إلى حيز كبير، وقد يقتضي ذلك كتابا برمته، فحسبنا تلك الإشارة العابرة، لأننا نقصد في هذه المقال إلى الكلام عن (الفتوة) إذ تمثلت في المجتمع الإسلامي نظاما له أهدافه السياسية والاجتماعية والخلقية، وقد كان ذلك على عهد الخليفة العباسي الناصر لدين الله، فهو الذي فرغ لهذ الأمر وتولى تدبيره بنفسه، فهدر ما كان من أوضاع الفتوة السابقة ووضع لها نظاما عاما ينتظم الأكابر والأصاغر والخاصة والعامة، وجعل نفسه القبلة في هذا والمرجع، وأرسل إلى الملوك والأمراء على أن يأخذوا بهذا النظام، قال (أبو الفداء) في حوادث سنة سبع وستمائة: (وفي تلك السنة وردت رسل الخليفة الناصر لدين الله إلى ملوك الأطراف أن يشربوا له كاس الفتوة، ويلبسوا له سراويلها، وأن ينتسبوا إليه في رمي البندق ويجعلوه قدوتهم. . .) ويقول أبو المحاسن أبن تغري بردى في النجوم الزاهرة: (وفي أيام الناصر لدين الله ظهرت الفتوة ببغداد ورمى البندق ولعب الحمام المناسب وافتن الناس في ذلك، ودخل فيه الإجلاء ثم الملوك، فالبسوا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك العادل ثم أولاده سراويل الفتوة، ولبسها أيضا الملك شهاب الدين صاحب غزته والنهد من الخليفة الناصر لدين الله ولبسها جماعة أخر من الملوك. . .).
ولعل أبن الساعي هو المؤرخ الوحيد الذي فصل ما كان من عمل الناصر في ذلك، ولقد حفظ لنا هذا المؤرخ العظيم صورة من العهد الذي أذاعه هذا الخليفة على رؤساء الأحزاب بتعاليم الفتوة وما حدد لها من التقاليد والأوضاع حتى لا يتعدوها فيما بينهم وبين أنفسهم وفيما بينهم وبين الناس، وقد كان من خير ذلك العهد أن الفاخر العلوي كان رفيقا للوزير ناصر أبن مهدي وكان له رفقاء فاختصم أحد رفقائه مع رفيق لغز الدين نجاح الشرابي ووقعت بذلك فتنة عظيمة بين الفريقين، حتى تجالدوا بالسيوف فانتهى هذا إلى الخليفة الناصر فأنكره، وتقدم إلى الوزير يجمع رؤوس الأحزاب، وأن يكتب في ذلك كتاب يؤمرون فيه بالمعروف والألفة، وينهون عن التضاغن والتباغض، ويقرا بمحضر منهم ويشهد عليهم بما يتضمنه، فمن خالفه أخذت سراويله وأبطلت فتوته، وعوقب بما يستحق، ويعتبر هذا العهد وثيقة نادرة تكشف لنا عن الحدود التي رسمنها الخليفة الناصر لنظام (الفتوة) الذي أقامه، وتبين لنا ما وضع لهذا النظام من هدف وغاية ففي ديباجة هذا العهد يشير إلى شئ من تاريخ الفتوة ومرجعها واصلها فيقول: (من المعلوم الذي لا يتمارى في صحته، ولا يرتاب في وضوح براهينه وأدلته أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه هو أصل الفتوة ومنبعها ومعجما أصافها الشريفة وطلعها وعنه يروي محاسنها وآدابها، ومنه تشعبت قبائلها وأحزابها، وإليه دون غيره ينسب الفتيان وعلى منوال مؤاخاته الشريفة النبوية نسج الرفقاء والأخوان، وإنه كان عليه السلام مع كمال فتوته ووفور رجاحته يقيم حدود الشرع على اختلاف مراتبها، ويستوفيها من أصناف الجناة على تباين جناياتها، ومللها ومذهبها غير مقصر عما أمر به الشرع المطهر وقدره، ولا مراقب فيما رتبة من الحدود وقرره، وامتثالا لأمر الله تعالى في إقامة حدوده وحفظاً لناظم الشرع وتقويم عموده فانه عليه السلام فعل ذلك بمرأى من السلف الصالح ومسمع ومشهد من أخبار الصحابة ومجمع فلم يسمع أن أحدا من الأمة لامه، ولا طعن عليه طاعن في حد أقامته، وحقيقة بمن أورثه الله مقامه وناط به شرائع الدين وأحكامه وانتمى إليه عليه السلام في فتوته، واقتضى شريف شيمته، وكريم سجيته أن يقتدي به عليه السلام في أفعاله، ويحتذي فيما استرعاه الله تعالى واضح مثاله غير ملوم فيما يأتيه من ذلك ولا معارض فتوة وشرعا فيما يورده ويصدره).
ثم يشير العهد إلى المراسم المفروض (على كل من تشرف بالفتوة برفاقه الخدمة الشريفة المقدسة المعظمة الممجدة الطاهرة الزكيه الأمامية الناصرة لدين الله تعالى) وكل هذه المراسم دعوة إلى الألفة والمحبة والى أن يكون الرفاق عون بعضهم بعضا فمن كان له رفيق قتل نفسا زكيه بغير أثم بادر بالخروج من رفقته لأنه بهذا الإثم خرج عن دائرة الفتوة ومن حمى قاتلا وأخفاه وساعده على أمره تنزل عنه كبيرة وتبرا منه، ومن حوى ذا عيب فقد عاب وغوى، ومن أوى طريد الشرع فقد ضل وهوى، وإذا قتل الفتى فتى من حزبه سقطت فتوته، ووجب أن يؤخذ منه القصاص عملا بقوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيما أن النفس بالنفس) فإذا قتل غير فتى رفيقا من الرفاق أو عونا من الأعوان، أو منتسباً إلى ديوان في بلد الخليفة المفترض الطاعة على كافة الأنام، فقد عيب هذا القاتل وواجب القصاص منه على كل فتى راجح. .
وفي الختام يشير العهد إلى ما يجب على الرفقة من العمل بموجبه والجري على مقتضى المأمور به والوقوف عند المحدود فيه، قال أبن الساعي (وقد سلم إلى كل واحد من رؤساء الأحزاب منشور بهذا المثال فيه شهادة ثلاثين من العدول، ثم كبت تحت كل مرسوم ومنشور ما صورته: قابل العبد بما تضمنه هذا المرسوم المطاع وقابله بما يجب عليه من الانقياد والامتثال والاتباع، وهو الذي يجب العمل به فتوة وشرعا وهذا المعروف من سيرة الفتيان نقلا وسمعا وقد ألزمت نفسي أجراء الأمر على ما تضمنه هذا المرسوم الأشرف، فمتى جرى ما ينافي المأمور به المحدود فيه كان الدرك لازما لي والمؤاخذة مستحقة على ما يراه صاحب الحرب ثبت الله دولته وأعلى كلمته. .).
لم تكشف لنا النصوص الواردة عن حقيقة القصد الذي كان يهدف إليه الناصر من إنشاء هذا النظام للفتوة، أو على الأصح من إنشاء هذه الجمعية التي كانت في نظامها أشبه ما تكون بالجمعيات السياسية والحربية، ولهذا يرجح الباحثون أن الناصر كان يقصد بذلك إلى أحياء الروح الحربية في النفوس، وإقامة قوة يمكن أن يفق بها في وجه أولئك الأعاجم الذين أخذوا يتخطفون الإمبراطورية العربية من كل جانب، ويعملون على إزالة معالم الخلافة الإسلامية غير أنا نرى جميع المؤرخين القدماء الذين كتبوا في سيرة الناصر وأعماله قد عابوا بالانصراف إلى هذا الأمر، حتى يقول أبو الفداء أنه (كان قبيح السيرة منصرف الهمة إلى رمي البندق والطيور في المناسيب ولبس سراويلات الفتوة) وانهم ليذكرون عنه في ذلك حكايات تصوره مثلا أعلى في اللهو وسقوط الهمة والانصراف عن مهمات الأمور. والمؤرخون القدماء لا شك معذورون في هذا التقدير لأنهم تعودوا أن يروا الخليفة مثالا للأرستقراطية المتعالية، فهو شخص لا عمل له إلا أن يجلس في صدر الديوان يأمر وينهي، ويمنع ويمنح، فكان من الغريب في تقديرهم أن ينصرف الناصر إلى هذا التدبير، وأن يبذل له كل هذه العناية وان يعني بتعميم ذلك النظام الحربي الرياضي بين الطبقات!!
على أي حال نستطيع أن نقول أن الناصر قد ضع نظاما للفتوة الإسلامية كان في الإمكان أن يجد شباب الدولة العربية وأن ينهض بها من عوامل الانحلال التي تسربت إلى جسمها، ولكن يظهر أن أحداث الزمن في تلك الأيام كانت أعنف واغلب. على أن هذا النظام قد امتدت أصوله في البيئات الإسلامية، وعمت أثاره آماداً من السنين فأننا نجد الرحالة أبن بطوطة بعد عهد الناصر بقرنين أي في القرن الثامن الهجري يتحدث عن جمعيات الفتوة وانتشارها في بلاد الأناضول، ويثني عليها ثناء مستطابا، وكانوا يسمون بالأخية الفتيان قال ابن بطوطة (وهم بجميع البلاد التركمانية والرومية، في كل بلد ومدينة وقرية، ولا يوجد في الدنيا مثلهم أشد احتفالا بالغرباء من الناس وأسرع إلى إطعام الطعام وقضاء الحوائج والأخذ على أيدي الظلمة وقتل الشرط ومن لحق بهم من أهل الشر، والأخ عندهم رجل يجتمع أهل صناعة وغيرهم من الشبان الأعراب والمتجردين ويقدمونه على أنفسهم وتلك هي الفتوة أيضا، ويبني زاوية ويجعل فيها الفرش والسرج وما يحتاج إليه من الآلات ويخدم أصحابه بالنهار في طلب معايشهم ويأتون إليه بعد العصر بما يجتمع لهم فيشترون به الفواكه والطعام إلى غير ذلك مما ينفق في الزاوية، فان ورد في ذلك اليوم مسافر على البلد أنزلوه عندهم وكان ذلك ضيافة لديهم ولا يزال عندهم حتى ينصرف وان لم يرد وارد اجتمعوا على طعامهم فأكلوا وغنوا ورقصوا أجتمع لهم، ويسمون بالفتيان ويسمى مقدمهم كما ذكرنا الأخ، ولم أر في الدنيا أجمل أفعالا منهم، ويشبههم في أفعالهم أهل شيراز وأصفهان إلا أن هؤلاء أحب في الوارد والصادر، وأعظمهم إكراما له وشفق عليه. . .) ومن ثم نرى أن الفتوة الإسلامية قد تطورت إلى نظام اجتماعي إنساني أشبه ما يكون بنظام الماسونية من جهة وبنظام التعاون الاجتماعي من جهة أخرى، كما نرى أن الفتوة الإسلامية قد تغلغلت في البلاد الإسلامية وانتشرت بين الطبقات ولو كان هناك القائد المنظم الذي يعمل لاستغلال تلك الجماعات على وضع محدد الهدف والغاية لأجدت كثيرا من الخير على العالم الإسلامي، ولكنها انتهت في أخر الأمر إلى ما يشبه نام الزوايا الذي وضعه الصوفية، ويظهر أنها تلاشت في هذا النظام على مر السنين.
على أننا نرى في العصور المتأخرة نظاما شاع بين الطبقات، وهو الذي عرف في البلاد العربية (بمشيخة فتوة) وهو نظام كان يقوم على قوة الساعد والعضل ومزاولة بعض الأعمال الرياضية والفروسية.
وبعد، فهذه صفحة من تاريخ الفتوة الإسلامية، عرضناها على القراء مجلة لان المقام لا يحتمل الشرح والتفصيل ولعلنا نعود في فرصة أخرى إلى تجلية بعض النواحي في هذا الموضوع الذي عنى به المستشرقون أكثر مما عنى به أبناء العروبة.
محمد فهمي عبد اللطيف