مجلة الرسالة/العدد 757/وامعتصماه!
مجلة الرسالة/العدد 757/وامعتصماه!
للأستاذ عمر الدسوقي
عربية كريمة، تنمي إلى أمة تألف الذل مرة، ولكن رحب البيد أحكم أعزها فما شئت من قلب أبي، ومنطق سليم، وعقل أنضجته التجارب، ونفس ترى الدنيا لديها رخيصة، إذا كان في الدنيا هوان يشينها: إلى كل شهم أريحي تزينه، خلال كروض الزهر طاب عبيرها:
إذا سيم ضيماً كان للضيم منكراً ... وكان لدى الهيجاء يخشى ويرهب
وإن صوت الداعي إلى الخير مرة ... أجاب لما يدعو له حين يُكرب
أبى على هذه العربية جدها النكد إلا ترسف في ذل الأسر غب حرب من تلك الحروب الطويلة التي ظل أوارها مشتعلاً حقباً مديدة بين العرب، الذين حملهم الله رسالة الإسلام، لينقذوا بها البشرية الكليمة، وبين الروم الذين أدال الله منهم ووضع أنوفهم في الرغام، وإن لم ينسوا أعزهم الغابر، فظلوا يغيرون على أطراف الدولة العربية الشاسعة كلما هبت عليهم نسمة من قوة، أو غرتهم من المسلمين غفلة عارضة.
وفي ذات يوم لطمها سيدها الرومي على وجهها الحر الكريم فوخزها ألم الذل وخزة صاحت على أثرها تستنجد الخليفة العربي العظيم: وامعتصماه! وامعتصماه! فضحك اعلج ملء شدقيه ونظر إليها نظرة الشامت الجبان، وقال: وماذا عساه يفعل المعتصم؟ أيجيء على أبلق وينصرك؟! إنك ذليلة كسيرة، وقد كتبت عليك الشقوة، وهيهات أن يستجيب لندائك الوقح هذا الذي تنادين! ثم أشبعها ضرباً ولطماً، وهي تنادي وامعتصماه! وامعتصماه!
جاء رجل إلى المعتصم، وبلغه نبأ هذه العربية الكريمة، فانتفضت نفس الخليفة الجليل انتفاضة الألم، وسأل الرجل: وأين هذه المرأة؟ فأجاب: إنها في عمورية يا أمير المؤمنين، فقال المعتصم: وفي أي جهة عمورية؟ فأشار الرجل إلى جهتها، فنادى المعتصم بأعلى صوته: لبيك يا ابنة الكرام! لبيك! ثم لبيك! هذا المعتصم بالله أجابك!
وتجهز المعتصم من فوره إليها في أثنى عشر ألف أبلق تطوي سنابكها الأرض طياً لتغيث الملهوف وتستجيب للنداء الأبي.
وكانت عمورية مدينة عانية، قد أحكم تحصينها، وبها من جنود العدو تسعون ألفاً أ يزيدون، فحاصرهم المعتصم، وطال حصاره لها، وأخبره المنجمون أنها لن تفتح إلا في الصيف حين ينضج التين والعنب، وكان قدومه إليها في زمهرير الشتاء، والأرض مسجاة في كفن أبيض من لثلج، وقد صوح ما عليها من شجر، وقل الماء والثمر، وأجهد الجيش، كما أجده العدو العنيد. بيد أن المعتصم أبى أن يستمع لصوت المنجمين المثبطين الذين أنذروه شراً مستطيراً إن هو استجاب لرغبة فؤاده وأقتحم أسوارها:
وخوفوا الناس من دهياء مظلمة ... إذا بدا الكوكب الغربي ذو الذنب
وشد على المدينة شدة بطل مغوار فدك أسوارها، وأشعل النار فيها، فذلت له وما ذلت قبل
لأحد:
من عهد اسكندرٍ أو قبل ذلك قد ... ثابت نواصي الليالي وهي لم تشب
بِكرٌ فما افترعتها كف حادثة ... ولا ترقت إليها همة النُّوَبِ
ودعا المعتصم بالرجل الذي بلغه حديث الجارية العربية المستغيثة فدله على الموضع الذي رآها فيه تذل وتهان، وبحث عنها حتى وجدها، وقال لها: هل أجابك المعتصم؟! وصار سيدها الرومي لها عبداً ذليلاً وأفعم قلبها عزة وأنفة. ورحم الله أبا تمام حين مدح المعتصم إثر هذا الفتح المبين بقوله مستهزئاً بآراء المنجمين:
السيف أصدق أنباء من الكتب ... في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في ... متونهن جلاء الشك والريب
أبقت بني الأصفر الممراض كاسمهم ... صفر الوجوه وجَلَّت أوجه العرب
تسعون ألفاً كأساد الشرى نضجت ... جلودهم قبل نضج التين والعنب
واليوم، وعلى مرأى منا ومسمع تنادي بلدة عربية كريمة، وهي فلسطين الجريحة: وامعتصماه! وامعتصماه!. وقد أبى لها الجد العاثر إلا أن ترزأ بشر ذمة من صعاليك الأمم، وأفاقي الأرض الذي لفظتهم ديارهم، ومجهم مواطنوهم. يريدون أن يسلبوها عروبتها ويهدروا كرامتها، وقد مالأهم من لا أخلاق لهم من تلك الدول التي باعت ضمائرها للشيطان، وخنعت لصوت الذهب الرنان، وصفعت الإنسانية المهيضة على وجهها دون حياء، أو شعور بعظم الجريمة، وتنكرت لكل تعاليم الحضارة الحقة، فلا شرف، ولا ذمة، ولا مروءة، ولا عدالة. بل اتخذت شرعة الغاب، وقانون الكهوف لها إماماً، فتباً لهم وخزياً.
!
أحقاً إننا أمة هازلة لا تدرك الخطر الداهم، ولا تقدر الخطب الجاثم، ولم تخبر العدو الظالم؟ هل ستمثل مأساة الأندلس على مسرح التاريخ ثانية، فيلقي بعرب فلسطين في البحر، كما ألقى عرب غرناطة من قبل. ويومئذ نجهش بالعويل والبكاء، وننتحب كما تنتحب النساء: نقلب الأكف أسفاً وندماً، ونعض الشفاه حسرة وألماً، فيقال لنا كما قيل لأولئك: ملك لم تحافظوا عليه محافظة الرجال فابكوا عليه اليوم بكاء النساء. ألا تعساً لأمة هازلة وسحقاً!.
أن الأمر جد، فنصرة فلسطين لا تدعو إليها لحمة القرابة والنسب، ولا صلات التاريخ والأدب، ولا حرمة الجوار ونخوة العرب فحسب، ولكن تحثنا إليها فضلاً عن كل ذلك - وما ذلك بالقليل - زعامة مدعاة، ومصلحة مرجاة. فمصر اليوم تغص بالرجال والأموال، وتتبوأ في قلوب أبناء العروبة لمكانتها العلمية، ونضجها الفكري أسمى منزلة. ثم أن دولة يهودية في فلسطين مؤيدة بأموال اليهود في العالم، وبخبرتهم العلمية وثقافتهم الواسعة لهي الوباء الذي يقضي على كل ما تفكر فيه مصر من مشروعات وإصلاحات، وما ترجوه من تجارة عريضة دولية، وصناعة ضخمة تغنيها عن سواها، وأساطيل مدنية تجوب البحار وتجلب الخيرات، ومواني تحتل مركز الصدارة على سيف البحر، وغنى يكفل لبنيها الذين أرهقوا طوال حقب التاريخ نوعاً مقبولاً من معيشة الأناسي ذوي الحضارة. كل هذا مهدد بكارثة على يد الصهيونية ودولتهم المنتظرة لا قدر الله!
ثم أن هؤلاء الأفاقين - وهم قلة وسط البلاد العربية - سيطلبون العون حتماً من حلفائهم الذين ناصروهم وستظل فلسطين على أيديهم مباءة للمستعمرين الغاصبين، يهددون الحريات، ويمتصون دماء الأبرياء، ويوقعون يبن الأخوة العرب العداوة والبغضاء.
فدفاع مصر عن فلسطين ودفاع عن أخ شقيق، ودفاع عن مصلحة مشتركة، ودفاع عن كسرة الخبز، وموارد الحياة، وأسباب العزة والحياة، ودفاع عن الحرية والسلطان، وعن كريم بهان، وعزيز يذل، ومال يسلب، وعرض ينتهب، وتراث يغتصب.
لتجد مصر بالمال غنيها وفقيرها، صغيرها وكبيرها، وشبابها وكهولها، رجالها ونساؤها، فالمعركة فاصلة، وقد عجم الغرب الغشوم عيداننا فإما وجدها صلبة قوية فارتد خاسئاً وهو حسير، وإما وجدها لينة رخوة تحرص على المال ولا تحرص على الحرية، ولا الكرامة، ولا المستقبل، فتمادى في شرته وأفصح عن جبروته وسطوته، في ذلك ذل الأبد لا قدر الله!.
لتجد مصر برجالها وشبابها، وفي ميدان فلسطين فرصة ذهبية لتدريب ذلك الشباب الذي قلمت أظفاره سني البغي والعسف والجهل، فتخنث ونسي محتده الكريم وتاريخه العظيم، وتطرى وأمعن في الهزء والحياة العابثة. أن هذا الشباب لو أحكمت مرنه ميادين القتال، وحياة الخشونة، ومصارعة الأعداء، لعاد بعد هذا الجهاد إلى مصر وحسب له أعداؤها ألف حساب.
أن فلسطين اليوم تنادي:! وامعتصماه! وامعتصماه!
فليكن كل مصري، بل كل عربي - أين كان محله - معتصمها الذي تناديه، وفارسها الذي ترتجيه.
يتلقى الندى بوجه حيي ... وصدور القنا بوجه وَقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طُرْق المزاح
عمر الدسوقي