مجلة الرسالة/العدد 757/مصرع البغي
مجلة الرسالة/العدد 757/مصرع البغي
للأستاذ محمد سعيد العريان
قال الشيخ لفتاة وهما يسلكان طريقهما في بعض أرباض الكوفة: مل بنا يا بني عن هذا الطريق؛ فليس يطيب لي يومي إذا وقعت عيناي إلى أنقاض تلك القلعة المهدومة؛ كأنما يجثم وراء كل حجر من أحجارها المتناثرة نحسن يتربص لكل عابر سبيل. . .
قال الفتى منكراً: وي! كأنك تزعم يا أبتي أن في بعض الجماد ما ينفع وما يضر!. .
قال الشيخ وقد أخذ طريقاً آخر إلى الوجه الذي يقصده، وقد استند كفاً إلى كتف الفتى وكفاً إلى عصاه: نما هو يا بني ما قلت، وأنه لا نافع ولا ضار إلا الله؛ وأعوذ به من كفر بعد أيمان؛ ولكن ذكريات تتراءى لي من هذه الخربة كلما نالتها عيناي فتتجسد لي في النوم واليقظة صوراً حمراء دامية؛ لقد عمر أبوك طويلاً يا فتى ورأى ما لم ترى؛ ولعلك إن تعمر مثل عمري فتتحدث إلى بنيك بما رأيت وما سمعت من أنباء هذه القلعة المشئومة!. .
استشرفت نفس الفتى إلى جديد يقصه عليه أبوه من أنباء الماضي، وأن أباه لراوية أخبار ومحدث تهفو النفوس إلى حديثه ويرهف السمع؛ ولكن الشيخ مما أهوى الزمان منه لم تكن به قوة على حديث طويل وهو يمشي؛ فلما بلغ داره وتخفف من ثيابه جلس إلى وسادته ليستأنف حديثه عن تلك القلعة قال: لقد رأيتها يا بني منذ بضع وخمسون سنة، وكنت يومئذ فتى في مثل سنك، والمسلمون حديثو عهد بهذا المصر، وأميرهم فيه سعد بن أبي وقاص، فلما بصر البلد وشرع طرائقه ونظم ديوانه أمر أن تنشأ هذه القلعة وأتخذها داراً للحكم؛ وقد كان يعد مستجاب الدعاء يا بني؛ وكأني به حين حفر أساسها قد دعا الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من عدوهم؛ ولو أنه أطلع على الغيب لكان دعوته إلى الله أن يجعلها عصمة للمسلمين من شر أنفسهم؛ إذن لارتدت عنها شهوات المبطلين وعصمة أهل هذا المصر من أن يسفك بعضهم دماء بعض كما عصمتهم من عدوهم؛ فما طرق الكوفة عدو مناهل الشرك منذ مصرها سعد وأنشأها بها هذا الحصن أو يسفك بها كافر دماً؛ ولكن اتخذوها مطمعة يسفك بها بعضهم دماء بعض. . . قال الشيخ:
في هذه القلعة يا بني، شهدت رأس الحسين بعد أن قتله أهل البغي دون الفرات شهيداً مظلوماً وحالوا بينه وبين الماء، لا يشرب من ظمأ، ولا يجوزه إلى مأمن، ولم يكفه فعلوه به وبأهله وولده، ففصلوا رأسه عن جسده وحملوه إلى عبيد الله بن زياد الدعا، فكأنما أراه الساعة والرأس الشريف بين يديه المخصبتين بالدم لا يكاد يكتم فرحته بموته؛ كأن قد ضمن به الخلود في الحياة حيث ضمن به الخلود في أمارته!
ثم حمل الرأس إلى دمشق ليطيب يزيد بن معاوية بالنظر إليه ويطمئن مالاً باستقرار الأمر له.
هل رأى قط واحد من أهل الكوفة أو من أهل هذه القلعة رأس الحسين في الطست بين يدي عبيد الله ثم غابت هذه الصورة عن خياله؟. . . قال الشيخ:
ومضت يا بني من ذلك اليوم سنوات، ومضى يزيد إلى ربه بما حمل من أوزار الناس وأوزار نفسه، وتعاقب على عرش بني أمية في الشام أمير بعد أمير، وظن عبيد الله أبن مرجانة أن العيش قد طاب له، وأحسبه قد نسى يوماً له بقلعة الكوفة وبين يديه رأس الحسين الشهيد، ولكن الأقدار لا تغفل عن أهل البغي؛ ولم ينس المؤمنون من شيعة بني هاشم جناية بني أمية وبني سمية على عترة النبي المصطفى من خير خلقه؛ فمضت الدعوة إلى الثأر لهم تتنقل من فم إلى فم وتتقاذفها الفلوات والأبصار حتى نهض لها المختار من أبي عبيد يهتف في شيعة الحق: يالثارات الحسين!
واجتمعت له الجموع وتكتبت الكتائب ودانت لدعوته البلدان؛ وخرج ابن زياد ليلقاه، أو ليلقى حينه؛ فألتقي بجيش المختار في أرض الموصل على شاطئ نهر خازر؛ ونالته ضربة سيف باتر فقد نه نصفين، فيداه في المشرق ورأيه في المغرب، وكما حمل رأس الحسين من حيث قتل على الفرات إلى قلعة الكوفة - حمل رأس عبيد الله من حيث هلك على شاطئ نهر خازر إلى قلعة الكوفة كذلك. .
وفي هذه القلعة يا بني، شهدت للمرة الثانية في طست بين يدي أمير القلعة؛ وكأني يومئذ بالمختار بن أبي عبيد إلى رأس ابن مرجانة بين يدي وهو في مجلسه ذاك من تلك القلعة وعلى شفتيه مثل تلك الابتسامة!. .
ولعل كثيرون غيري قد رأوا ما رأيت يومئذ وفي ذلك اليوم الآخر، فانطبعت في أنفسهم صورة الحسين ومنظر الأميرين؛ فمنهم من نسى صورة بصورة ومنظراً بمنظر؛ ولكنني لم أنس! قال الشيخ: ومضت يا بني سنوات أخر، وتقلبت الأحوال بالناس ما تقلبت، وجدت أمور بعد أمور؛ ولكني رجلاً من أصحاب الأمر لم ينس أن له ثأراً عند المختار بن أبي عبيد؛ ذلك مصعب ابن الزبير يا بني، أمير تلك الجهات من قبل أخيه عبد الله المتأمر بمكة؛ فقد كان يرى المختار دعياً في شيعة علي، يتلصق بهم ليطلب لنفسه ملكاً وإمارة؛ وقد سبقت له بيعة لعبد الله ابن الزبير في مكة على أمل يأمله، فلما خاب أمله ذاك زعم أنه شيعة علي والثأر لولده، ليصل بذلك إلى مناوأة الأمويين والزبيريين جميعاً؛ فنهد مصعب لحربه بالجيش اللجب، تشايعه قبائل وبطون وجماعة من أهل الرأي وطائفة من أولي البأس في الحرب؛ والتقى الجيشان في معارك، ودارت الدائرة على المختار فلجأ إلى دار الإمارة بالكوفة معتصماً في طائفة قليلة من أصحاب لا قوة لهم على المقاومة؛ وحصرهم جيش الزبيريين حتى لم يجدوا أبداً من البروز لحربهم أو النجاة بأنفسهم؛ ونالت المختار ضربة كانت فيها نفسه، فاجتز رسه وحمل إلى الأمير مصعب بن الزبير في قلعة الكوفة.
وكما شهدت من قبل رأس الحسين ورأس ابن مرجانة بين يدي أمير القلعة، شهدت رأس المختار. . .
وكأنما هجس بنفسي وقتئذ هاجس وأنا أنظر إلى مصعب بن الزبير وبين يديه رأس المختار وتمثلت لي صورة غير التي تراها عيناي في تلك الساعة؛ فكأن الذي في الطست ليس هو رأس المختار بن عبيد، ولا رأس ابن مرجانة، ولا رأس الحسين؛ ولكنه رأس مصعب نفسه؛ وكأن الأمير الجالس على الكرسي رجل آخر غيره، ولكنه رجل لا أعرفه، لأن عيني لم تقع عليه قط.
هذا منظر تكرر على عيني ثلاث مرات، في صورة واحدة، ومكان واحد، ولأسباب تكاد تتشابه؛ فكأنما رأيت منظراً رابعاً لم يره أحد بعد، وكأن هاتفاً من وراء الغيب يهتف بصوت أكاد احكي نبره: لكل باغ يوم!. . .
واستقرت هذه الصور الأربع في واعيتي لا أكاد أغفل عنها طرفة عين؛ أما ثلاث منها فرأيتها رأي العين ووعيتها وعي اليقظة؛ وأما الرابعة فكانت وهماً تجسد حتى قارب أن يكون حقيقة مما يدرك بالحس! قال الشيخ:
لست أدري يا بني أكانت هذه الصور الأربع في واعيتي أنا وحدي أم كان غيري يعيها؛ ولكن الذي أرويه يقيناً هو أن رجلاً واحداً من الذين شاركوا في هذه الحوادث الدامية لم تخطر على باله قط الصورة الرابعة؛ ذلك هو مصعب بن الزبير نفسه! وتوالت الأعوام يا بني وهذه الصور تتراءى لي في يقظتي وفي منامي، حتى حرمت على نفسي أن أجوز ذلك الطريق حتى لا تقع عيني على تلك لقلعة المشئومة فتجد لي ذكريات وتبعث تلك الصور البغيضة إلى نفسي. . .
وكان عبد الله بن مروان على عش بني أمية في الشام، وقد تفانى أعداؤه ومناوئوه طائفة بعد طائفة وأهلك بعضهم بعضاً فلم يبق ثمة من يخشى خطره غير ابن الزبير؛ فهيأ جيشاً سيره نحو العراق لحرب مصعب؛ وأنظم إليه فلول من أصحاب المختار ابن عبيد، لا يحملهم على الحرب معه إلا الرغبة في الثأر من قاتل صاحبهم. . .
والتقى جيش الزبير وجيش الزبيرين وجيش بني أمية في مسكن، على نهر الدجيل، عند دير الجاثليق؛ ونشبت المعركة، فشد على مصعب رجل من أصحاب المختار وهو يقول: يا لثارات المختار! وطعنه فأبلغه أجله. . .
واحتز رأس مصعب وحمل إلى عبد الملك بن مروان في قلعة الكوفة. . .
وشهدت الصورة الرابعة عياناً، وكنت أراها رأى المتوهم منذ بضعة سنين. ورأيت عبد الملك بن مروان جالساً على كرسيه وبين يديه الرأس في الطست. . .
وكان بين مصعب وعبد الملك مودة حين كانا في المدينة قبل أن ينزغ بينهما الشيطان. . . وأحسبني رأيت دمعة في عين عبد الملك وهو يقول محزوناً وينظر إلى رأس مصعب: (متى تغدو قريش مثلك!؟)
وغامت على عيني غائمة، فقلت ولا أكاد أعي ما تلفظه شفتاي: (أني رأيت بهذه القلعة رأس الحسين أمام عبد الله بن زياد، ورأس ابن زياد أمام المختار، ورأس المختار أمام مصعب، ورأس مصعب أمام أمير المؤمنين!. .)
وبلغت كلماتي أذن الأمير، فكأنما تطير مما سمع، فأمر بنقض بنيان القلعة؛ فهي من يومئذ أنقاض يا نبي!
قال الفتى:
فما يفزعك منها يا أبت وقد صار إلى ما ترى؟ قال الشيخ:
- لست أدري يا بني؛ ولكني أتوقع كلما وقعت عيناي على أنقاضها أن أحداثاً ستحدث في هذا المكان، وتزدحم على ذكريات الماضي وصوره الحمراء الدامية. . .
ثم صمت الشيخ وأطرق، وسرحت خواطر الفتى إلى واد بعيد.
وتعاقبت السنون، ومات الشيخ، وأيفع الفتى ثم اكتهل وبرقت في فوديه شعرات بيض؛ ونسى كل ما كان من حديث أبيه؛ ونسى أهل الكوفة ما مر بهم من أحداث وما وقع في القلعة من حوادث؛ ولكن أنقاض القلعة ظلت مركومة حيث كانت. . .
(ومر الفتى ذات يوم بالمكان فتذكر، ووقع في وهمه أن شيئاً ما سيحدث. . .
(ومضت أيام، وحدث شيء. . .
من وراء أنقاض القلعة المهدمة بالكوفة بدأت طلائع الزحف العباسي إلى دمشق، لتحطيم عرش بني مروان!!
وتنفس الفتى نفساً عميقاً حين بلغه النبأ، وقال في ثقة واطمئنان: آمنت بأن لكل باغ مصرعاً. .!
محمد سعيد العريان