مجلة الرسالة/العدد 757/النساء في القرآن الكريم
مجلة الرسالة/العدد 757/النساء في القرآن الكريم
لصاحب الفضيلة الأستاذ محمود شلتوت
كثر كلام الناس قديماً وحديثاً حول منزلة النساء في الإسلام، فمنهم من زعم جهلاً أو تجاهلاً أن الإسلام اهتضم حقوقهن، وانتقص مكانتهن، وأخذ يغري المرأة بالثورة على الإسلام بحسب ما صور لهم من تعاليم نسبها إليه وأقنعها بأنها السبيل الذي رسمه لها، والواقع أن الإسلام منح النساء كل خير وصانهن عن كل شر، ولم يأب عليهن سوى ما دفعتهن إليه هذه المدنية الكاذبة من (حرية) جعلت الغربية من النساء إذا ما خلت إلى ضميرها الإنساني تبكي دماً على الكرامة المفقودة، والعرض المبتذل، والسعادة الضائعة. وسيعلم النساء متى ثبن إلى رشدهن أن لا منفذ لهن، ولا حافظ لكرامتهن وحقوقهن سوى هذه التعاليم الإلهية التي يحاول المغرضون والمخادعون لهن أن يصوروها في أعينهن بصورة الأغلال التي تطوق الأعناق وتحول بينهن وبين ما لهن من حق في الحياة.
وأرجو أن أقدم للنساء عامة وللمسلمات خاصة تحت هذا العنوان، وعلى صفحات الرسالة الغراء، خطوط هذه الجولات الواسعة التي رسمها القرآن الكريم في سبيل الإرشاد إلى حقوقهن، وبيان أحكامهن ومنزلتهن في حياة الأسر التي تعتبر بحق اللبنات الأولى في بناء الأمم، والتي تخلع على الأمة مالها من كيان قوي أو ضعيف.
والقرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، والحكم الأعلى الذي يحكم على غيره ولا يحكم الغير عليه.
قرأت القرآن وتتبعت أبرز مواقفه في جانب النساء، فوجدته خير ما يصور للناس عناية الإسلام بالنساء، وحظوتهن في تشريعه، وليس بعد كلام الله كلام، ولا بعد تشريعه تشريع.
عرض القرآن للنساء في أكثر من عشر سور، وكلها من المدني الذي كان شأنه وقت التنزيل فرض الحقوق، وبيان الواجبات، وتنظيم الشئون، والإرشاد إلى ما ينبغي من شئون الأسر، وشئون الأمم.
عرض لهن في سورة البقرة في ربعين عظيمين هما (يسألونك عن الخمر والميسر)، (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة).
بين فيها حكم تزوج المسلمة للمشرك الذي لا يؤمن بكتاب ولا رسول، وأبطل بعض المعاملات الضارة التي كان يعتاد أهل الجاهلية مع النساء، وبين الطلاق الذي يملك الرجل فيه رجعة الزوجة والذي لا يملك به الرجعة، كما بين أن لها الحق في افتداء نفسها من سوء العشرة بما تملك من مال، وبين مساواتها للرجل فيما لها وعليها من الحقوق الزوجية، كما أمر بإمساكها بمعروف أو تسريحها بإحسان، وحذر القوم من عضل النساء ومنعهن أن يتزوجن بمن يردن طمعاً في مالهن وضراراً لهن، ثم بين أن المرأة شريكة الرجل في شأن الولد وإرضاعه، وأنه لا يصح للرجل أن يبت في هذا الشأن برأي دون (تراض منهما وتشاور) ويبين في هذا السياق الخطبة وأدبها كما بين حق المطلقات في المتعة، وهي ما يبذله الرجل للمرأة بعد طلاقها مما تتعزى به ويخفف عنها وقع الفراق، (وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين).
وبين عدة المتوفي عنها زوجها، وحث الأزواج على الإيصاء لهن بعد الوفاة بأكثر مما تستحق إحداهن بالعدة.
وعرض لهن في سورة المائدة، وبين حل تزوج المحصنات الكتابيات منهن، وسوى في ذلك بينهن وبين المحصنات المؤمنات.
وعرض لهن في سورة النور، وبين ما يردعهن عن ارتكاب ما يزري بالكرامة ويخل بالشرف والمكانة، كما بين حكم من تعدى عليهن بالقذف زوجاً كان أو غير زوج، وشرع الأدب الواجب حين الدخول عليهن في بيوتهن، وذلك حفظاً لهن من أن تقع عليهن الأنظار، وهن في حالة التبذل والقيام بالمصالح المنزلية. كما خص هؤلاء الذين نضبت وجوههم من ماء الحياة بشديد من التحذير مما اعتادوا في إكراه الفتيات على البغاء تكسباً بعرضهن (لا تكرهوا فتياتكم على البغاء أن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).
وعرض لهن في سورة الأحزاب وعالج كثيراً من المشاكل المنزلية وما يجب عليهن من آداب، وقد اتخذت السورة زوجات الرسول مثالاً حياً فيما ينبغي أن تتخذه الزوجة أساساً لحياتها المنزلية الفاضلة.
وعرض لهن في سورة المجادلة فاستمع إلى رأي المرأة واحترمه، وقرره مبدأ يسير عليه التشريع العام الخالد، وبذلك كانت آيات الظهار التي بدئت بها السورة المذكورة أثراً من آثار الفكر النسائي، وصفحة إلهية خالدة نلمح فيها على ممر الدهر صورة احترام الإسلام للمرأة وأن الإسلام ليس كما يظن أعداؤها يراها مخلوقاً يقاد بفكر الرجل ورأيه، وإنما له رأيها وللرأي قيمته ووزنه.
يقول أوس بن الصامت لزوجه خولة بنت ثعلبة (أنت على كظهر أمي) وكان المعروف في الجاهلية أن الرجل إذا قالها لزوجته حرمت عليه. ثم دعاها فأبت وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إلي وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله. ثم أتت رسول الله فقالت: يا رسول الله. أن أوساً تزوجني وأنا شابة مرغوب في، فلما خلا سني ونثرت بطني جعلني كأمه وتركني إلى غير أحد، فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله فحدثني بها. فقال عليه السلام: ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن، وما أراك إلا قد حرمت عليه، فأخذت تجادل رسول الله مراراً وتقول: أنه ما ذكر طلاقاً فكيف أحرم عليه؟ أن لي منه صبية صغاراً إن ضمهم إليه ضاعوا، وإن ضممتهم إلي جاعوا. وجعلت ترفع رأسها إلى السماء تقول: اللهم أني أشكو إليك. وما برحت هكذا حتى نزلت الآيات (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما أن الله سميع بصير). نزلت الآيات تشنع على المظاهرين من نسائهم، وتضع طريقاً للخلاص من الظهار، وتبين أنه ليس طلاقاً ولا موجباً للفرقة، كما كانت ترى خولة بنت ثعلبة.
وهذا أسمى ما تصبو إليه النساء في احترام رأيهن متى صادف الحق والمصلحة. وليعتبر بهذا المرجفون المعتدون.
وعرض لهن في صورة الممتحنة وبين حكم النساء يهاجرن مؤمنات من بلاد الأعداء إلى بلاد الإسلام، وحكم حلهن لأزواجهن السابقين، وحكم زواجهن بالمؤمنين، وبينت حق النساء في المبايعة على السمع والطاعة، والقيام بحدود الشريعة وأحكامها، وأنهن في المبايعة كالرجال، وقد روى المفسرون قصة هذه المبايعة التي شغلت مركز الرياسة فيها عن النساء (هند بنت عتبة، زوج أبي سفيان، وهي قصة طريفة تعلوها ظاهرة عظيمة من حرية الرأي في النقاش والحوار. حرية لا يظفر بها الرجال عند أعظم ملوك الأرض ديمقراطية.
وعرض لهن في سورة التحريم في شأن جرى بين زوجات الرسول، ويقع بين كل الزوجات في كل زمان ومكان، وفيها تقررت مسئولية المرأة عن نفسها مسئولية مستقلة عن مسئولية الرجل، وأنه لا يؤثر عليها، وهي صالحة، فساد الرجل وطغيانه، ولا ينفعها، وهي طالحة، صلاح الرجل وتقواه (وضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانت تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين) (وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين).
وعرض القرآن الكريم بعد هذا للنساء في سورتين: سورة النساء وسورة الطلاق؛ وكثيراً ما يطلق على الأولى أسم (سورة النساء الكبرى) ويطلق على الثانية (سورة النساء الصغرى).
وكم تنبض قلوب النساء فرحاً بتكريم الله لهن وعنايته بهن حينما يسمعن أو يعلمن أن في القرآن سورتين سميتا باسمهن، وعالجتا كثيراً من شئونهن في أطوار حياتهن كلها من عهد الطفولة إلى عهد الزوجية والأمومة، وأن إحدى السورتين وهي الكبرى تبدأ بخطاب الناس جميعاً، وأن الأخرى وهي الصغرى تبدأ بخطاب الرسول، وفي هذا وذاك حث شديد للحاكم والمحكوم، أو الرئيس والمرءوس على مراعاة ما يفرض بعد الخطاب في أمر النساء من أحكام وإرشادات. ولا ريب أن منزلة النساء من العاطفة ومركزهن الاجتماعي في الأمة جديران أن تستأثرن في أمرهن عاطفة الرحمة التي يحملها وصف النبوة (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم) ووشيجة الرحم التي تجمع بين الناس ذكوراً وإناثاً (واتقوا الله الذي تساءلون به الأرحام).
وهذا وضع يجدر بالذين يرمون الإسلام بأنه يحط من قدر النساء أن يلتفتوا إليه وأن يكفوا عن زعمهم أن الإسلام لم يمنح المرأة من العناية والاهتمام ما منحته لها المدنية.
هذا وقد عرضت سورة (الطلاق) لبيان الوقت الذي يجب على الرجل مراعاة إذا أراد أن يطلق زوجته اتقاء للإضرار بها، كما عرضت لبيان أنواع عدة المطلقة وما يجب فيها من النفقة والسكنى.
أما سورة النساء الكبرى فقد عرضت لمبادئ هي أساس سعادة المرأة وهناءتها، وبالتالي أساس السعادة الزوجية والحياة المنزلية ونستطيع أن نجملها فيما يلي:
1 - أعلنت سورة النساء أن المرأة أحد العنصرين اللذين تكاثر منهما الإنسان، وجعلت ذلك نعمة توجب على الناس تقوى الله ومراقبته (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام أن الله كان عليكم رقيبا).
2 - وقررت مساواة النساء بالرجال فيما هو من خصائص الإنسانية فشرعت الكسب للنساء كالرجال، وأرشدت كلاً منهما إلى تحري الفضل والخير من الأموال بالعمل دون التمني والتشهي، وأنه ليس للرجل أن يسلب المرأة من العمل الذي خلقت له، كما أنه ليس للنساء أن يطمعن فيما وراء مؤهلاتهن الطبيعية وفي ذلك يقول الله: (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض، للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن).
3 - وقررت أن للنساء ثواب أعمالهن الصالحة كالرجال وفي ذلك يقول الله تعالى (ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا).
4 - ورفعت شأن المرأة عن أن تكون متاعاً يورث كما تورث الأموال، وفرضت لها حرية في ذاتها وأموالها (يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن).
5 - وشرعت نظاماً للزواج فيه تكريم للمرأة والأسرة، فحظوت التزوج بأصناف حفظاً لروابط لا ينبغي أن تعرض بالزواج إلى الفساد: حظرت زواج الابن من زوجة الأب، وزواج الأب من حليلة الابن، وزواج الأمهات والبنات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت والمرضعات والأخوات من الرضاعة وأمهات النساء والربائب. وحظرت لجمع بين الأختين، وزواج المتزوجات والمعتدات. وذلك كله في قوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء) إلى قوله (والمحصنات من النساء).
6 - وأشارت إلى تخير الزوجات من وسط الحرائر المؤمنات وأنه لا يجوز العدول إلى غيرهن إلا عند العجز عنهن وخوف العنت، وذلك شأن له قيمته في إنجاب الولد، واختيار البيئة الصالحة لتربيته، وضمان التوافق والسعادة في الحياة الزوجية، وذلك في قوله تعالى (ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فيما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات).
ومن هنا أخذ الفقهاء أن الشريفة مقدمة في الزواج على غير الشريفة، وأن حسنة السمعة مقدمة على سيئة السمعة. وفي هذا إيحاء قوي إلى النساء بأن يعملن جهدهن على تحسين سمعتهن وتحليهن بالأخلاق الفاضلة التي ترغب فيهن الأزواج، ولعل ما اتخذته الفتاة لنفسها من حرية واسعة في هذه الأيام كان له نصيب كبير فيما نرى من أزمة الزواج، فعلى الفتاة أن تتدبر في أمرها، وعليها وحدها أن تحل تلك الأزمة إن أرادت لنفسها الخير والسعادة.
7 - وأفرغت السورة على عقد الزواج صبغة كريمة أخرجته عن أن يكون عقد تمليك كعقد البيع والإجارة، أو نوعاً من الاسترقاق والأسر كما كانت المرأة قبل الإسلام عند العرب وغيرهم وسمته (ميثاقاً غليظاً) ولهذا التعبير قيمته في الإيحاء بمعاني الحفظ والرحمة والمودة، فالزواج في نظر القرآن عهد شريف وميثاق غليظ ترتبط به القلوب وتختلط به المصالح، ويندمج به كل من الطرفين في صاحبه فيتحد شعورهما، وتلتقي رغباتهما، وآمالهما، هو علاقة دونها علاقة الصداقة والقرابة، وعلاقة الأبوة والبنوة (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن).
8 - وأوجب على الرجل أن يبذل للزوجة مالاً سماه الله (صدقة) ووصفه بأنه نحلة - والنحلة ما يمنح عن طيب نفس بدون مقابلة عوض - ولا ريب أن الصلة بين الزوجين أعلى وأشرف من أن يجعل عوضها دراهم معدودة، فليس المهر ثمناً ولا في مقابلة شيء في المرأة كما يظن كثير من الناس، وإنما هو آية من آيات المحبة والتقدير وأنه لذلك كان واجباً على الرجل، وأن أتفق الزوجان على أن لا مهر للزوجة (وآتوا النساء صدقاتهن نحلة، فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاًُ). وقد كان المهر بذلك حقاً للزوجة لا يحل أن يأخذ الزوج منه شيئاً إلا بطيب نفسها. بذلك تقرر لها حق الملكية الصحيحة الخالصة من رقابة الزوج وهيمنته. ومن درجة منحها الإسلام للمرأة منذ أربعة عشر قرناً في حين أن النساء في أوربا في القرن العشرين لا يتمتعن بهذا الحق الذي تتمتع به المرأة في ظل الإسلام.
9 - وبينت السورة الدرجة التي جعلها الله للرجال على النساء بعد تساويهما في الحقوق والواجبات، وأنها لا تعدو أن تكون درجة الإشراف والرعاية بحكم القدرة الطبيعية التي يمتاز بها الرجل عن المرأة، وبحكم المال الذي ينفقه قياماً بما تحتاج إليه حتى تقوم بما عليها من حقوق الزوجية. وليست تلك الدرجة بدرجة الاستعباد والتسخير كما يصورها المخادعون المغرضون، وذلك في قوله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم).
10 - قد أرشدت السورة بعد هذا إلى أن النساء أمام هذه الرياسة منهن صالحات، ومنهن غير صالحات، وأن من شأن الصالحات القنوت وهو السكون، والطاعة لله فيما أمر به، ومنه القيام بحقوق الزوجية والرياسة المنزلية، والاحتفاظ بالأسرار التي لا ينبغي أن يطلع عليها أحد غير الزوجين، وأن هذا الصنف من الزوجات ليس للرجال عليهن شيء من سلطان التأديب.
أما غير الصالحات، وهن اللاتي يحاولن الخروج عن حقوق الزوجية ويحاولن الترفع والنشوز عن مركز الرياسة، بل على ما تقتضيه فطرهن، فيعرضن بذلك الحياة الزوجية للتدهور والانحلال - فقد وضعت السورة لردعهن وإصلاحهن وردهن إلى مكانتهن الطبيعية والمنزلية طريقين واضحين: وكلت إحداهما إلى الرجل بحكم الإشراف والرياسة، وهو أن يعالجها بأنواع من العلاج لكل صنف من النساء ما يليق به، ويكفي في ردعه، وهي الوعظ والهجر والضرب، فالتي يكفيها الوعظ بالقول لا يستعمل معها الهجر والضرب، والتي يصلحها الهجر لا يتهاون في جانبها بالوقوف عند حد القول والوعظ ولا يسرف فيصل به الأمر إلى حد الضرب. وهناك صنف من النساء في بعض البيئات لا تؤثر فيه الموعظة ولا يكترث بالهجران ولا يصلحه إلا نوع من التأديب المادي. وقد جعل الله الضرب آخر الوسائل التأديبية إشارة إلى أنه لا يلجأ إليه إلا عند الضرورة، وقد أساء المتحضرون من أبناء المسلمين أنفسهم فهم هذا النوع من التأديب وجعلوه نوعاً من الطغيان الذي لا يتفق وكرامة الزوجة، وهم في الواقع يتملقون عواطف المرأة، ويتظاهرون بالحرص على مصلحتها وكرامتها، ونحن نسائل المرأة العاقلة: أي الأمرين أحفظ لحياة الزوجة؟ أأن تنال بشيء من العقوبة عند نشوزها فيردها إلى صوابها؟ أم تترك لتسترسل في نشوزها فتهدم بيتها وسعادتها وتشرد أطفالها؟
أما الطريق الثاني فهو التحكيم وجاءت آيته بعد آية الطريق الأول للإشارة إلى أنه إنما يكون في حالة عجز الرجل عن لعلاج وعند تطور الحالة من النشوز إلى الشقاق، وفي حالة ما إذا كان النشوز واقعاً من الزوج نفسهن وقد خاطب الله بهذا العلاج الأخير جماعة المسلمين تركيزاً لما يجب أن يكون بينهم من التكافل على حفظ الأسر والبيوت. وعلى الحكام أن يقوموا بمثل هذا الواجب نيابة عن جماعة المسلمين.
وطلبت الآية أن يكون الحكمان في هذا الشأن من أهل الزوجين؛ وذلك نظراً إلى أن الشأن في الأهل أن يكونوا أدرى الناس بأحوال الزوجين وأحرصهم على سعادتهما، وأقدرهم على التأثير في نفوسهما، وأحفظهم لما قد يجدون بينهما من أسرار.
وإنك لتجد كل هذا في قوله تعالى من هذه السورة (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا أن الله كان علياً كبيراً، وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما أن الله كان عليماً خبيراً).
وبعد: فهذه صفحات النساء في القرآن الكريم أقدمها للقراء إجمالاً وتفصيلاً، وهي صفحات كما نرى ويرى كل ناظر فيها، بيضاء نقية تبسط ظل السعادة والهناءة على الحياة الزوجية، وتكون أسرة قوية فاضلة، وتبني مجتمعاً صالحاً يخوض غمار الحياة بقواه الذاتية وشعوره النفسي الدقيق. ولقد كان بودي أن أبسط القول في شرح تلك الصفحات الإلهية ولن الإنسان في هذه الحياة مسخر لسلطان الظروف، وحسب من يريد الحق هذا الإرشاد، وكتاب الله قائم بين أيدينا ميسر للذكر والنظر فليرجع إليه من شاء والله ولي التوفيق والهداية.
محمود شلتوت