مجلة الرسالة/العدد 757/المسلمون في معترك الخطوب

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 757/المسلمون في معترك الخطوب

ملاحظات: بتاريخ: 05 - 01 - 1948


كأن الحلفاء يوم عقدوا ألوية الحرب قد عقدوا غيب ضمائرهم على الغدر بأنفسهم وبالناس، فلم يكادوا ينفضون أيديهم من تراب هتلر وحليفيه حتى أخذ بعضهم بتلابيب بعض، يتصارعون على أسلاب الحرب ويتكالبون على جثث الضحايا؛ فهذا يريد أن يغرز أنيابه هنا، وذاك يحاول أن ينشب أظفاره هناك؛ واللحوم طعوم، والذبائح أجناس؛ فوقف كل وحش بازاء منافسة تهدده بما يملك من أسباب الحياة وبما يعلم من أسرار الموت، حتى خشع المهيض، واستكان الضعيف، واستخذى الجبان، وأقرت الأمم بالضيم، واعترفت الدول بالرق، وانتهى النزاع على ملكوت الأرض إلى قوتين متعارضتين: قوة الرأسمالية في أمريكا، وقوة الشيوعية في روسيا، كلتاهما تريد أن تبسط سلطانها على المستضعفين في الأرض دون الأخرى، والدولة التي كانت تنافسها في استرقاق الشعوب نتفت ريشها الحرب فتأخرت عن صفها وهبطت عن مستواها، فتركت لها تصريف الأمر وغفت في ظلال السكينة ترجو لأجنحتها أن ترتاش ولجروحها أن تندمل؛ فلم يبق العالم اليوم من يقف أمام هاتين القوتين العارمتين موقف الأبي الذي يتكرم عن الذل ويتجافى عن المهانة إلا قوة واحدة تستمد بأسها من روح الله، وتقتبس هديها من نور الحق، هي قوة الإسلام. وبحسبك أن تسمع مذياعك في أي ليلة، أو تقرأ في أي يوم، لتعلم أن هذه القوى الثلاث هي التي تتصارع وتتقارع في الغرب والشرق وما بينهما، وسائر الأمم محتبون بهامش الميدان يشهدون هذا الصراع شهود المتفرج أو المهرج لينسخوا بمبادئهم دياناته وفلسفاته، والأمريكيون يقيمون من دونهم السدود ليظلوا مستأثرين وحدهم بخيراته، والمسلمون في تركية وإيران وباكستان وأفغانستان وإندونيسيا، وفي أقطار العروبة من الخليج الفارسي إلى المحيط الأطلسي، يجأرون بالشكوى، ويصرخون من الظلم، ويغضبون للكرامة، ويثورون للحق، وينادون بالجهاد؛ ولكن أصواتهم الإنسانية اللينة تذهب في عواء الذئاب ونباح الكلاب كما تذهب النسمة الرخية في الأدغال الشواجن!

كأنما الحرب لم تخلف من المشكلات غير مشكلة الشرق الأوسط! وكأنما لم يتركوا من التراث غير تراث الإسلام! وكأنما الأسرى في نظام هيئة الأمم المتحدة هم المسلمون! فمن لم يكن له من شذاذ الأمم جعلوا له موطناً من أرض العرب! ومن ضاقت عليه مذاهب العيش في بلده وسعوها عليه من أرزاق العرب! ومن نقت ضفادع بطنه لازدراد بقعة حرام سكنوا جوفه المسعور بقطعة من أملاك العرب! ومن نازع المسلمين أو العرب! فالروس تتحلب أشداقهم على ابتلاع تركية وإيران. والهندوس يجدون العطف الأوربي على عدوانهم الوحشي على أهل باكستان. وهولندة تحاول أن تمزق بجديد الأمم المتحدة إندونيسيا، وهذه الدولة لا تزال تشعر بمسامير النعل الهتلري الثقيلة تغوص في ظهورها الوطيئة البضة. وإنجلترا العجوز أن تخلى لحاميتها أمريكا طريق الشرق فتقرر الجلاء عن فلسطين لتقتطع السودان من مصر، وهو إنسان عينها ومهجة قلبهان لتجعله نقطة ارتكازها في أفريقيا، وحقيقة مجازها إلى الشرق. وفرنسا المنحلة ما زالت تفرض الباقي من سلطانها على الشمال الأفريقي كله فتقيم بينه وبين أبويه الإسلام والعروبة حاجزاً من الظلام والحصر والرقابة والتجسس، وترغمه على الاندماج بها والفناء فيها، فيستظل بغير علمه، ويتكلم بغير لغته، ويؤمن بغير دينه. ولولا ممالأة الدول ومواطأة اللصوص ومناوأة الخطوب لما ثبتت هذه القدم الناعمة في رمال الريف وصخور أطلس! وأمريكا التاجرة الطموح تصمم على أن تحول بين الشيوعية وثروة الشرق فتجعل من الإنجليز واليهود سداً كسد ذي القرنين يأخذ السودان من مصر، وفلسطين من العرب، وبقية امتداده من الإسلام. ولولا هذه النية الخبيثة لما ساعدت انجلترة على مصر في مجلس الأمن، وعاونت اليهود على العرب في جمعية الأمم المتحدة.

هاهي ذي تقسم فلسطين وبها إحدى القبلتين وثاني الحرمين قسمة ضيزى بين العرب الأصلاء واليهود الدخلاء، وتحمل الصهيونية على ضمائرها وبواخرها من أركان الأرض إلى فلسطين لينصبوا للحق كما نصبوه من قبل لعيسى، ويبذروا في القدس الشقاق للناس كما بذروه في يثرب لمحمد!

ليت شعري ما جريرة العرب والمسلمين على الأمم الأوربيين والأمريكيين. هل جريرتهم عليهم أنهم فتحوا العالم وطهروه، وأعلنوا دين الله ونشروه؟ قد يكون مع الفتح ترة العنصرية، ومع نشر الدين تعصب الكنيسة، ولكن ترة المقهور وتعصب الكاهن لم يكونا وحدهما السبب في ذلك الاستخفاف الدولي بالإسلام والعروبة؛ إنما السبب الأقوى فيما أعتقده أن المسلمين اعتمدوا على الحق دون القوة، وعولوا على القول لا على الفعل، واعتقدوا في الشخص لا في المبدأ، ونسوا أن دينهم قرآن وسيف، وتاريخهم فتح وحضارة، وشرعهم دين ودنيا، وحربهم جهاد وشهادة، وزعامتهم خلافة وقيادة.

فهل آن لأبناء الأمة الوسطى ووراث الدعوة الكبرى أن يذكروا ما نسوا، ويحددوا ما طمسوا، ويعلموا أن الحق هو القوة، وأن القوة هي الوحدة، وأن وحدة العرب كانت معجزة دين التوحيد، قام عليها تاريخهم القديم ولن يقوم على غيرها تاريخهم الجديد؟!

أحمد حسن الزيات