انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 756/من وراء المنظار

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 756/من وراء المنظار

ملاحظات: بتاريخ: 29 - 12 - 1947



في حجرة صاحب ديوان. . .!

استأذنت فسرعان ما أذن لي بالدخول عليه، ولقيني بترحاب وبشاشة يعرفهما فيه كل من دخل حجرته، وقل في أصحاب الديوان من كان له مثل أريحيته ونبله على رفعة منصبه وسمعة نفوذه، فإن أكثرهم وا أسفاه لتسفل نفوسهم بارتفاع مناصبهم، وإنهم ليتأبهون على الناس ويتكرهون لهم حتى لكأنهم يحيون ويموتون. . وليس لهم في الواقع من الأمر شيء. . .

وإنه لينزلني منه منزلة الصديق وأنا تلميذه، ويرفع مكانتي عنده، ويحب منظاري ولا يفتأ يحدثنني عنه.

ومن أعظم ما حببه لي على كثرة ما أحببت من صفاته، أنه يستمع في أناة عجيبة إلى كل شاك لا يتبرم ولا يقاطع ولا ينفذ صبره، ثم يقول ما له ومل عليه، لا يلتوي ولا يغالط ولا يتحفظ. .

كان على مقعد قريب من مكتبه وكيله في العمل، وهو يكبر رئيسه فيما أعلم بنحو سبعة أعوام ويسبقه في التخرج بمثل هذه السنوات، ولم يخف على منظاري أن بنفسه من ذلك شيئاً بل أشياء. .

واستبقاني الرئيس بعد أن أفضيت إليه بما جئت من أجله؛ ودخل شاب بعد أن أذن له فسلم وظل واقفاً، وقرأت في وجهه أنه يكتم غضبه؛ وأذن لقادم آخر فدخل وهو كهل في أول الكهولة فيما قدرت، وأشار إليه الرئيس فجلس على مقعد ينتظر دوره في الكلام. . . . ولمحت كذلك في وجهه إنه يمتلئ حفيظة وغضباً. .

وقال الرئيس للشاب: أظن أنه ينبغي أن تسافر فإن فلاناً بك مصر على ألا يقبلك بعد اليوم عنده؛ ومشت في هيكل الشاب رعدةً وقال في عبارة مضطربة وفي لهجة تصور مرارة نفسه. معنى ذلك إن الموظف بهيم لا إرادة ولا رأي ولا كرامة له؟ لم لا يفهم فلان بك إنه أخطأ حتى لا يعود ثانية إلى الخطأ، وإلا فما وجه خطأي أنا كي لا أقع فيه من بعد؟. . ينبغي إذن أن أصانع كل رئيس على حساب الحق والكرامة والصالح العام. . لا. لا. . هذا كثير. .

وظلت في وجه الرئيس بشاشته على الرغم مما كان يرتسم على محياه من علامات الألم لما يقول الشاب، وقبل أن يتكلم الرئيس، أنطلق ذلك الكهل الذي كان ينتظر دوره. وقد نهض كالخطيب فقال يخاطب الشاب: اسمح لي أن أنصح لك نصيحة مجرب: طلق الكرامة والذمة والحق والأمانة ما دمت قبلت الوظيفة كرامة؟ رأي؟ إرادة؟ إنك يا بني تحلم. أنت في مصر. إنك تكلف نفسك رهقاً شديداً إذ تمسكت منذ الآن برأيك وحكمت ضميرك وأرضيت خلقك. . أنت يا بني عبد. . لا تغضب فأنا عبد مثلك. . وكل موظف عبد من أكبر كبير إلى أصغر صغير وإنما يستعبد بعضنا بعضاً. . . كرامة؟ رأي! ضمير؟. . . أنت فين؟. . . المسألة أكل عيش بأي شكل، وكل واحد لا يهمه إلا نفسه. . الصالح العام؟ أين هو. . . أحنا فين؟. . . داحنا في مصر. . .

وظل صاحب الديوان على هدوءه وبشاشته، وجلس الخطيب الكهل بعد كلام طويل من هذا القبيل؛ وأخرج الشاب ورقة من جيبه فدفعها إلى الرئيس فإذا هي استقالته؛ وراجعه الرئيس متلطفاً ثم استمهله يومين لينظر في الأمر؛ وخرج الشاب، وألتفت إلى الكهل فإذا قضيته هي قضية ذلك الشاب ولكنه كما قال لا يستقيل لأن له بنين وبنات ينفق على تعليمهم وليس يملك غير مرتبه. . ووعد الرئيس كذلك أن ينظر في أمره من أجل أولاده فأنصرف وهو يقول حسبي الله. . .

ونظر إلى الرئيس وقال باسماً: كأني أراك تكتب منظارك؛ وما كاد يلتفت حتى طلب الأذن مستأذن فأدخل، فإذا بشاب في نحو الخامسة والثلاثين دمث مهذب فيما يبدو، في وجهه من الهم والكدرة أكثر مما فيه من غضب، وسلم وقال، أنا فلان، وسرد تاريخ حياته، ثم ذكر إن فلاناً من فرقته رقي وهو ثاني الفرقة، وإنه هو لم يرق وهو الأول، ويحب أن يعلم لم تخطاه الثاني، فإن كانت له عيوب فمما يشفي نفسه أن يعرفها، أما أن يقال لك إنك ممتاز وأما أن يثني عليه رؤساؤه جميعاً ثم يترك ويرقى من هو دونه فذلك ما لا يستطيع أن يستسيغه ولا أن يحمل على قبوله عقله، وهو ما لا تطيقه كرامته.

وعند ذلك أنطلق الوكيل الذي ظل صامتاً منذ أن دخلت، فأخذ دور ذلك الكهل الخطيب، وقال في اتزان ولكن في كثير من التحمس اسمع يا أستاذ ألا زلت من السذاجة. . . لا تؤاخذني. . . ألا زلت من الطيبة بحيث تفهم أن الأمر أمر كفاية واستحقاق. . . ابحث تجد صاحبك تزوج حديثاً فترقى أو جرى في ركاب عظيم فنال الأجر أو هو قريب فلان باشا أو علان بك، أو غير ذلك مما أستحي أن أذكره، فإن استطعت أن تفعل مثله أو يكون لك مثل ظروفه فستظفر بالرقي وإلا فستبقى حيث أنت إلى أن يشاء الله. أنت في مصر على رأي صاحبنا الذي خرج. . . أنت في مصر يا بني. . . أنظر فهاأنذا بيني وبين الستين أربعة أعوام وقد تخطاني من لا أحسبهم جاهدوا في الحياة جهادي وخدموا البلد خدمتي. . . ثم ضحك ضحكة مرة ونظرت فإذا في وجه الرئيس شيء من الحرج وفي عينيه ما لا يخفى معناه من اختلاج، وفطن الوكيل فتدارك الأمر قائلاً. . . لا مؤاخذة يا بك فأنت ذو فضل وما عنيتك بما أقول. . . معاذ الله، ثم ضحك ضحكة أخرى لم أدر أقصد بها التبسط أم قصد إظهار ما في نفسه من غضاضة.

وقال الرئيس لهذا الأستاذ: اترك لي مذكرة وسأنظر في أمرك، وقال الأستاذ وهو يهم بالانصراف إني سأقبل على عملي غير متأثراً بشيء وإن كان الألم ملء نفسي ولكني أخشى أن يأتي الوقت الذي أصبح فيه كالحصان تدفعه العربة إن لم يجرها. . . وضحك الوكيل قائلاً. . . لست أول عبيط ولن تكون الأخير. . . أتظن أن في الرؤساء واحداً يعنى بأن يفكر في هذا؟ حسبه التفكير في نفسه.

ونظر الرئيس إلي ضاحكاً وقال. وأنت ما شكواك؛ فقلت إني أستكبر أن أشكو. . . هل تكتب هذا الذي رأيت وسمعت؟ قلت لست أصبر إلا بجهد حتى أكتبه.

وقال الوكيل ما جدوى كتابتك؟ يظهر إنك عبيط آخر. . . لا تؤاخذني. . . أكتب ما شئت إنك لا تسمع من في القبور. . . أتحسب هذه أموراً مجهولة تكشف عنها بما تكتب فتنبه ذا غفلة؟ كلا إن ذلك كله معلوم، وقد شاع الفساد حتى شمل الدولاب كله فماذا تقول؟ وماذا تريد بكتابك. . . أأنت صاحب معجزة؟ والله لو جاءتك معجزة ما استطعت أن تغير ما نحن فيه. . . يا شيخ الله يفتح عليك. . أنت في مصر. . ها. . ها. . ها. . غير الجيل كله وابدأ من جديد.

وتنهد الرئيس وقال لا أخفي عنكما وأحدكما زميلي والآخر تلميذي أني كرهت العمل و ' ني أتمنى لو استطعت أن أفعل فعل ذلك الشاب الذي دفع إلى استقالته. . . أتدرون ماذا يقول؟ يقول إنه يريد أن يهاجر إلى الأرجنتين لينسى أنه مصري!. إني أريد أن أعمل شيئاً فلا أستطيع.

لقد فسد الدولاب من فوق فنزل الفساد إلى كل جزء. . . هاأنذا ما أسمع الشكايات طول يومي ثم أرفع الأمر إلي من هم فوقي فلا أظفر بشيء. وأحمل الأوراق المكدسة إلى منزلي فأسهر الليل في تصريفها وعملي لا يعدو أن يكون في الغالب تنفيذ ما أومر به.

الخفيف

من الشعر السياسي:

تبعات الجلاء

للأستاذ محمد عبد الغني حسن

أطلتم عليه في الظلام شجونه ... وفرحتمو في الكهف نوماً جفونه

فلا تحسبوها رقدة الفجر من بعض دينه ... أعد لهذا الفجر يوماً عيونه

أليس آذان الفجر من بعض دينه ... فكيف غفلتم أن يلبى دينه؟

هو الصبح نادى بالجلاء مبشراً ... وقد أسمع الدنيا أما تسمعونه؟

دفعتم به نحو الرقاد. . . وإنما ... إلى المجد كنتم والعلا تدفعونه

تريدونه أن لا يكون كأمسه ... ويأبى عليه المجد أن لا يكونه

مضى لا تصد الكارثات سبيله ... ولا تستريب الحادثات يقينه

هو الحر لا تلوى العوارض قصده ... ولو تقف الدنيا العريضة دونه

فككتم عن الليث الهصور وثاقه ... وكنتم على الليث اقتحمتم عرينه

وحجتكم فيما مضى صون عرشه ... فمن هو أولى منكما أن يصونه

إذا الليث لم يمنع ذمار عرينه ... فأن الذئاب الطٌّلس لا يمنعونه

إذا ما أعان المرء في الأمر نفسه ... فما يمنع الأقدار من أن تعينه؟

ومن مد للدنيا يمين مكافح ... يمد له الله القوي يمينه

ظننا الجلاء الحلو مراً مذاقه ... وما الأمر ألا حيثما تجعلونه

ومن أعظم الأمر الجليل تهيباً ... فأحزم شيء بعدها أن يهينه

إذا استصعب الأمر الفتى في ابتدائه ... فأحرى به من بعد أن يستهينه بني مصر حملتم أمانة أمة ... وما العبء إلا كل ما تحملونه

فما الفوز بالشيء الذي تأخذونه ... ولكنه الشيء الذي تبذلونه

حملتم من الماضي الصعاب كثيرة ... فهيا احملوا صعب الزمان ولينه

وما ذلك الثوب الذي تخلعونه ... بأيسر من هذا الذي تلبسونه

فما تبعات المجد أحلام حالم ... ولا هي بالتمر الذي تأكلونه

ومن يضمن استقلال مصر بأسرها ... إذا لم يجد في كل نفس ضمينه؟

فلا تحسبوا ثوب الجلاء تزيننا ... بشيء إذا لم نستطع أن نزينه

بني مصر!! غايات الحياة كثيرة ... فلا تهنوا في موقف تفقدونه

ولا تحمدوا عيد الجلاء. . وإنما ... أعدٌّوا غداة العيد ما تحمدونه

عليكم ديون للبلاد كثيرة ... رعى الله من وافى فوفَّى ديونه

فلا تجعلوا لحن الخلود قوافياً ... تنمِّق أبكار الكلام وعُونه

فليس نشيد الخلد ما تنظمونه ... ولكن نشيد الخلد ما تصنعونه

ليلة عيد الميلاد

للأستاذ زهير ميرزا

حدقي أيتها الأرض، فقد عم البلاء

وانظري الأشلاء تطاير يذروها الفضاء

وأنصتي! فالكون أضحى محشراً فيه الجزاء

كل نفس أيقنت أن طال في الدنيا الثواء

والشباب اليافع البكر يواريه الفناء

ناشئ روعه الخطب وأصماه الشقاء

لم يذق من كوبة الدنيا سوى ما فيه داء

قدَّمته راحةُ الشيطان يحدوه الرجاء

وأقام اليوم أعراساً له فيها احتفاء

بعثت من فوهة المدفع نار وضياء والأهازيج رعود وعويل. . . لا غناء

رقص الناس بها هولاً وذعراً كيف شاءوا

وتغنى عازف البارود والدمع سخاء

هكذا الأعراس في العالم يزجيها الفناء

ليلة الميلاد! أعيا منطقي الداء العياء

والتوى القولُ المبين اليوم إذ حم القضاء

لم يعد يُمشى بمجنوز. . . ففي ذاك الرخاء

حيث يقضى المرء يلقى قبره. فيه الثواء

كفن في السلم من خز، وفي الحرب دماء

يدفن الآباء أبناء لهم فيهم رجاء

ويوارون على - البعد - حشاشات أضاءوا

دمعة الشيخ جنون فاستعار فانطفاء

كم شرايين من العندم قدَّ الأبرياء

كي يروى منه أفراد من السلم ظماء

قذفوا بالفوج تلو الفوج هوجاً كيف شاءوا

فأحلوا الأرض أنهاراً بها العندم ماء

سخروا (المريخ) فانقاد. وتغريه الدماء

وهو الشرير في أعطافه دوماً ظماء

فإذا الأبحار والأرضون والجو سواء

كلها مذبح جزار له الإنسان شاء

كلما ضحى بفوج؛ سيق للموت الذماء

هكذا سكينه مخضوبة فيها اشتهاء

كلما قيل انتهينا. راعها ذا الانتهاء

ليلة الميلاد! إن الحرب شر وبلاء

لم نقل فيها ولكن طال في اللين الثواء حسب الظالم أن الشبل يغريه الرياء

لم يعد في القوس صبر. . . أرهقتنا الثوباء

زمجري أيتها الريح. . . فلي منك ارتواء

وابعثي العنف بأوصالي ليحييها الرجاء

واعصفي في رأسي البكر كما شئت وشاءوا

وانفضي عن كاهل العزة ما أبقى البلاء

وابعثيها وثبة الحر على من قد أساءوا

عذبتني رقدة الغافي يغذيها ارتخاء

والزمان الطفل يطوينا كما يطوى المساء

نؤت بالأمس أداريه وفي النفس شقاء

واحتملت الإثم في جنبي. أنا منه براء

عجز الطب. . . فلم يبق لنا إلا الفداء

الأبي الحر لا يشرى كما تشرى الإماء

نحن إما لغد نحيا. . . وإما فالفناء

مصر في أحزانها غرقى. أما منها نجباء

أرهق المستعمر الجبس جناحيها يشاء

وطني حتى تنزى من أذاه الطلقاء

ظامئ لم يروه بالأمس (نيل) ودماء

شرب العندم في الكأس. . . فغص الأبرياء

إن من في لثتيه الترب لا يرويه ماء

ليلة الميلاد! هل عدت ببرديك الرجاء

هل يثير العام أن قد عاد للوادي الصفاء

وينار القلب بعد العين. . . أم يقضى الغلاء

ويشير الخير أنت الآن أم سر خفاء

أم ترى نمضي كما كنا وكان القدماء وتوارى العام مثل العام. . . يؤذينا التجاء؟

أنت غيب! - مثلما كنت وتبقين. . . - وداء!

أسفي فالدمعة الحمراء يدعوها الوفاء

إنما يبكي بدمع المقلتين الشهداء

قد غفوا للحشر. . . والجزار يقظان يشاء

حسرتي حسرة من مثله يرجى العزاء

نحن صوت الحق والتاريخ. . . نحن الشعراء

ظمآن. . .

(القلب مصر. . وأنت. أنت سودان)

للشاعر محمد قوره

ظمآن. . والقلب في جنبي ظمآن ... وأنت نبع وجنات وشطآن

ظمآن. والري في عينيك مؤتلق ... ظمآن. . والسحر في جفنيك ربان

ظمآن. يا زهرتي. والكأس مترعة ... وأنت خمر الهوى. والحسن ندمان

ظمآن. لا لوعتي تهدأ على كبدي ... وكم يسعِّرها في الحب حرمان

ظمآن. هل قبلة عذراء من شفة ... ما مسها في الهوى من قبل إنسان

لا أحتسي كأسها - يوماً - مشعشعة ... ولا يعاقرها - في الحب - صديان

تذكري. موعداً - بالشط - جمعنا ... والروح خفاقة. والقلب جذلان

وصوتك العذب ألحان مولهة ... لها بروحي أهازيج وإرنان

كأن كل حصاة في الثرى صدحت ... والموج قيثارة. والرمل ألحان

وكل عين رنت - بالشط - حاسدة ... وكل صب - على الكثبان - غيران

الكون!!. ما الكون!؟ والدنيا وبهجتها ... إذا التقينا وفي القلبين تحنان