مجلة الرسالة/العدد 754/من وراء المنظار
مجلة الرسالة/العدد 754/من وراء المنظار
فتوات ميري!
ما أحسبك أيها القارئ إلا قد اتجه ذهنك إلى ما أريد لأول وهلة، فاستحضرت صورة نفر من شرطتنا الأبطال والعياذ بالله تعالى، وإلا فمن غير هؤلاء يصدق عليهم هذا النعت وهم مصدر وحيه إلي كما يوحي الشيء الرائع بالمعنى الرائع؟
ولست أكتم عنك أيها القارئ أني بهؤلاء الأبطال ضائق أبداً، يغيظني مجرد مرآهم، وأكدر الإصباح عندي صباح يطالعني فيه بطل من هؤلاء قبل أن تقع عيناي على سواه من عباد الله. وإنه والله بعدها ليوم أسود، أظل أسأل الله فيه العافية.
ولست أتبين في نفسي على وجه اليقين ماذا دس فيها الحفيظة على هؤلاء حتى لأطيق كل صنف غيرهم من الأرذال، ولا أكاد أطيق حتى مجرد ذكرهم، ولو تمثلت لي عفاريت وتراقصت حولي بأشكالها وألوانها عن يمين وشمال لأنست إليها ولألفتها قبل أن أستطيع أن أصبر على مرأى واحد من هؤلاء (الفتوات الميري)
وارجع بالذاكرة القهقري ربع قرن فأراني على سور نادي (سيروس) أتدلى لأهبط في حديقته وأنا صبي في الرابعة عشرة وفي يدي كتبي جئت بها من المدرسة مضرباً لأستمع إلى سعد يخطب بعد أوبته من جبل طارق، وقد حال العساكر عند الباب بيني وبين آلاف غيري من الدخول، فما ادري إلا وعصا شديدة تهوي على وسطي فأقع على ظهري صارخاً وتتناثر كتبي ولا ينقذني من الرعب والهلاك إلا أحد الضباط، وأنسى الألم لفرحتي بالدخول إلى حيث أسمع سعداً. . أيكون مرد بغضي هذه الطائفة إلى ذلك الحادث. ولكن بيني وبينه ربع قرن.
وتثب ذاكرتي إلى الأمس القريب فأجدني أتهيأ للنزول من الترام ذات يوم، فإذا بعتل من هؤلاء يتحمس وهو على السلم في تحية أحد ضباطه ولكن يده الهابطة عن جبينه تقع في عنف على منظاري فإذا به يطير عن أنفي؛ ولولا أنه استقر على ذراع أحد الواقفين على السلم لما وقفت له على أثر. على أني وجدته قد تحطمت إحدى زجاجيته، ولا تسل عن مبلغ ما نال أنفي من ألم وما ركبه من ورم بضعة أيام. فهل كأن هذا اللعين يثأر لنفسه ولطائفته مقدماً من هذا المنظار؟ لست أدري. . . وهل يرجع شيء من حفيظتي على هذه الطائفة إلى ذلك الحادث أيضاً؟ ولكني ضائق بهم من قبل ذلك ضيقاً شديداً.
ولقد زادني غيضاً من هؤلاء وسخطاً عليهم مناظر تتابعت منذ أيام بعضها في أثر بعض كأنما تآمرت بها الظرف على كيدي. .
هذا رجل ملقى على الأرض ذات مساء على الطوار أمام الغرفة التجارية يقيئ من فوق ومن تحت، وقد أقيم على هذا الطوار ثلاثة من الشرطة غلاظ شداد ليمنعوا السابلة أن تطأ أقدامهم القيء حذر الموت وانتشار الوباء، وكان أحدهم في وسط الطوار، والثاني في طرفه الشرقي والثالث في طرفه الغربي، وكان ما كلفوا به من أمر جد خطير، ولكنهم اجتمعوا ثلاثتهم يتحدثون وظهورهم إلى المريض والسابلة يطئون القيء ويحملون منه ما يكفي لأبادة القاهرة كلها؛ ولست أدري أين ذهب وقتذاك الأطباء والمسعفون؛ وانزعج أحد المارة لتحذير الناس إياه وهو شاب كان يتأبه ويتنبل بمشيته وملابسه، ولكنه وطئ القيء ونظرت فإذا به جن جنونه وراح يشتم هؤلاء ما وسعه الشتم، ثم دخل صيدلية قريبة فطهر حذاؤه، وعاد يستأنف الشتم ويتم المعركة. . أتظن بعد ذلك يا قارئي العزيز أنهم - أعني هؤلاء العساكر الأماثل - عاد كل إلى موقفه فلبث فيه؟. كلا والله، فما لبثوا أن تجمعوا ثانية يتحدثون ويضحكون والسابلة يطأون القيء وهم لا يعلمون مبلغ ما يخوضون من هول، وكان يكتفي أحد الشرطة البواسل بأن يدير وجهه بين حين وحين فيقول لأحد المارة (ما قلنا يا سيدي ألف مرة بلاش مرور من هنا). .
ورأيت مرة أخرى عدداً من هؤلاء وعلى رؤوسهم خوذات الحديد، وقد جلسوا على مقاعد جلبوها من أحد المقاهي عند أول شارع قصر العيني في مدخل ميدان الإسماعيلية وراحوا يمصون وعلى رؤوسهم الخوذات، عيدان قصب السكر!. . يا لطيف. . يا دافع البلاء يا رب! هل يرى نزلاؤنا مسخرة في مصر أروع من هذه المسخرة؟.
ورأيت مرة ثالثة، فريقاً من هؤلاء - والعياذ بالله مما رأيت - كانوا بعض المتظاهرين بهراواتهم، فهل رأيت (الفتوات) ذات مرة في أحد أحيائنا البلدية يتهيئون لمعركة ثم يمنعون في الحي كله تحطيماً وضرباً لا يبالون ماذا يحطمون ولا من يصيبون؟ على هذا النحو انطلق (الفتوات الميري) يضربون كل مار فيصيبون طبيباً أو مهندساً أو شيخاً أو أستاذاً، وكان آلم ما شاهدت ضربة فظيعة تهوي على ظهر تلميذ في نحو الثانية عشر فما يكاد يصرخ المسكين حتى تنحبس صرخته في صدره فلا يستطيع من فرط ألمه، وذقت معه الألم مرتين فقد ذكرت العصا التي (أكلتها) على سور نادي سيروس.
ونشاء المصادفات الأليمة أن (أصطبح منذ يومين باثنين من هؤلاء الشجعان ينظران في أقفال الدكاكين، في الصباح الباكر وقد ألفيت نفسي حيالهما فجأة عند منعطف في أحد الشوارع. . . يا حفيظ! لقد كان يكفيني من الهم مجرد رؤيتهما، فما بالك أيها القارئ وقد سمعت أحدهما يغني. . . أي والله يغني وفي يده هرواته قائلاً (أنا من ضيع في الأوهام عمره). ولست أدري كيف لهذا الحيوان عمر؟ وكيف يضيع في الأوهام عمره وما ضيعه إلا في الجهل والإجرام. .
وبعد فلو أني مضيت أسرد ما يغيظني ويحفظني على هؤلاء لضاق عنه أضعاف هذا المجال فبحسي تفكه للقارئ ودرءاً لما قد يكون ناله من سيرة هؤلاء البواسل من ضيق، أن أقص عليهم تلك القصة. . أمر أحد شرطتنا في حفلة من الحفلات منعاً للتزاحم أن يدخل الناس أثنين أثنين، ووقف الشرطي الهمام النبيه، فجاء أحد الباشوات ومشى وحده في غير زحمة ولكن الشرطي منعه من الدخول فهو لا يدخل حسب الأمر إلا أثنين! وضحك الباشا وعاد فاستصحب سائق سيارته فما أسرع ما أفسح الجندي لهما الطريق ودخل الباشا يضحك ملء نفسه ويدق كفاً بكف ويقص النكتة على المحتفلين قائلاً (دخلت بنفس هذا السائق)
وهنيئاً لحكومتنا (فتواتها الميري) فأنا على يقين أنها تتنازل عن متاحفنا جميعاً في يسر ولا تتنازل عن هذا الطراز العجيب النادر من شرطتها الذين يحق أن تباهي بهم العالم وتبلغ في مباهتها حد الأعجاز.
الخفيف
فصل الخطاب
للأستاذ محمود رمزي نظيم
قم لنعكف على كؤوس الشراب ... وتزود من الشعاع المذاب
واسقني باسم (غلوش) من عصير ... قد براه الإله في الأعناب خمرة أطلقت من الدن فافتر ... ت سروراً عن لؤلؤ من حباب
نورها الباهر المشعشع يسري ... نشوة في القلوب والأعصاب
تتنحى العقول حين تراها ... أقبلت في مواكب الأكواب
كرمها الأخضر الظليل تراها ... ثورة أعلنت على الألباب
مل إلى الحان واحتسيها وجاور ... معشراً تائه الهدى والصواب
واجعل اللهو والشراب سفيناً ... في بحار الهموم والأوصاب
لا تكن زاهداً ففي العصر زهد ... هو زهد المحتال والنصاب
ما احتفى الدين بالمظاهر لكن ... بقلوب صفت صفاء الشراب
ودعاء اللسان من غير قلب ... طاهر ليس بالدعاء المجاب
كم قلوب في الحان أصفى وأنقى ... من قلوب طغت على المحراب
هات هذا الأكسير ينسى شقائي ... في ابتعادي عن موطني واغترابي
فجعتني الأيام في خلق النا ... س وفي المشتهى من الآداب
إيه دنياكم انهبوها فمالي ... متعة في الحياة يا أترابي
أنا في رحلة عن الملأ الأع ... لى وهذا التراب سوط عذابي
وقد بلغت الستين عاماً وما ز ... لت كما كنت نيراً في شبابي
صقلتني الأيام صقلاً عنيفاً ... فصفا جوهري ورق حجابي
أنا بالله في ثراء وجاه ... قد حماني مذلة الأذناب
أهل جاه الدنيا ظلال أراها ... تتلاشى فمالها من إياب
رب ضخم الحياة منتفخ ألا
و ... هاج أمست دياره في خراب
ثقتي بالحياة ضيعها المو ... ت فولت ولم تعد في حسابي
سبقت حكمة المشيئة في النا ... س بأن يرجعوا لهذا التراب
وبعيني رأيت مدرجة المو ... ت تواري الأخيار من أحبابي
أنا في إثرهم أجد ولي يو ... م احتضار يكون فيه ذهابي
خدعتنا حضارة الجيل باللين ... وأودت بنا بظفر وناب
الحياة التي نكابدها اليو ... م حياة الطغيان والإرهاب قبضت كفها فهانت على الفضل=وضاقت على ذوي الألباب
لا تقل في الحياة ناس فما حو ... لك إلا فصائل من ذئاب
صافح البعض بعضهم مستريب ... ين بأيدي خناجر وحراب
وغدت حالة الممالك فوضى ... ومشى حربها على الأبواب
ينشدون السلام في كل يوم ... كظماء مخدوعة بالسراب
كم تغنت بالسلم في القوم بوم ... جاوبتها أنشودة من غراب
ويل هذا السلام من كل جبا ... ر عنيد مخاتل كذاب
اتخذته الشعوب رباً وما زا ... ل يسوق القطيع لقصاب
ما لنا نجحد الحروب وفي الحر ... ب هلاك لا نحس الأرباب
أيها الرب أن خوفك رباً ... لم يزل وجده العزيز الجناب
لا تغرر بالناس وافرح بما نلـ ... ت وباهي بالمجد والألقاب
إن عبادك الذين يحابو ... نك ضلوا وخاسر من يحابي
أقرضوك الثغاء منهم لشيء ... مثلما يقرض النقود المرابي
فارتقها من السماء ففيما ... قدرته السماء فصل الخطاب
(أبو الوفا)
محمود رمزي نظيم