انتقل إلى المحتوى

مجلة الرسالة/العدد 754/الذكرى الأولى:

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 754/الذكرى الأولى:

مجلة الرسالة - العدد 754
الذكرى الأولى:
ملاحظات: بتاريخ: 15 - 12 - 1947



شكيب الشاعر

للشيخ محمد رجب البيومي

- 1 -

(لو لم يكن شكيب كاتباً فريداً لكان شاعراً مجيداً؛ فهما كفتان كلما رجحت الواحدة شالت الأخرى)

المنفلوطي

مات أمير البيان.

منذ عام كامل خرجت الصحف على قرائها بهذا النبأ الفاجع فأشعلت القلوب حسرة، وأرمضت الجوانح لوعة، ولقد سقطت من عيني عبرات محرقة، كأني أطالع نعي صديق حبيب، تصلني به وشائج القرابة والصحبة ولا عجب في ذلك، فقد تتلمذت سنوات عديدة على أمير البيان، أدرس كتبه فأستفيد، وأحفظ قصائده فأنتفع، كما أنظر إلى مواقفه الرائعة في نصرة القضايا العربية، فأتمنى أن يوجد بين زعماء الشرق من يقتفي أثره؛ وينسج على منواله في التضحية والفداء.

ولقد شعرت بحنين رائد ينازعني إلى الكتابة عنه، فكنت أسائل نفسي ما عسى أن أقول في هذا الرجل، وقد كان أمة وحده تسعى وراء العظائم، وتضطلع بما تنوء به شم الفيالق، وهو فوق ذلك بحاثة قدير تسير مؤلفاته مسير الشمس في الكون، وناثر موهوب تتزاحم عليه المعاني الفائقة فيختار منها كل جميل فائق، وشاعر مطبوع تتطامن له رقاب القوافي، ويسلسل لديه كل أبي جموح.

غير أن الذين تكلموا عنه طيلة العام الفائت لم يتعرضوا إلى شعره الرائع بما ينبغي أن يلم به كل متحدث عن الأمير، وكأني بجهاده السياسي، ونثره العلمي، قد طغيا على ما تغنى به رحمة الله من فاتن النظم، وبارع القصيد، لذلك رأيت أن أتحدث عن فنه الرفيع ليعلم من يتشدقون اليوم بالهراء الغث كيف يكون القريض العربي في ديباجته المشرقة، وعاطفته الجياشة، وليدرك القارئ هذا الفرق الواضح بين من يحافظ على عربيته الخالصة، ولهجته الأصيلة، وبين من يضله الله على علم، فينقل ما وعاه من دواوين الفرنجة، دون أن يشعر بإحساس صادق لما يقول، ويزيد فيجعل لغته قلقة مفككة تنادي على نفسها بالويل والثبور.

ولقد نشأ الشاعر في أسرة عربية عريقة يتصل نسبها بالنعمان ابن المنذر عظيم الحيرة في عهدها البسام، فلا غرابة إذن حين نجد الأرسلانيين مفطورين على الطبائع العربية التي تحدث عنها تاريخنا المجيد، من حب للمروءة، وذود عن الحياض، وتعلق بالشعر يسمعه العربي، فتهتز أعطافه مرحاً، ويرقص قلبه طرباً على موسيقاه، لأنه يفصح عن ذات نفسه أصدق إفصاح.

وسيصدق القارئ كلامي هذا حين يعلم أن الأمير شكيباً وأخويه الأميرين نسيباً وعادلاً قد تركوا للشعر العربي كنزاً ثميناً يعتز بفرائده ويباهي بلآلئه وما ظنك بأشقاء ثلاثة فيهم الصناجة الصناع، والذواقة المفن، والطائر والصداح.

وقد ولد شكيب بعد أخيه نسيب بسنة ونصف فنشأ كالتوأمين دخلا المدرسة معاً، وتخرجا معاً، وبدت مخايل شاعريتهما في سن مبكرة، وهل سمعت أن شاعراً نشر قصائده في الصحف وهو في الرابعة عشرة من عمره قبل شكيب؟ وهل سمعت أن شاعراً كان الأول في مسابقة شعرية عامة، وهو في السادسة عشرة قبل نسيب!؟ كل هذا كان بفضل الموهبة الشعرية التي انتقلت إليهما عن طريق الوراثة، والتي ترعرعت بما حفظاه في عهد الحداثة من شعر جيد، قد ارتقى بهما درجات في سلم الكمال.

على أن القدر قد ساق إليهما في ذلك العهد الشيخ محمد عبده إذ كان أستاذاً في المدرسة السلطانية ببيروت، فدلهما على شعر البارودي وهو كما نعلم إشراق لفظ وجودة معنى، حيث أكبا على قصائده حفظاً واستظهاراً، ولا تسل عما يفعله الشاعر المعاصر في أبناء جيله، فهو يقرب إليهم البعيد، ويدني منهم الشاسع، كما يخلق فيهم الرغبة الملحة في الارتقاء إلى منزلة، والصعود إلى ذروته، ومن هنا كان سامي نهراً صافياً فاض عليهما في بيروت بالنمير العذب كما فاض على شوقي وحافظ بوادي النيل.

ولقد كان أثر البارودي في شكيب أوضح منه في نسيب، فإنه جذب الأول إلى من يشابهونه من شعراء بني العباس، فكان قنطرة عبر منها الأمير إلى البحتري والمتنبي والشريف وأخيراً ممن قطف رب السيف والقلم أزاهيرهم الناضرة؛ أما نسيب فقد عكف - كما يقول أمير البيان - على قراءة شعراء المعلقات ومن لف وأنت حين تقرأ له تحتاج إلى غير قليل من التريث والاطمئنان، على أنه قد يتأثر بالبارودي فتراه وسطاً بين الجزالة والسلاسة كأن يقول في فقير بائس.

يخد أديم الأرض خداً كأنما ... له قبل الغبراء ثأر مخلف

جبين بمرفض الصبيب مضمخ ... وشعر بملتص الغبار مغلف

وجيد خفوق الأخد عين كأنما ... تبينت من أوداجه الدم ينطف

إذا زلزلته سرعة الخطو أوشكت ... أضالعه في زوره تتقصف

كأن أزير الجوف عند وجيبه ... حسيس هشيم والندى يتوكف

يساقط نثر الطين عنه إذا مشى ... كما فض ختم الدين سكران معنف

كأني به إذ فرق الترب والحصى ... يفتش هل في باطن الأرض منصف

إذا استنجد الآمال عند اكتئابه ... تبدي له ستر من القار مغرف

وعلى كل فقد كان أمير البيان أكثر توفيقاً في هيامه بالشعر العباسي وحده، فقد نضح عليه من العذوبة والرقة، ما جعل شعره حبيباً إلى نفوس قرائه. ومن نعم الله على شكيب أن هيأ له الأسماع التي تصيخ معجبة إلى إنتاجه من يوم أن عرفته العربية أديباً يافعاً يتنقل بين حجرات درسه فكان لا ينشر في الجرائد - مع حداثة عمره - قصيدة إلا تردد صداها في ربوع الشام، ولقد شجعه هذا على المضي في سبيله، فاستمر يظهر للعيون قلائده من حين إلى حين، وما بلغ السابعة عشرة من سنه، حتى جمع ما نشره متفرقاً في الصحف بديوان صغير أسماه الباكورة، وقد جعل إهداءه للأستاذ الإمام، متودداً إليه في تواضع، معترفاً بضآلة هديته في جانب ما يليق أن يهدي إلى حكيم الإسلام فهو يقول في إهدائه.

هي دون ما يهدي إليك وطالما ... قبل الكبير هدية من صاغر

أهديتها لا لكي تليق وإنما ... مثلى على ما فاق ليس بقادر

ومهما يكن من شئ فقد كان لظهور الباكورة رنين في مختلف الصحف الشامية، فهذا تقرظ، وتلك تنقد، مما أكسب الشاعر الناشئ منزلة في القلوب، والواقع أن في ديوان الباكورة شاعرية غضة، تدل على مستقبل زاهر، إلا أنها - والحق يقال - لا تستأهل هذه الضجة الكبيرة، إذا قيست بما يقال في عهدنا الحاضر بعد تنوع المذاهب الشعرية، ولكنها بالنسبة إلى زمنها السالف حميدة مقبولة، لأنها محاكاة للشعر القديم في دقة تدل على نظر ثاقب وفكر حصيف، على أن الدقة كانت تخون الأمير في بعض الأحايين، فيظهر شعره معلناً عن أصله الذي قيس عليه وإليك قوله في مطلع قصيدة.

بقلبي ما تهمي العيون وتأرق ... وللعين ما يبلى الفؤاد ويرهق

وما كنت ممن يرهق العشق قلبه ... ولكن من يدري فنونك يعشق

فهذان البيتان يشهدان أنهما مأخوذان من قول المتنبي.

لعينك ما يلقي الفؤاد وما لقي ... وللشوق ما لم يبق مني وما بقي

وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... ولكن من يبصر جفونك يعشق

ومثل هذا التقليد في (الباكورة) كثير.

وما كاد أمير البيان بتجاوز هذا الدور ويخطو في العقد الثالث من عمره حتى تمكن من فنه واستوى على قمة مجده، فصار جيد السبك، وثاب الخيال، بعيداً عما بيناه من المحاكاة والتقليد، ولقد كان مولعاً بأستاذه البارودي إلى درجة جعلته يكثر من التفكير فيه، فصار لا يكتب مقالاً في جريدة أو بحثاً في مجلة، إلا توجه بشعر سامي، مبالغاً في إطرائه، وتشاء الأقدار أن تقع بعض هذه الكلمات في يد رب السيف والقلم، وهو نازح عن عرينه في سر نديب، فيدفعه شوق عاصف إلى من يثني عليه ثم يغلو به الحنين فيكتب إلى الأمير على بعد الدار ونزوح المزار.

أشدت بذكرى بادئاً ومعقباً ... وأمسكت لم أنبس ولم أتكلم

وما ذاك ضنا بالوداد على امرئ ... حباني به لكن تهيبت مقدمي

ولك أن تتصور فرحة الأمير بكتاب أستاذه، فقد حقق له أمله الكبير في التعرف به، فطفق يحمد الظروف الطيبة التي هيأت له ما يريد، ثم كتب إليه قصيدة عصماء تشتعل وجداً وتندلع حناناً وفيها يقول.

إلى كل يوم فيك وجد كأنما ... طوى جانحاً منى على نار ميسم

حلفت بما بين الحطيم وزمزم ... وبالسدرة العليا ألية مقسم

لألفيت عندي دوس مشتجر ألقنا ... وخوضي في حوض من الدم مفعم

أقل لقلبي في المواقف هيبة ... وأهون من ذاك المقام المعظم وهذا تصوير جميل يدلك على ما وصل إليه الأمير في درجات الشعر وأظن الفرق بينه وبين الباكورة بعيد، فهذا شعر قوي محكم اعتمد فيه الأمير على نفسه وانتزعه من ذات صدره، فجاء ينطق ببراعة قائلة الفنان، وإني لأعجب كيف اندفع البارودي إلى تلميذه الناشئ هذا الاندفاع الغريب، فقد نظم فيه من الفرائد كما لو كان خدين شبابه ورفيق صباه، كأن يقول.

أنا أهواك فطرة ليس فيها ... من مساغ للنقض والإبرام

جمعتنا الآداب قبل التلاقي ... بنسيم الأرواح لا الأجسام

فبلغنا بالود ما لم ينله ... بحنان القربى ذوو الأرحام

وإذا الحب لم يكن ذاد واع ... كان أرسى قواعداً من شمام

هذا وقد اتصلت المراسلات بين الشاعرين فترة غير قصيرة كان لها أثرها البين في عظمة الأمير فقد تلفت الدهر بعينيه إلى من يخطي بمساجلة البارودي العظيم، وتطلع محبو الأدب في شتى بقاع العربية، إلى الشاعر الجديد يحفظون قصائده، ويقتنصون فرائده، ويوازنون بين نثره ونظمه فيجدونه أهلاً للحمد والإطراء وهذا بلا شك غنم كبير فاز به الأمير.

(له بقية)

محمد رجب البيومي