مجلة الرسالة/العدد 753/طرائف من العصر المملوكي
مجلة الرسالة/العدد 753/طرائف من العصر المملوكي
للأستاذ محمود رزق سليم
تمهيد:
قيضت لي الظروف الاطلاع على كثير من تاريخ العصر
المملوكي وأدبه، واجتماعياته. واستخلصت من ذلك كله مؤلفة
موسوعة تصدر تباعاً في أجزاء. وأحببت أن أعجل إلى قراء
الرسالة الغراء؛ فأعرض على أنظارهم صوراً شتى لنواحي
هذا العصر، آملا أن يجدوا فيها طرافة، وأن يجدوا في هذه
الطرافة شيئاً نافعا يجلي أمامهم وجه هذا العصر وخصائصه،
ويزيل عن حواشيه ما اكتنفها من ظلام.
وستكون هذه الطرائف خليطاً منوعا ما بين تاريخية وأدبية واجتماعية ونحوها. وإلى القارئ نبذة تاريخية سريعة تعرف بالعصر.
1 - التعريف بالعصر
العصر المملوكي فترة من فترات التاريخ المصري الطويل، وحقبة من أحقابه الواسعة، تحتجز منه زهاء ثلاثة قرون بين سنتي 648هـ - 923هـ. وبدأت بدءاً هينا لينا لا ضجة فيه ولا صخب إلا لماماً لماما، كما بدأت عصور قبله. ثم أخذ فيه الضجيج يشتد، والعجيج يزداد، وما زال حتى انتهى بأن هوت البلاد تحت أعباء حادث جلل وخطب عظيم.
قامت الدولة الأيوبية بمصر بزعامة مؤسسها صلاح الدين الأيوبي وما زالت تعالج الحروب الصليبية وغيرها، حتى ملك البلاد الملك الصالح نجم الدين الأيوبي أحد ملوك هذه الدولة. فوقعت في عهده إحدى المعارك الحاسمة في تلك الحروب وهي معركة (المنصورة) التي أسر فيها ملك فرنسا (لويس التاسع). وكان الصالح نجم الدين قد استكثر من شراء المماليك من الأتراك، ورباهم، وابتنى لهم قلعة بجزيرة الروضة، واتخذ منهم حاشية وحرساً وجنداً، ووجد فيهم وفاء وولاء، كما وجد فيهم شجاعة وبلاء، في حوادثه المختلفة. . .
مات الصالح نجم الدين، والمعركة في أبانها وريعانها. فكتمت زوجته (شجرة الدر) خبر وفاته، لتحفظ على جيشه معنويته، ريثما يعود ابنه (توران شاه) ويتسلم مقاليد الأمور.
عاد توران شاه، فلم يستطع أن يستصفي زوجة أبيه (شجرة الدر) ولا أن يستخلص مماليك أبيه. فانتهى النزاع بينهما بأن قتلوه قتلة شنيعة.
حينذاك يصب الأمراء من المماليك (شجرة الدر) ملكة على البلاد. . .
(وشجرة) الدر تعتبر - من ناحية - بقية من بقايا الأيوبيين، فوجودها على العرش امتداد لوجودهم. ولكنها - من ناحية أخرى - كانت جارية من جواري الملك الصالح، وليست أيوبية من نسل الأيوبيين، فوجودها على العرش يعتبر بدءاً للعصر المملوكي، أو هو على الأقل إرهاص ببدئه.
قيل إن خلفة بغداد - إذ ذاك - المستعصم بالله العباسي أرسل إلى رجال مصر يعيرهم بها، ويوبخهم لأنهم ولوا عليهم امرأة. فخشيت (شجرة الدر) مغبة الأمر، وأخذ مركزها يتحرج، وخشيت كذلك أن تتحرك أطماع الطامعين من بقايا الأيوبيين. فأرادت أن تتلافى الأمر، وأن تحتمي هي وعرشها برجل صنيعه لها، يكون له من الملك اسمه وشكله، ويكون لها منه النفوذ والسلطان.
اختارت (شجرة الدر) لذلك مملوك زوجها وهو (أيبك الجاشنكير) وكان حينذاك أحد أمراء دولتها الكبار. فتزوجته وتنازلت له عن العرش، فارتقاه ملكا، وبقيت هي بجواره لها الأمر والنهي والحول والطول. وتلقب بالملك المعز، وكان أول ملوك هذه الدولة.
تسلم الملك المعز عرشه في غير كثير من الجلبة والضوضاء - كما أشرنا - وبذلك انتقل الملك من دولة إلى دولة، وبذلك أيضاً بدأت دولة الأرقاء.
ودرج الأمراء فيها على أن يعقدوا مجالس للشورى عند خلو العرش، ليختاروا من بينهم أميراً يجلس عليه. فإذا تم الأمر لأحدهم كان إليه وحده الحكم والسلطان.
أما هؤلاء الأمراء فهم من المماليك المعتقين الذين وصلوا بذكائهم وبلائهم إلى هذه المرتبة. ولهم وحدهم حق اختيار سلطان البلاد. لهذا كانت طريقة الحكم في الدولة نمطا فريداً بين طرق الحكم المعروفة.
وقد عاشت هذه الدولة زهاء قرون ثلاثة - كما أشرنا - ويقسمها بعض المؤرخين إلى دولتين. والبحرية والبرجية، أو التركية والجركسية. وملك الدولة البحرية من المماليك الأتراك، وملوك الدولة البرجية من المماليك الجراكسة. ومؤسس الأولى الملك المعز (أيبك الجاشنكير)، ومؤسس الثانية الملك الظاهر (برقوق ابن آنص).
واتخذت كلتا الدولتين جنودها من المماليك، إذ عني الملوك والأمراء معاً بجلبهم وشرائهم من الأسواق الخارجية، كما عنوا بتنشئتهم تنشئة عسكرية، واتخذوا منهم بطانة وحرسا. ووكلوا إلى النابهين منهم - بعد عتقهم - مناصب الدولة. وكانت كلها مناصب عسكرية إذا استثنينا منها مناصب القضاء والكتابة وما إليها وتكون من هؤلاء الجنود والأمراء ومن السلطان، الطبقة الحاكمة في البلاد، التي لها دون سواها من نابتة البلاد، حق الحكم وتصريف الأمور.
واشتهر من ملوك الدولة البحرية غير أيبك. قطز وبيبرس وقلاوون وابنه الناصر محمد. واشتهر من ملوك الدولة الجركسية غير برقوق، ابنه فرج وقايتباي والغوري والأشرف طومان باي.
ولكل من هؤلاء أعمال مجيدة نافعة ما بين حروب خارجية وإصلاحات داخلية. ويعتبر بعض المؤرخين، هذا العصر امتداداً للعصر الأيوبي؛ لأن الدولة في أغلب نظمها نهجت نهج النظم الأيوبية. ولكن - دون شك ورغم هذا - كان للعصر خصائصه ومميزاته التي تفصله عما عداه.
وحقاً احتفظ سلاطين العصر بسلطنتهم مستقلة مرفوعة اللواء عزيزة الجانب تضم بين ممتلكاتها البلاد الشامية والحلبية والحجازية في أكثر أيامها. غير أنها امتازت ببعث الخلافة العباسية في القاهرة وتجديدها. بعد ما وئدت في بغداد على يد التتار عام 656هـ. فأصبحت القاهرة بذلك محوراً دينياً للمسلمين، وفي ذلك كسب أدبي عظيم كان له أثره في تثبيت ملك سلاطين مصر في هذه الحقبة، وإكسابهم الشرعية اللازمة، لأنهم كانوا عليها دخلاء. كما كان له أثره في تلك الحركة العلمية المباركة التي نشطت في القاهرة والمدن المصرية والمدن التابعة لمصر، طول العصر.
وكان لها إنتاجها القيم في ميدان العلوم والآداب الإسلامية والعربية. . .
وكما امتازت سلطنة المماليك بإحياء الخلافة العباسية وبالنشاط العلمي، امتازت بالنظام الرباعي في القضاء، إذ أصبح للبلاد أربعة قضاة، من كل مذهب من المذاهب السنية قاضي قضاة.
وهكذا ترى أن للعصر المملوكي كثيراً من الخصائص والمميزات ولابد لنا من القول إن هذه الدولة كافحت ثلاثة أعداء ألداء خارج حدودها، وهم التتار والفرنجة العثمانيون عدا الخارجين عليها من أتباعها أو محالفيها. ونجحت في درء خطرهم إلى حد كبير، وسجلت في سبيل الذود عن مصر وعن الإسلام صفحات خالدة.
غير أن الفتن الداخلية والأطماع غير المشروعة التي نبتت في رءوس أمرائها كانت علة مزمنة من عللها، ظلت مضاعفاتها تنهك قوتها وتخضد شوكتها، حتى أخذت تقربها من نهايتها.
وقد كانت هذه النهاية على يد السلطان سليم ملك العثمانية الذي احتل البلاد عام 923هـ بعد حرب عنيفة طاحنة أبلى فيها الأشرفان الغوري وطومان باي البلاء الحسن. وهذا الاحتلال هو الحاث الجلل الذي أشرنا إليه.
هذه عجالة موجزة تعرف بالعصر. ونحاول في العجالات القادمة أن نطرف القراء بما يجلي العصر، ويكشف عن كثير من مميزاته وخصائصه.
محمود رزق سليم