مجلة الرسالة/العدد 753/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 753/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 08 - 12 - 1947



الإسلام. . والسلام

نشرت مجلة (تايم) الأمريكية صورة خيالية للنبي محمد عليه السلام، وقد رسمته في شكل زنجي يمتطي جواداً وبيده سيف، وكتبت تحت الصورة (الإسلام لا يعرف السلام)، وتقول الوكالة التي نقلت هذا النبأ إن سفير الباكستان كان هو الدبلوماسي المسلم الوحيد الذي احتج بشدة لدى سفير أمريكا على هذه الوقاحة، وأن الدوائر الدبلوماسية في لندن قد بذلت جهوداً جبارة لمنع الهنود المسلمين أبناء الباكستان من القيام بمظاهرات عدائية ضد أمريكا.

هذا ما كان من أبناء الباكستان في لندن. أما عندنا فقد اكتفت الحكومة المصرية بمصادرة عدد المجلة ومنعه من دخول مصر، وأنا أذكر أن حكومتنا هذه قد ألقت في الأيام الأخيرة بصحفي مصري في غياهب السجون لأنه تطاول وتجاوز الحد إذ كتب كلمة خفيفة يقول فيها إن ملك اليونان وقع في حب فتاة.

ولا عجب، فنحن ناس ظرفاء جداً، ومجاملون جداً، وإننا لنحاول أن نراعي مشاعر واحساسات أولئك الذين يهوون في غير مبالاة على مشاعرنا واحساساتنا بالنعال. .

لقد كان من الواجب على حكومتنا أن تمنع تلك المجلة منعاً باتاً من دخول مصر وأن تتفاهم مع الجامعة العربية على منعها من دخول الأقطار العربية الإسلامية كلها، حتى نؤدب عبيد المال وأرقاء المنفعة ولو كلفهم ذلك التهجم على الكرامات والاستخفاف بالعواطف والاحساسات. .

وبعد. . .

فهذه ليست أول وقاحة من نوعها، ولن نكون كذلك آخر وقاحة من نوعها، ونحن نقول لتلك المجلة ولبني قومها: حقاً إن نبي (الإسلام لا يعرف السلام) مع الظلم والطغيان والزور والبهتان، والاستعمار والاستعباد، وما تعث محمد عليه الصلاة والسلام إلا ليحطم الأصنام، ويدحض عبادة الإنسان للإنسان، وينادي أهل الأرض جميعاً إلى كلمة سواء، هي التوجه إلى الله العلي الكبير، ونحن أتباعه وأجناده (لن نعرف السلام) حتى نحطم طغيانكم، ونبطل بهتانكم، وندفع استعماركم الذي تطوقون به رقاب العباد.

نحن لا نعرف السلام إلا في رعاية الإنسانية وخامتها، فمن مبلغ ذلك الكاتب الأحمق أن نبي الإسلام هو الذي نادى منذ أربعة عشر قرناً بأن (لا فضلَ لعربي على عجمي إلا بالتقوى. .) على حين أن قومه الأمريكان يحلون في هذا العصر - الذي يقولون عنه إنه عصر النور والحضارة - قتل الزنوج والهنود لأنهم يعتبرونهم أقل مرتبة في الإنسانية. . وبعد هذا يتحدثون عن الإنسانية وعن المدنية وعن السلام. .

هذا المجمع اللغوي:

مر على إنشاء المجمع اللغوي خمسة عشر عاماً، فقد أنشئ في عام 1932، ويذكر الذاكرون أن المرسوم الملكي الذي صدر بإنشاء المجمع قد حدد الأغراض التي طلب إليه تحقيقها وهي: (أ) أن يحافظ على سلامة اللغة العربية وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد في معاجم أو تفاسير خاصة أو بغير ذلك من الطرق ما ينبغي استعماله أو تجنبه من التراكيب. (ب) أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية , أن ينشر أبحاثاً دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وتغير مدلولاتها. (جـ) أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بخصر وغيرها من البلاد العربية.

والآن، وبعد أن مضت تلك السنوات الطويلة التي تغيرت فيها الدنيا، وتغير العالم والتاريخ، ماذا حقق المجمع من تلك الأغراض، وماذا أجدى على اللغة من تلك المهمات التي رسمها المرسوم؟!

قالوا من زمن طويل إنه يشتغل بإنجاز معجم وسيط، وأنه بعد العدة لوضع معجم مطول، وهو إلى الآن عندما قالوا: فلا المعجم الوسيط أخرج وأنجز، ولا في المعجم المطول فكر وبحث.

وقالوا إنه سيخرج معجما تاريخياً، ثم قالوا إنه سيكتفي في ذلك بإخراج معجم المستشرق الألماني (فيشر)، وإلى الآن لم يسمع أبناء العربية خبراً عن ذلك المعجم.

وقالوا إنه سينظم دراسات للهجات العربية، وقالوا إنه سيضع ويحقق من الألفاظ العربية ما يوسع في مادة اللغة ويجعلها وافية في التعبير عن حاجات العصر، وما أحس الناس أثراً لذلك، وكل ما كان أن وضع المجمع جملة من الألفاظ والمصطلحات ولكنه طواها في مضابطه التي لا ترى النور، أو نشرها في تلك المجلة التي يوزعها على الرجال الرسميين الذين لا يهمهم أمر اللغة في شيء. .

والسبب في ذلك أن حكومتنا نظرت إلى المجمع كأنه هيئة تشريفية، لا هيئة عاملة، فأخذت تلصق به من تريد تشريفهم وخدمتهم لا خدمة اللغة بهم، فما أشبه المجمع في حاله الراهنة بهيئة كبار العلماء، فليس لأيهما أي أثر في الحياة العلمية.

والعجيب أن الحكومة تعمد في كثير من الأحيان إلى اختيار أعضاء في المجمع من بين الرجال الذين لهم من مشاغلهم الخاصة وأعمالهم في الدولة ما لا يسمح لهم بالتفكير في اللغة ولا في معاجمها ولا في مجمعها!!

أيها الناس، لقد مرت خمسة عشر عاماً، فقولوا لنا ماذا كسبت اللغة من هذا المجمع، وماذا كانت تخسر لو لم يكن هذا المجمع. .

غيرة!!

كتب أحد الكتاب مقالاً في إحدى الصحف يقول فيه: (إن من المؤسف حقاً أن يلاحظ الإنسان أن الصلة قد انقطعت أو كادت بين القراء المصريين والأدب الفرنسي المعاصر، فبينما كان الجيل السابق من المثقفين المصريين يعرفون الكثير عن أناتول فرانس وأندريه جيد وفرانسوا مورياك وغيرهم من الأدباء الفرنسيين الذين بلغوا أوجهم بين سنة 1900 وسنة 1925 نجد القارئ المصري المعاصر لا يكاد يعرف إلا القليل جداً عن الظاهرين من الأدباء والمفكرين الفرنسيين اليوم. .)

هذا ما قاله ذلك الكاتب بلغته وبأسلوبه، وهذا هو ما دعاه إلى التأسف والتحسر، ونحن لا ندري: أهي غيرة على الشعب المصري، أم على الأدب الفرنسي؟!

يا سيدي المتأسف: إن شبابنا منصرفون عن أدبهم، عازفون عن تراث آبائهم وأجدادهم، ولا يعنيهم أن يأخذوا منه ما يقوم ألسنتهم ويشعرهم بذاتيتهم وقوميتهم، أفما كان الأولى أن تفزع لهذا بدل أن تفزع لذلك الأدب الفرنسي الغريب. . .

لقد عنينا من قبل بأدب فرنسا، وبحضارة فرنسا، وأخلصنا لها المودة والمحبة، وأشدنا بها يوم كانت، وبكينا عليها يوم ماتت، ومع ذلك فقد خذلتنا وهي لِما نزل ملفوفة في أكفان الموت، وأبت علينا حق الحرية والحياة والكرامة.

أنشدوا أدبكم قبل أن تنشدوا أدب الناس، واحرصوا على أن تكون لكم ذاتية في تفكيركم، واتجهوا إلى ما خلف لكم الآباء من ثروة فكرية فإنها ثروة ضخمة نافعة، واعلموا أن التظرف بالكلمات الأعجمية وقراءة القصص الأوربية أصبح مظهراً من مظاهر التفاهة التي لا تليق بالرجال. . .

ابن هشام والدكتور زكي مبارك:

عرض والدكتور زكي مبارك في مقال له بجريدة (البلاغ) للحديث عن العلامة النحو، أبن هشام الأنصاري فامتدحه وقال إنه يعرف من فلسفة النحو ما لا يعرف سيبويه، ثم انتقده في قوله: (ويجب في المؤكد كونه معرفة، وشذ قول عائشة رضي الله عنها: ما صام رسول الله شهراً كله إلا رمضان. .) فقال الدكتور: لأول مرة أستطيع الأخذ بتلابيب ابن هشام الأنصاري، فالذي سمعناه وقرأناه أن السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق، وأنها زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام، فأبوها عربي صريح، وزوجها سيد العرب، فكيف يكون في كلامها شذوذ في لغة العرب؟.

وهنا أحب أن ألفت نظر والدكتور زكي إلى مسألة تناولها العلماء من قبل بالبحث والمناقشة حول الاستشهاد بالحديث. فقد رأى جمهرتهم أن الأحاديث إنما رويت بالمعنى كما دخلها كثير من الأحاديث الموضوعة والمصنوعة في العصر العباسي، ولهذا منع الكثيرون الاحتجاج بالحديث في اللغة، وعلى هذا نجد النحويين يناقشون ألفاظ الأحاديث فيحكمون في بعض الأحيان بشذوذها، وأحياناً بخطئها، وأحياناً بضعفها، ولو صح عندهم الحديث بلفظه لما كان لهم أن يحكموا بتلك الأحكام، فابن هشام إنما يحكم على هذا الكلام المروي عن عائشة، ولو أن والدكتور زكي مبارك رجع إلى ما قرره العلماء في هذا في كتب النحو المبسوطة، وكتب الشواهد خاصة مثل خزانة الأدب للبغدادي لأفاد كثيراً ولما نعجل الأخذ بتلابيب ابن هشام. .

هذه مسألة، وهناك مسألة أخرى يمكن أن يفطن إليها الباحث في النحو، وهي أن أكثر الأحاديث التي يرى النحويون في ألفاظها مخالفة نحوية إنما رويت عن عائشة رضي الله عنها. . وليس تحت يدي الآن شيء من المصادر لأسرد كل ما ورد في ذلك، وهي على أي حال مسألة جديرة بالنظر وبالبحث. .

(الجاحظ)