مجلة الرسالة/العدد 752/مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 752/مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)

مجلة الرسالة - العدد 752
مع ميخائيل نعيمه في (همس الجفون)
ملاحظات: بتاريخ: 01 - 12 - 1947



للأستاذ مناور عويس

(أيها اللابسون عرى اليتامى كيف تدفئون؟

أيها الكارعون ري العطاش كيف تنقعون؟

أيها الآكلون خبز الجياع كيف تشبعون؟

أيها الراضعون ثدي الثكالى كيف تسمنون؟

أيها السائقون ظعن المنايا كيف تهزجون؟

أيها المستحمون بالدم الحي كيف تطهرون؟

أيها المدلجون، إذ يقبل الفجر، أين تدبرون؟

أيها البائعون سم الأفاعي هل سوى السلم تربحون؟!)

رأيتني إذا عددت الشعراء الذين أفزع إليهم كلما حزبني أمر وضقت بالحياة والأحياء أعد نعيمه في طليعة أولئك الشعراء فما أكثر ما أردد قوله:

إذا سماؤك يوماً ... تحجبت بالغيوم

اغمض جفونك تبصر ... خلف الغيوم نجوم

والأرض حولك إمّا ... توشحت بالثلوج

أغمض جفونك تبصر ... تحت الثلوج مروج!

وإن بليت بداء ... وقيل داء عياء

أغمض جفونك تبصر في الداء كل دواء!

وعندما الموت يدنو ... واللحد يغفر فاه

أغمض جفونك تبصر ... في اللحد مهد الحياة!

فما رددت هذه الأبيات إلا شعرت بأن المرارة التي كنت أغص بها قد خف وقعها وانقشعت عن سماء نفسي تلك السحب الدكناء وصغرت في عيني همومي وآلامي؛ فنعيمه من هذه الناحية طبيب أرواح وقلوب قبل أن يكون شاعراً!

فهو يدخل القلوب بعقاقيره الروحية دون استئذان، وببساطة فائقة يمتلك تلك القلوب التي أثقلتها هموم العيش وآدها ثقل السنين ويصبح فيها السيد المطاع، فلا يلبث أن يغسلها بزيت المقدس وينقيها مما علق بها من أوضار ورسب في قاعها من أقذار حتى تراها تعيش في عالم الروحاني الذي يشيع فيه الحب والخير والجمال، فنعيمه يقوم بمهمات ثلاث: مهمة الكاهن، ومهمة الفيلسوف، ومهمة الشاعر!. .

ليقل الناس ما شاءوا فلست أؤمن إلا بوجداني ولست أفهم الحياة والفن إلا به وعلى ضوئه، وقد هداني وجداني إلى حقيقة لا أتزحزح عنها قيد شعرة وهي أن نعيمه فيه نبوة، ولكنها من نوع جديد، وآثار الأدبية هي (امتداد) لأنبياء العهد القديم، أما الذين لا يرون إلا ما سطر على القرطاس فلم يكتب لهم هذا الكلام. وما دامت الفنون تقاس بمقدار ما تتصل بالنفوس، والأدب أحد تلك الفنون - ولعله أسماها جميعاً - فنعيمه من أشد الشعراء اتصالاً بالنفوس وأعلقهم بالأرواح. . . إنه من أولئك الشعراء والكتاب الذين يرتفعون بالإنسان إلى آفاق الروح الكلي ويمتزجون به امتزاج الليل بالنهار والروح بالجسد، فما قرأته مرة إلا أحسست بأنني أقرب ما أكون إلى الله وأبعد ما أكون عن (التراب)!

وهذا لعمري هو الفرق بين أدب السماء وأدب الغرائز والأحقاد. إن من ينعم النظر في شعر نعيمه ونثره يجد انه يهدف إلى غاية هي غاية الغايات، أي نشر المحبة والخير والسلام بين الناس، تلك المحبة التي طالما سعى إليها الأنبياء والشعراء والفلاسفة منذ أقدم العصور إلى يومنا هذا، وسوف يظلون يسعون إليها ما دام الإنسان إنساناً، وما دامت الأرض أرضاً، وفي سعيهم المتواصل هذا سعادتهم وسعادة البشرية، فالسعي إلى الكمال تطور وتجديد، أما الكمال فوقوف وجمود كما يقول عبقري ألمانيا الأعظم (جيتي).

ليست شاعرية نعيمه من تلك الشاعريات التي تعتمد على بلاغة الألفاظ ورنين القوافي وإنما هي شاعرية مجنحة تحلق بين الأرض والسماء، قوامها الروح ولحمتها وسداها الأفكار السامية والتأملات العميقة. في شعر نعيمه صوفية حالمة وحيرة وتساؤل وشك وإيمان، فيه ثورة وتمرد واستسلام، فيه امتزاج بالكون، فيه صلوات وابتهالات تحمل في تضاعيفها النور والطمأنينة، في شعر نعيمه هيمنة النسيم وأنداء الربيع!. . .

عندما نشبت الحرب العالمية الأولى حمل نعيمه البندقية في جيش الولايات المتحدة فرأى بعينيه أشلاء إخوانه كيف تمزقها القنابل، كما سمع بأذنيه أنين الجرحى وصراخهم الذي يصم الآذان من ظلم الإنسان ووحشيته فانطبع في نفسه كره شديد للقوة الغاشمة والأقوياء الظالمين، وانتهت الحرب بانتصار الحلفاء على أعدائهم، ولكن المجاعة في سوريا ولبنان كانت تفتك بالألوف من أبناء وطنه فزفر نعيمه هذه الزفرة الحارة وأرسلها صرخة مدوية خالدة:

أخي، إن ضج بعد الحرب غربي بأعماله

وقدس ذكر من ماتوا وعظم بطش أبطاله

فلا تهزج لمن سادوا، ولا تشمت بمن دانا

بل اركع صامتاً مثلي

بقلب خاشع دام

لنبكي حظ موتانا!

أخي، من نحن؟ لا وطن ولا أهل ولا جار

إذا نمنا، إذا قمنا، ردانا الخزي العارُ

لقد خمت بنا الدنيا، كما خمت بموتانا!. . .

فهات الرفش واتبعني

لنحفر خندقاً آخر

نواري فيه أحياناً!! الخ.

هذا هو نعيمه الثائر الذي يريد أن يؤجج النار في الجليد! هذا هو نعيمه الإنسان الناقم الساخط على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان.

ولنصغ الآن إلى نعيمه الفيلسوف يفتش عن نفسه في الموج الذي يثور والبحر الذي يبكي عند أقدام الصخور، وفي الرعد الذي يدوي بين طيات الغمام والبرق الذي يفري سيفه جيش الظلام، وفي الريح الذي تذري الثلج عن رؤوس الجبال وفي الفجر الذي يمشي خلسة بين النجوم!

إن رأيتِ البحر يطغي الموج فيه ويثور،

أو سمعت البحر يبكي عند أقدام الصخور

ترقبي الموج إلى أن يحبس الموج هديره

وتناجى البحر حتى يسمع البحر زفيره راجعاً منك إليه

هل من الأمواج جئت؟!

إن رأيت الفجر يمشي خلسة بين النجوم

ويوشي جبة الليل المولى بالرسوم

يسمع الفجر ابتهالاً، صاعداً منك إليه

وتخرى كنبي هبط الوحي عليه

هل من الفجر انبعثت؟!

حقاً أن نعيمه في قصيدته (من أنت يا نفسي) التي شوهت جمالها وفرقت وحدتها باختياري هذين المقطعين منها لمن أبدع الشعراء تصويراً وأبرعهم تلويناً للفكرة الواحدة. فمن منا لم يحس بنفسه تحاول التفلت والانطلاق، وتحن إلى الامتزاج بمظاهر الكون؟ إلا أنني لا أعرف شاعراً كنعيمه استطاع أن يصور لنا تلك الارتعاشات التي تهيمن على النفس الإنسانية أمام هدير الأمواج وقصف الرعود ولمع البروق وانين الراح وانبثاق الصبح وغناء البلبل.

لقد بلغ نعيمه في هذه القصيدة درجة الإعجاز الفني لأنه شاعر فيض وإلهام لا شاعر قريحة ونحت ألفاظ. أنظر كيف يلخص قصيدته بهذا المقطع الرائع:

إيه نفسي! أنت لحن فيَ قد رن صداه

وقعتك يدُ فنان خفَي لا أراه

أنت ريحٌ ونسيمٌ، أنتِ موج أنت بحرُ

أنت برق، أنت رعدٌ، أنت ليلٌ، أنتِ فجرُ

أنتِ فيضٌمن إله!

وهنا لا بد لي من تسجيل هذه الخاطرة في شعر نعيمه، وهي أن شعر نعيمه من ذلك النوع الذي لا يرهق العقل ولا يكده - على ما فيه من عميق الفكر وسامي الخيال - بل يفيض على القلب طمأنينة ويشيع في النفس راحة ويقوي من أجنحة الخيال ويبسط على الروح جواً سحرياً فيه متعة وفيه إخلاد إلى التأملات والاشراقات الروحية التي تقرب الإنسان من خالقه وتبعده عن دنيا الأطماع والسفاسف والشهوات، ولعمري تلك مزية شعر الأمم والأجيال!.

قال نعيمه: (إذا سئلتم عن أبدع آيات الفن وأغلاها قولوا: ضمير لا يسخر وجبين لا يعفر ولسان حليم شكور، وقلب عفيف غفور، وعين لا تبصر القذى ويد لا تنزل الأذى وفكر يرى في البلية عطية وخيال يربط الأزلية بالأبدية) ولو طبق هذا الدستور الذي استنه نعيمه للفن الرائع لكان أدبه في طليعة الآداب التي ينطبق عليها هذا الدستور.

ولننتقل الآن إلى نعيمه المتصرف مبتهلاً إلى ربه، ففي ابتهالاته دليل ناصع على إنسانيته الشاملة وإيمانه الراسخ بوحدانية الحياة والوجود:

كحل اللهم عيني بشعاع من ضياك - كي تراك

في جميع الخلّق، في دور القبور،

في نور الجو في موج البحار

في قروح البرص في وجه السليم

في يد القاتل في نجع القتيل

في سرير العرس في نعش العظيم

في يد المحسن في كف البخيل

في قذى العاهر في طهر البتول. . . .

وإذا ما ساورتها سكتتة النوم العميق

فاغمض اللهم جفنيها إلى أن تستفيق. . .

وافتح اللهم أذني كي تعي دوماً نداك - من علاك

في ثناء الشاة، في زأر الأسود،

في نعيق البوم في نوح الحمام. . . .

في خرير الماء في قصف الرعود. . . .

في هدير البحر في مر الغمام. .

في صراخ الليل في همس الصباح

في بكا الأطفال في ضحك الكهول.

في ابتهالات العراة الجائعين. . . .

في انتخاب الناي في دق الطبول. .

في صلاة الملك والعبد السجين. .

وإذا ما قرب الموت ووافاها الصمم. .

فأختمن ربي عليها ريثما تحيا الرمم.

وأجعل اللهم قلبي واحة - يستقي منها القريب - والغريب!

ماؤها الإيمان أما غرسها. . .

فالرجا والحب والصبر الطويل!. . .

إلى آخر تلك الابتهالات التي نستشف من بين ثناياها فلسفة نعيمه الإنسانية، المؤمنة الموحدة، ونطل من خلال مقاطعها على ذلك العالم الروحاني الذي يعبق من أرج (بوذا) ونفحات (لاوتسو). . .

وهلم بنا الآن إلى (أوراق الخريف). . .

قل أن تجتمع الفلسفة والشعر صعيد واحد، ذلك لأن نبعة الشعر الوجدان، ونبعة الفلسفة العقل، وإذا استطاع الشاعر أن يزاوج بين الشعر والفلسفة كما فعل أبو العلاء المعري (وجيتي) وغيرهما مما عمقت ثقافتهم وتسامت أرواحهم واتسعت آفاق وحيهم ودقت ملاحظتهم بواطن الحياة وظواهرها، أقول إذا استطاع الشاعر أن يجمع بين الشعر والفلسفة فهو الشاعر الخالد الذي لا يجوز لأمة أن تدعيه لنفسها دون أمة أخرى لأنه شاعر كل مكان وزمان. ونعيمه - في اعتقادي - أحد أولئك الشعراء وأن كره عشاق (موزاييك) الألفاظ وعباد الطنين والرنين والقوافي والجوفاء!

ففي المقطعين الأولين من (أوراق الخريف) نرى نعيمه شاعراً يؤلمه ويشجيه لأن يشاهد تلك الوراق المصفرة التي لوت أعناقها رياح الخريف وذرتها في الفضاء. .

إنني لأكاد المح دمعة التفجع في عينيه وهو ينظر إلى تلك الوريقات تتساقط الواحدة تلو الأخرى ناظرات إلى رفيقاتهن اللواتي ما برحن خضراً على غصنهن بأعينهن الدامعة وقلوبهن الواجفة لهول الفراق الذي لا لقاء بعده ولرهبة المصير الذي لا رجعة منه!

هذا المقطعان هما من رائع الشعر لأنهما غاية في البساطة والصديق والإحساس فضلاً عن الموسيقى المترقرقة بين السطور وفضلاً عن المعاني الإنسانية والأحاسيس المختلفة التي توحيها الأبيات للقارئ أو السامع. . .

(يتبع)

مناور عويس