مجلة الرسالة/العدد 752/رحلة إلى الهند
مجلة الرسالة/العدد 752/رحلة إلى الهند
14 - رحلة إلى الهند
للدكتور عبد الوهاب عزام بك
عميد كلية الآداب
مدينة أكرا
سار بنا القطار والساعة ثمان وخمس وأربعون دقيقة من صباح السبت ثالث عشر جمادى سنة 1366هـ، وخامس نيسان سنة 1947م من دهلي إلى أكرا.
والمسافة بينهما زهاء أربع ساعات. واستقبلنا على محطة أكرا جماعة من بيت كنش لال أحد أعيان المدينة وأحد تجار الهند المعروفين في القاهرة. وأردنا أن ننزل بفندق كبير هناك أسمه إمبريال. وبينما نجلس في ساحة الفندق ننتظر جواب سؤالنا عن غرف في الفندق، جاء رجل هرم يحمل عصافير مرتبطة بخيوط، فجلي إلينا وشرع يعرض أعاجيبه. رمى بحلقة في الهواء وأشار إلى عصفور فأدركها فالتقطها قبل أن تقع على الأرض وردها إليه. وأشار إلى عصفور آخر فطار إلى شجرة قريبة فقطف منها ورقة وجاء إلى صاحبه. ووضع بطاقات من بطاقات اللعب مقلوبة وذكر عدداً فأخذ عصفور يقلب الأوراق حتى قلب البطاقة ذات العدد المذكور وأخذها بمنقاره وسلمها إلى معلمه. ثم جاء بأعواد عليها بكرة صغيرة فيها خيط ينتهي إلى دلو صغير وأشار إلى عصفور فشرع يمسك الخيط بمنقاره ويجره حتى يضعه تحت رجله ثم يأخذه كرة أخرى فيطويه تحت رجله حتى طوى الخيط وطلع الدلو فمد منقاره إليه وجذب إليه كأنه يستقي ماء من بئر برشأ ودلو. فقلنا: إحدى عجائب الهند.
ولم نجد غرفاً بالفندق فسرنا إلى دار كنش لال فلبثنا إلى اليوم الثاني في حفاوة وإكرام فاستحق المضيفون ثناءنا وشكرنا.
وأكرا مدينة يسمى باسمها إقليم. وهذا إقليم وإقليم أورده يؤلفان ولاية كبيرة تسمى وهذا رمز لأسمها بإنكليزية: في الهند: ممالك متحدة.
والمدينة مثل دهلي، ذات مكانة تجارية وحربية عظيمة. ويمر بالمدينتين كلتيهما نهر جمنه أحد أنهار الهند الكبيرة.
وقد عرف ملوك الهند حصانة هذه البقعة بمكانها من هذا النهر فاتخذوا مدينة أكرا حاضرة للملك أو إحدى حواضره.
وقد أتخذها السلطان أسكندر اللودي داراً للملك بدل دهلي وهو من الأسرة اللودية التي تسلطت في الهند من سنة 855 إلى 932هـ. وإنما آثرها على دهلي حينما عرف غناءها في ضبط الثائرين عليه في الجنوب. فعظمت مكانتها من ذلك الحين.
ولما جاء إلى الهند الرجل العبقري بابر، وقد أسلفنا ذكره، فتح أكرا سنة 932. وأخذ فيما أخذ من مغانمها الماسة المعروفة باسم كوهِ نور أي جبل النور. وفي أكرا آذن بابر بأن فتحه الهند ليس غارة موقوتة ولكن ملكاً مؤثلاً، ولما ملك جلال الدين أكبر حفيد بابر بني قلعة أكرا، القلعة الحمراء التي تمتد أسوارها على نهر جمنه ميلاً ونصفاً.
وازدادت المدينة وأرباضها منذ بنى أكبر قلعته، بعجائب من أبنية السلاطين التيموريين بل بمفاخر من الحضارة الإسلامية وصناعاتها. ففي أكرا القلعة والتاج والمسجد، وفي سكندرة مزار أكبر وآثار أخرى. وعلى مقربة من المدينة فتح بور سكري وهي مزدحمة بآثار عظيمة رائعة.
مزار أكبر
خرجنا والساعة خمس مساء إلى سكندرة لنزور ضريح جلال الدين أكبر.
ولا يعرف روعة التوجه إلى زيارة ضريح أكبر إلا من عرف تأريخ هذا الرجل الذي لا يعرف تأريخ الإسلام بل تأريخ العالم من الملوك أمثاله إلا قليلاً.
ذكرت آنفاً ظهير الدين بابر مقيم الدولة التيمورية أعظم الدول الإسلامية في الهند. وكذلك ذكرت ابنه همايون.
وجلال الدين أكبر الذي أتوجه لزيارته الآن هو أبن همايون وحفيد بابر. وضع هذان له القواعد ليشيد ملكاً عظيماً، ويوطد دولة ينبسط سلطانها على الهند إلا قليلاً، ويترك على الزمان سيرة في الفتح والعدل والحضارة والعمارة لا تزال مثار إعجاب وتعجب. ولا تزال مفخرة من مفاخر التأريخ الإسلامي.
توفي همايون بعد أن استرد ملكه في الهند، وابنه جلال الدين في الرابعة عشر من عمره. فدبر له الملك بايرام خان فدفع عنه الطامعين، واخضع الثائرين، ولم تأخذ في إقرار السكينة، والنظام هوادة ولا شفقة. فلما سكنت الفتن واستوسق الأمر تولى جلال الدين تدبير الملك ولما يعد الثامنة عشرة. وقد حاول هذا الوصي أن يقتطع له إمارة في أرجاء المملكة وثار على أكبر إلى أن اضطر إلى التسليم له. فاحسن الملك الشاب إلى وصيه وخيره بين أن يتولى منصباً عالياً في الجيش أو يسير إلى الحج مرفهاً في موكب عظيم. فاختار الحج.
وكان عفو أكبر عن بايرام خان وإحسانه إليه إيذاناً بسيرة صالحة رفيقة؟؟، سارها أكبر طول عمره.
ثبت جلال الدين أكبر سلطانه في أرجاء المملكة كلها. ومد فتوحه لم يبق من الهند خارجاً عن سلطانه إلا قليل. ودان معظم الهند له واستقامت الأمور لحكمته وحكمة زمان سلطانه المديد وقد ملك أكثر من خمسين عاماً.
وكان مولعاً بالفتوح البعيدة، واجتياز الفيافي الموحشة، وركوب الخيل الجموحة، واخترع نظماً للجيش وأسلحة. وكان مثالاً عالياً في القيادة الجيوش، وركوب الأهوال. ولكن هذه الشجاعة والجرأة والفتح والسفر لم تكن إلا أقل مزاياه. فقد كان في السلم والعمران أعظم منه في الحرب.
سن من القوانين، وخط من الخطط في مسح الأرض وريها وجباية الخراج ما يشهد بسعة فكره، وبعد إدراكه، وقد بقيت بعض سننه متبعة في الهند إلى هذا العصر.
وجمع هذا الرجل الأمي حوله من أدباء العالم وشعرائه وكتابه وعلمائه وفلاسفته جمعاً كبيراً حتى كان في كنفه من شعراء الفارسية زهاء خمسين شاعراً.
وقد جاءه الصناع من أرجاء العالم من آسيا وأوربا.
وأنشأ المدارس في أنحاء المملكة ليعلم فيها المسلمين وغيرهم على السواء. وبنى خزائن الكتب وجمع فيها نفائس الكتب من الأقطار وافتن في صناعة التجليد والتذهيب حتى أنفقت على بعض الكتب آلاف الدنانير، وقد أبطل العادات الوحشية في الهند مثل إحراق الزوجات بعد موت أزواجهن.
وحاول أن يشيع المحبة والمودة والأخوة بين الناس بجمعهم على دين واحد. فألف من الإسلام والمجوسية والنصرانية وأديان أخرى ديناً سماه (التوحيد الإلهي) وبنى معبداً لهذا الدين ودعا الناس إليه فأتبعه قليل بالرغبة والرهبة. فلما مات لم يبق على دينه أحد.
سرنا إلى سكندرة حيث ضريح هذا الملك العجيب، وفي النفس ثورة من ذكرياته بين سفره وحضره، وحربه وسلمه، وصوابه وخطئه، إلى قياس يتردد بين الماضي والحاضر، للنفس في حيرة وحسرة.
على نحو خمسة أميال من أكرا استقبلنا هذا البناء الهائل الرائع الذي تعاون على إنشائه الملك والثراء والصناعة بضعة عشر عاماً بين عهد أكبر وعهد أبنه جهانكير. هذا المدخل الفضي إلى الحديقة الغناء الفسيحة التي تحيط بالمزار. ولو أن هذا المدخل وحده شيد فوق ضريح ملك عظيم لكافأ عظمته وحسب بناء فخماً من أبنية الملوك العظيمة. بناء يعلو أربعاً وسبعين قدماً تقوم في أركانه الأربعة أربع منارات رفيعة تعلو كل واحدة فوق هذا البناء ستاً وثمانين قدماً. ويلقى هذا المدخل القادم إليه بعقد عال فخم فيه باب فوقه عقد يشابهه. وعلى جانبي العقد الكبير وجهتان في كل منهما عقدان (كما يرى في الصورة):
ويفضي هذا المدخل إلى حديقة واسعة تزدحم فيها الخضرة والنضرة ويتوسطها طريق واسع مبلط فيه أحواض ومجاري مياه ونافورات في هندسة جميلة.
ثم البناء الشامخ الرائع، خمس طبقات ذات عقود وأبراج، كل واحدة أكبر مما فوقها وأصغر مما تحتها كأن كل طبقة قاعدة للتي قبلها.
صعدنا الطبقة الأولى التي تلي الأرض فهبطنا في دهليز منحدر إلى قاعة في وسطها صفيحة واحدة من المرمر تحتها رفات جلال الدين أكبر شاه. وقفنا نقرأ آيات على القبر ونقرأ سطوراً غير مكتوبة من وحي التأريخ وإملاء الزمان.
ثم صعدنا إلى الطبقات الأخرى حتى الطبقة العليا وهي سطح محاط بدربزين من الرخام الأبيض أبدعت فيه الصناعة تشكيلاً وتخريماً. وفي وسطها دكة واسعة مربعة عليها مثال القبر الذي في بطن الأرض. وقد فجئني هذا المنظر العجيب فما يحسب الزائر وهو يصعد في هذه الطبقات أن يلقاه في قمتها هذا التمثال بعد أزار القبر في موضعه من جوف الأرض.
ويطلع الزائر من هذه القمة على مشاهد رائعة من الجمال والجلال على عبر متقاربة وعظات متوالية. فهو ينظر إلى هذا الهيكل العظيم تحار فيه العين بين عقوده وعمده وقبابه، تتوالى طبقاته في نظام محكم، وهندسة عجيبة. فإذا رمى ببصره في الفضاء مفكراً أخذته مشاهد من الأبنية الأثرية بين الشجر، كل منها تأريخ مبهم، وكل منها كتاب مطبق، وكل منها مجد غابر وعبرة حاضرة. ويسحر العين على القبر وعلى عقود الداخل آيات قرآنية أجيد خطها أو نحتها على الرخام.
يقال أن اكبر نفسه هذا البناء وأتمه ابنه وخليفته جهانكير بعد أن عمل فيه البناءون والصناع عشرين عاماً ويقال أن جهانكير بناه وحده في سبع سنوات.
ومهما يكن الأمر فقد أكمل هذا الأثر الخالد سنة 1021هـ وقد مرت عليه حوادث وزلازل؛ ولكنه لا يزال شاهداً بعظمة اكبر وجهانكير، ناطقاً بما بلغت الحضارة والأبهة في ظلال هذه الدولة العظيمة، أكبر الدول الإسلامية في الهند. ومن أعظم الدول التي عرفها التأريخ.
(للكلام صلة)
عبد الوهاب عزام