مجلة الرسالة/العدد 752/الأدب والفن في أسبوع

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 752/الأدب والفن في أسبوع

ملاحظات: بتاريخ: 01 - 12 - 1947



الصورة الجديدة للأدب:

هذا عنوان المحاضرة التي ألقاها الدكتور طه حسين بك مساء الجمعة برابطة خريجي جامعات فرنسا وسويسرا وبلجيكا. وقد بدأ الدكتور بأن للأديب صوراً متعددة لا صورة واحدة، وأن المقصود بهذه المحاضرة على وجه الدقة هو التصور الجديد للأدب، وهو يختلف اشد الاختلاف بحسب العصور والبيئات. فقد كنا نقول منذ زمن قريب: الأدب مرآة الحياة، والأديب صورة عصره. فنزهي بذلك ونعده غاية ما يصل إليه الأديب، ولكننا الآن لا نطمئن إليه ولا ترضى به، لا نرضي بأن يكون الأدب صورة فحسب بل نطالبه إلى ذلك بشيء آخر، ثم قال إن الصلة بين الأديب وقرائه مبنية على حرية التعبير عما يريد ليؤثر بهذه الحرية في قارئه. وإننا لنسأل الأديب: لم تكتب؟ فيجيب في تواضع: أكتب لنفسي، أو يقول في كبرياء وزهو: أكتب للأجيال القادمة. وربما قال: أكتب للمثقفين، وهو على كل حال إنما يكتب ليقرأ وليجد صداه. واستعرض الدكتور العلاقة بين الأديب ومستهلكي أدبه، من العصور القديمة إلى هذا العصر فبين تطوراتها المتشابهة في الأدب الفرنسي والأدب العربي من حيث أن الأديب كان في كل منهما يخاطب طبقة خاصة محدودة أخذت تتسع وتكثر على ممر الأزمان، وإن كانت قد وقفت في البيئة العربية عندما أغار عليها المغيرون من خارجها، وظلت في جمودها إلى العصر الحديث، وبين أن الأدب انتقل عند بزوغ شمس الإسلام ونزول القرآن، وفي الثورة الفرنسية، من مجرد تصويره للحياة إلى الجمع بين هذا التصوير وتوجيه الناس إلى مثل عليا.

وانتهى الدكتور من كل ذلك إلى أن الأديب في هذا العصر وقد كثر قراؤه بانتشار التعليم، لا ينبغي له أن يقتصر على الحرية في التعبير والتصوير، بل عليه أن يشعر إلى جانبها بالتبعات والواجبات، فهو يكتب لجميع الناس وفيهم من يفهم ما يريد، ومن يفهم بعض ما يريد، ومن يفهم غير ما يريد، فيجب عليه أن يسهل أدبه وييسره ليكون واضحاً مفهوماً للجميع، والمجتمع الحديث لا يقنع منه أن يرى نفسه في مرآته بل يتطلب منه أن ينزل من برجه العاجي ليعيش مع الناس في بؤسهم ونعيمهم فيصوره البؤس لتغييره والخلاص منه، والنعيم للوصول إلى أصفى منه.

فالصورة أو التصور الجديد للأدب أن يحيا الأديب في البيئة ويشارك الناس أحزانهم ومسراتهم، لا ليصور ذلك فحسب، بل ليضيف إلى التصوير التغيير والإصلاح للوصول بالجماهير إلى مستوى فيه السعادة والنعمة والخير.

ثم قال الدكتور: هذا هو سبيل الأديب إلى أن يكون نافعاً وله قراء. أما الأديب الذي ينظر في النجوم ويشاهد أشعة القمر في انعكاسها على مختلف الأشياء ولا يغادر برجه العاجي فلن يقرأه إلا المثقفون القليلون، وقد يسرون منه ويعجبون به، ولكنه ليس الأديب الذي يشعر إلى الحرية بالتبعات والواجبات، وليس الأديب الذي يقبل عليه القراء فيجدون أنفسهم وأمانيهم ومطامحهم فيما يكتبه.

عود إلى قريب:

عندما قال الدكتور طه إننا لا نكتفي من الأديب أن يكون مرآة عصره - داخلني شيء من الزهو الذي قال إنه يداخل الأدباء، وقلت في نفسي: أيكون هذا الرجل الخطير قد قرأ ما كتبته فأثار في خاطره هذا الذي قال؟

والذي كتبته كان تعليقاً على ما أفضي به إلى مجلة (الكتاب) من الرأي في شوقي وحافظ، إذ قال بأنهما لم يبلغا من الشعر ما كان يحب لهما وللشعر العربي الحديث، ومما علل به رأيه قوله: (فلم يكن هذان الشاعران إلا مرآتين صادقتين للعصر الذي عاشا فيه).

وكتبت تعليقاً على هذا: (ويحضرني - لذلك - رأي للدكتور طه حسين في كتابه (حديث الأربعاء) مؤداه أننا لا نعد الشاعر شاعراً إلا لأنه يعبر عن بيئته ويصور عصره فيحسن التعبير والتصوير. ورأي الدكتور طه في شوقي وافظ أنهما لم يبلغا من الشعر ما يحب فأي الرأيين ما زال يرى؟).

وسواء أكان ما قاله في المحاضرة صدى ما أنفذته في الرسالة منذ أكثر من شهر أم لم يكن، فإنني أعتبره جواباً شافياً لذلك التساؤل ولا أسوق هذا إشباعاً لما قلت إنه داخلني من الزهو، وإنما أذكره لإزالة الغبار الذي علق برأي الدكتور طه في شوقي وحافظ من جراء ذلك التعليق.

فننا وشعورنا وبلادنا: كتب بعض الكاتبين بجريدة الأهرام في تجميل القاهرة، فأثاروا في هذا الموضوع مسألة وضع التماثيل في الميادين والحدائق لتجميلها، وقالوا كما قلنا في عدد مضى من الرسالة بأن تمثال نهضة مصر لا قيمة له ولا داعي لاستمراره في ميدان المحطة. وقد اقترح أحدهم وضع التماثيل الفرعونية الفائضة في الميادين لجذب السائحين إليها. . فرد عليه الأستاذ عبد القادر مختار المثال المعروف بأنه يجب أن تكون لنا نهضة فنية تساير ظروفنا الحالية، فلا نكتفي بالتغني بالقديم واللجوء إليه كلما فكرنا في القيام بشيء، وقال: (ولهذا يجب أن نشجع الفنانين المصريين على الإنتاج ومسايرة ظروف البلاد وتطورها، فنضع تماثيلهم التي ترمز للنواحي الوطنية وتعالج شؤوننا القومية في الميادين والحدائق العامة حتى يتذوق الجمهور ما فيها من الفن وتكون وسيلة لهديه وتثقيفه وترقية إحساسه).

وإني أضيف إلى عدم الاكتفاء بالتغني بالقديم واللجوء إليه كما قال الأستاذ المثال - أن هذا القديم لا يثير فينا الشعور المنشود لنهضتنا ومرامينا القومية، وقد راقني من الأستاذ بيان الغرض من تجميل الميادين بالتماثيل العصرية بأنه تذوق الجمهور للفن وهديه. . . الخ، فلم ينزلق إلى ما انزلق إليه الآخرون من الحرص على جذب الأجانب وخشية وقوع أنظارهم على مقابحنا، فإني أفهم أن تجمل البلاد لأهلها متعرض عليهم بدائع الفنون لتربية الذوق الفني عندهم ولتحفزهم إلى المثل العليا، وهذه الأغراض نفسها ترفعنا في عين الأجانب وترغمهم على احترامنا. فلنتجه نحو أنفسنا ونشعر بشعورنا ونجمل بلادنا لنا، وحسبنا ما بذلناه عبثاً في مراعاة أمزجة (الخواجات) والتزويق لهم. . .

مهرجان الشباب الأدبي:

رأت المراقبة العامة للثقافة في وزارة المعرف أن تمكن شباب الجيل من إظهار مواهبه الأدبية والفنية، فألفت لجنة من الأساتذة عبد الرحمن كامل وعبد الله حبيب ومفيد الشوباشي والدكتور إبراهيم جمعة، لتنظيم مهرجان أدبي فني يتبارى فيه الشباب الذين لم يتجاوزوا الخامسة والثلاثين، في الشعر والزجل، وفي الموسيقى والتصوير والنحت. وسيكون المهرجان الأول لسنة 1948 في أوائل السنة، ولم يعين موعده بعد، على أن يكون بعد ذلك كل عام.

وقد قصدت وزارة المعارف بهذه المباريات أن تحفز همة الشباب نحو الإجادة والتفوق، وأن تتيح الفرصة لإظهار مواهبهم الأدبية والفنية.

ولا شك أن الشباب سيجدون في هذا المهرجان منفذاً لإبرار كفاياتهم الدبية التي يتهمون شيوخ الأدب بأنهم يحولون دون ظهورها.

الشذوذ والتطرف:

كم هو ظريف هذا الذي يكتب إلي بتوقيع (البسام) فلا يكتفي بمعاكستي في الاتجاه الفكري، بل يعاكسني أيضاً في الاسم، وإن هذا الصنيع ليخرجني عما يدل عليه أسمي (العباس) من العبوس، فأبسم. . كأنني أنا - لا هو - (البسام).

قال البسام في رسالته: (قرأت كلمتك (الأديب بين العزوبة والزواج) ولا أريد أن ادخل في هذا الموضوع، وإنما استرعي انتباهي قولك في الرد على الأستاذ سلامة موسى فيما قال به من الزواج يمنع الأديب أن يشذ أو يتطرف: (وهذا كله مع وقوفنا معه ونظرنا إلى الموضوع من الزاوية التي نظر إليه منها وهي التطرف في مهاجمة المجتمع ونظمه.

ولم يقل أحد بأن الأديب لا يكون فذاً مبتدعاً إلا إذا شذ عن المجتمع وأصطدم به) فإني أراك بهذا غافلاً أو متغافلاً عن حقيقة بديهية، وهي أن في المجتمع عادات سخيفة ومعتقدات باطلة وأن الأديب الحر هو الذي يهاجم هذه العادات والمعتقدات فلا بد من الاصطدام).

هون عليك يا صديقي البسام. إني موافقك على أن في المجتمع عادات سخيفة ومعتقدات باطلة، وعلى أن الأديب الحر هو الذي يهاجم هذه العادات والمعتقدات، أما الذي نختلف فيه فهو أنه لا بد من الاصطدام، إن الأديب الفذ المبتدع هو الذي يمثل للمجتمع سخيف عاداته وباطل معتقداته تمثيلاً يجعله يلمس هذا السخف والبطلان، عدته في ذلك فنه واقتداره على التمثيل والتصوير، فيشعر المجتمع بنقصه ويتجه نحو الكمال، ولا صدام.

أما من يصادم المجتمع فهو الذي تعوزه الكفاية الفنية فليجئ إلى مواجهته بالكلام المجرد، وقد يتخذ له قرنين يلوح بهما، وكثيراً ما يتعمد المصادم ذو القرنين مخالفة الناس ليقول لهم: هاأنذا. . .

الأناشيد: منذ كانت قضية مصر تعرض على مجلس الأمن وكانت إذاعتنا تذيع الأنباء وبعض ما ألقي من الخطب، وكانت في فترات انتظار تجمع الأنباء تذيع ما تعودت إذاعته من الغاني الهزيلة التي تستعطف قلب الحبيب الهاجر. الخ، وانبرت الأقلام تنبه على هذه الفوضى وتشير بأن تذاع بدل ذلك أناشيد حماسية تغذي الوعي القومي والشعور المتوثب - منذ ذلك الحين تنبهت الأذهان إلى الفراغ الهائل الذي يحتاج إلى أن يشغل بالأناشيد، لأن الذي حدث أن الإذاعة أخرجت ما لديها من الأناشيد الوطنية وأطلقتها على الآذان التي تحملت شدة وقعها وأبت أن تنفذها إلى القلوب لخلوها مما يصلح وقوداً لشرر الوطنية فيها، فهذه أناشيد يتطرب بها بعض المغنين في لين وتكسر. .

وتلك أناشيد تنشدها جماعات من الصغار أو الكبار بطريقة آلية تخرج من حناجرهم ميتة رغم إعلاء الصوت بها، ومن هذه أناشيد وصفوها بأنها قومية وضعت بعد معاهدة سنة 936 وقت أن قبل ليس في الإمكان أبدع مما كان، ولا تزال تلك هي أناشيدها القومية لأننا لم نستعض عنها بجديد ولم نخل (طرفها) بعد. . . وكل هذه الأناشيد تسترك في أنها لا تؤدي شيئاً مما تجيش به الأفئدة في هذه الظروف وإنما هي كلام منظوم مؤلف من عبارات عامة و (أكلاشيهات) مرسومة فنحن أسد العرين وحماة الحمى وأجدادنا مدوا أيديهم إلى الشمس وامسكوا بقرصها الذهبي. الخ والإلقاء فهما منسجمان مع التأليف. . نغمات عالية وعقائر مرتفعة، كأن المشاعر الوطنية في مكان سحيق فهم يطلقون أقوى الحناجر لتبلغها الصيحات. . وأكبر دليل على أن تلك الأناشيد لا تنبض بحياة أننا لا نسمع أحداً يرددها طائعاً مختاراً. . ومن المخجل أنك لا تجد نشيداً واحداً يجري على الألسنة كما تجري الغاني المبتذلة من مثل (حموده ياني!)

وليست الأناشيد في مدارسنا بأحسن حالاً، فهي على ذلك الغرار بدليل أن التلميذ لا يرددها في خارج المدرسة، ومن أسباب قصورها أن المشرفين على الأناشيد في وزارة المعارف من ذوي الفن الموسيقي لهم خبرتهم في الإيقاع لا في التأليف لأنهم ليسوا من أهل الأدب، وكثيراً ما يختارون ما يسهل تلحينه أو يوافق قوالب عندهم.

وقد تنبهت الوزارة لذلك فألفت لجنة من الأساتذة عبد الحميد السيد ومحمود غنيم ومحمد الأسمر منذ نحو ستة أشهر لوضع نظام لمسابقة أناشيد مدرسية. وأخيراً أنمت اللجنة مهمتها فاختارت عدداً من الأناشيد التي قدمت إليها، والمهم في أمر هذه اللجنة أنها كتبت تقريراً عن مهمتها أشارت فيه إلى أن المسابقات ليست هي أضمن الطرق للحصول على الإنتاج الجيد، لأن التجارب دلت على أن الشعراء المعتدين بأنفسهم يرغبون عن هذه المسابقة وقد اضطرت اللجنة فيما اختارته من الأناشيد إلى الإغضاء عن عيوب الصالح منها وإصلاح هذه العيوب، وأشارت باتباع طريقة أخرى هي أن يختار بعض الأشخاص المعترف لهم بالكفاية ويكلفون بالإنتاج. ولا شك أننا الآن في حاجة إلى نشيد قومي له خواص الكائن الحي فيردده الجميع، فما السبيلإليه؟ أرى أن يختار عدد من شعرائنا الممتازين الذين يبدون استعداداً، ويكلف كل منهم بوضع نشيد يؤجر عليه، وتؤلف لجنة من ذوي الكفايات الأدبية والفنية لاختيار أحسنها. ولعل لدى قراء الرسالة من المقترحات ما ينفع في هذه المسألة فلا يضنون به.

(العباس)