مجلة الرسالة/العدد 751/في منظار (الخفيف)

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 751/في منظار (الخفيف)

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1947



للأستاذ على الطنطاوي

لم يعلم أحد لِم لم يكتب الصديق النبيل الأستاذ محمود الخفيف في العدد الماضي من (الرسالة)، ولم يعلم هو من الأمر إلا أنه فقد منظاره فجأة، ثم وجده كما فقده فجأة، لم يدر أين ذهب ولا كيف أتى، ولم يعرف سر المسألة إلا أنا، لأني سرقت (المنظار) من جيبه لما زارني في (الرسالة) في الأسبوع الماضي، ورددته إلى جيبه لما مر بي أمس، وقد كان عرض علي أن يعيرنيه لما رأى رغبتي فيه، ولكني خشيت (وسوء الظن عصمة) أن يفسده أو يصنع به شيئاً يمنعني من الاستمتاع به، كيلا أعود إلى طلبه منه، فآثرت أن آخذه على حين غفلة منه لأستعمله صحيحاً غير فاسد، ثم أن السرقة أخت الاغتصاب؛ وقد نص (الشاعر) على أن:

من أطاق التماس شيء غلاباً ... واغتصاباً لم يلتمسه سؤالا

والشعراء أئمة الأدب، ولا يستطيع (مقلد) مثلي مخالفة نصوص (الأئمة). . . لذلك

سرقت (المنظار)، ولكني لم أر مثل تلك الصور الفنية الكاملة التي كان يراها الأستاذ محمود، وإنما رأيت. . . اسمعوا ماذا رأيت:

وضعت (المنظار) على عيني، وخرجت به من الدار، وكنت على موعد مع الأستاذ نهاد القاسم لنزور جامع محمد علي، وسرت أنظر إلى بعيد، فلم أخط خطوات حتى أحسست برجة في جسدين وألم في ركبتي وقدمي، وإذا أنا قد سقطت في حفرة لم أنتبه لها.

وأقبل المارة يخرجونني ويسألونني كيف وقعت؟!

قلت: كما وقع الفلكي الذي كان ينظر في النجوم ومسالكها، ويدقق في حركاتها وسكناتها، ويعمى عما تحت قدميه، وكما (يسقط) الكاتب الذي يتكلم في الفلسفات العليا، ويغفل عن أدواء أمته وأمراضها، والشاعر الذي يحلق في سماوات الخيال، ويدع أمته تتمرغ في حضيض الشقاء. . .

وتركتهم يعجبون من هذا الكلام الذي حسبوه كلام مجنون. . . وسرت حذراً. . . أنظر حولي كيلا ألدغ مرتين من جحر واحد، فأكون شراً من الحمار، لأن الحمار إن سقط في حفرة مرة، يجتنبها فلا يسقط فيها أخرى، والإنسان (الذي يؤمن به أخونا الأستاذ يسقط في الحفرة الواحدة خمسين مرة، ثم لا يجتنبها ولا يبتعد عنها. . .

ونظرت في (المنظار) فلم أر في وجهي. . . إلا سوءات مكشوفة و (أوساخاً) ظاهرة؛ وبلايا من هذه البلايا. . . فكدت من غضبي أكسر هذا (المنظار) المسحور الذي ينظر فيه الأستاذ محمود فيرى (زهرتي) الوزارة، ويبصر غادة (الحمار الآخر)؛ وأنظر أنا فلا أرى إلا الأوساخ والسوءات، ورفعته عن عيني، وأنعمت النظر. . . فإذا الذي أراه حقيقة كنت أمر بها فلا أتنبه لها، لتعودي عليها، وتنبهت لها الآن لما ركبت على عيني (المنظار)، وهي أن الطريق الذي أسلكه كل يوم من داري إلى جسر الملك الصالح وأحسبه نزهاً جميلاً، قد فاض بالأقذار من الجانبين، فمن هنا هؤلاء الناس من الرجال: الشيب والشبان، والأولاد: البنات والصبيان، والنساء أحياناً. . . (حتى النساء!) يدعون جميعاً بيوت الطهارة وهي أمامهم: فيها الماء، وعليها الحارس، وفيها الستر والنظافة، و (يقضون حاجاتهم) على طول (الشط) أمام الناس، ومن هناك البنات المصريات في آخر الشارع، والأولاد المصريون في أولهن يدعون جميعاً المدارس المصرية الطاهرة النظيفة، ويقصدون هاتين المدرستين الإنكليزيتين، ويفتحون أدمغتهم للإنكليز وصنائعهم من أصحاب الأغراض والحاجات، ليحققوا فيها

أغراضهم، و (يقضوا حاجاتهم) ويجعلوا عشاً لكل وباء وكل مرض، يضعف الوطنية، ويؤذي الدين. وإذا طهر الشط من أقذاره الكناس، ورشاش (الدالين)، فلن يطهر البلد من أقذار هذه المدارس، إلا أن تكنسها الحكومة من أرض مصر، وتلقيها وأهلها في البحر. . .

وركبت الترام وأنا مغيظ مما رأيت محنق، فرأيت (المنظار) على عيني، ما سلاني وسرى عني، رأيت أمامي وجهاً حلواً، دقيق القسمات، نظيفاً لم تنزل ساحته الأصباغ، ولامسته يد التجميل، ولكن جمله ربه، وصبغه بصبغته. . . ومن أحسن من الله صبغة؟ فيه عينان زرقاوان، وفم متجمع مستدير ناضج الشفتين، فوق شعر أشقر، لا هو بالطويل المسترسل، ولا هو بالقصير المحلوق، وسوالف ليست مقطوعة كسوالف الرجال، ولا مطلقة كسوالف النساء، على جسم قد غطته سراويل سابغة، ورداء له أكمام طويلة، تبرز منها يد بضة ملفوفة، ما تعرف أهي يد بنت مدللة، أم يد غلام مترف، والعمر في نحو الخامسة عشرة، فجعلت أتساءل حائراً: هل هذا شاب أم فتاة؟ وحاولت أن أجد علامة دالة، أو أمارة ظاهرة، فعدمت العلامات، وخفيت عني الأمارات، وطالت حيرتي حتى لقد هممت أن أمد يدي فأتلمس. . . ومنعني أن أفعل أني استحييت وخفت العواقب، وأن الشاب قام، أو أن الفتاة قامت، فنزل، أو نزلت، وكل راكب في الترام يتساءل مثل تساؤلي، ويحار مثل حيرتي!

وركب مكانها (أو مكانه)، امرأة فرنجية كأنها من لطافتها. . . (سيد قشطة) تجر وراءها ثلاثة: ولدين كالخنزيرين السمينين، لا يعرف طولهما من عرضهما إلا بالقياس، وعجيزة مثل كيس التبن. . . وصلت هي إلى المقعد، ولا تزال العجيزة تصعد السلم، ثم جلست بين الرجلين على طرف المقعد، وهي تلهث كأنها قاطرة حلوان. . . ثم اندفعت في المقعد فضغطت الرجلين، فأدخلت واحداً في الزاوية من هنا، وواحداً من هناك، وأقعدت الخنزيرين (أي الولدين) على الركبتين، وتنفست الصعداء بعد هذا الجهد، فكانت نفخة مفاجئة أطارت جريدة كانت في يد الراكب أمامها. . .

وأقبل الجابي (الكمساري) وهو رجل أسمر طويل، عبوس الوجه، متين البناء، له شاربان كساريتي مركب، فقال لها:

- فلوس!

فمدت إليه يدها بثمانية مليمات، كأنها تمدها إلى سائل، فقال لها:

- هنا بريمو، خمسة عشر مليماً.

فرفعت إليه هذه الكرة المفلطحة التي تسمى في جغرافية جسمها (رأساً)، ولوت شدقها، وصعرت خدها، ومدت شفتها، حتى صار وجهها مثل القرعة اليابسة، وقالت:

- أنا ما بياطي، أنا مش آهد كويس.

- خمسة عشر مليماً يا مدام.

فغضبت، وصاحت:

- أنتي مسريين ما بسير لتيف أبداً، بيتم متوهش!

فأسرعت أنزع (المنظار) لألعن أباها، ومن جاء بها إلى مصر، ولكني وجدت (الكمساري) قد سبقني إلى هذه المكرمة، ورأيته قد انقلبت عيناه في أم رأسه، واصفر وجهه حتى صار كقشرة الليمونة، وارتجفت شواربه، ولكنه تماسك وتثبت، وصفر فوقف الترام، وقال لها:

- لو كنت رجلاً لرأيت، ولكنك امرأة، ونحن لا نمد أيدينا إلى النساء، فقومي انزلي. . .

وأكبرت فعله، وقمت أهنئه وأصافحه، ولولا خشونة خده، وأنها لا تطيب قبلته، لوثبت عليه فقبلته، وتمنيت أن يكون كل مصري مثله، وحمدت للمنظار ما أرانيه، ولكن الفرصة لم تطل، فقد فتح الباب ودخل منه سائل كأنه في جسمه وفي عينيه بشار ابن برد، عليه ثياب لو أن للقذارة (جائزة) عالمية، لنال بها الجائزة، يغني بصوت تخاله - والعياذ بالله - صوت ثلاث حمير تنهق معاً، على نغمة (الجازبند) نهيقاً مقلوباً، كأنه صراخ الجن في الأودية المسحورة، أو نواح المردة في قعر الجحيم، أو كأنه الموسيقى الفرنجية. . . بشعر لا تفهم له وزناً ولا قافية ولا معنى ولا تجد فيه طرباً ولا متعة ولا لذة، فكأنه شعر بشر فارس. . .

فلما اقترب مني لم أجد أحسن من الفرار، فنزلت من الترام عند الشارع الذي كان اسمه أيام الاحتلال (شارع مستشفى اللادي كرومر)، وكنت أنا المصري الأصل، الدمشقي المولد والبلد، أتألم وأقول ماذا يكون لهذه التسمية من ألم في نفوس المصريين أصلاً ومولداً وبلداً، وهي تذكرهم بأعدى عدو لهم، وتمن عليهم بمستشفى أنشأته زوجته ببعض ما سرقت من مال مصر، مع ما أصيبت به مصر على يد زوجها وقومه، من ذهاب الأنفس والأموال، ومن ضياع الحرية وهي أعز على الأبي من النفس والمال، وأوثر أن نموت في العراء (إن لم يكن إلا هذا المستشفى)، على أن نشفى فيه، لأن شفاء أجسامنا فيه، يمرض وطنيتنا، بمحبة هذه (اللادي) وذكرها بالخير، وعرفان الجميل لها. فلما تنبهت مصر، وذهبت تخطب أهل الأرض من فوق منبر مجلس الأمن، تعرفهم ظلم الإنكليز إياها، وعدوانهم عليها، رفع الشباب هذه اللوحة ووضعوا مكانها لوحة سموه فيها (شارع دنشواي)، وأشهد لقد كانت تسمية عبقرية، وكان رداً بارعاً، وكان جواباً لا يصدر إلا عن إلهام. . .

ووجهت (المنظار) إلى هذه اللوحة الجديدة، أمتع بها روحي وأنعش نفسي، فلم أجدها، ووجدت اللوحة القديمة قد جددت، فمسحت (المنظار) ونظرت فلم أر غيرها، فرفعته عن عيني ونظرت، فإذا أنا أجد اللوحة القديمة قد جددت حقاً. . .

لماذا؟ هل عادت أيام الاحتلال؟!

ورفعت (المنظار) عن عيني لئلا أسقط في حفرة، أو أصدم أحداً، حتى دخلنا المسجد، فقلت: أضعه لحظة، علّي أرى في المسجد ما يسر ويفرح بعد تلك المحزنات، وكانت الصلاة قد اقتربت، والمسجد لبعده، ولازدحام المساجد من حوله، كأنه خال فما فيه إلا أربعة صفوف، ونظرت فرأيت ثلاث فتيات سوافر كسائر نساء مصر، شعرهن يموج على أكتافهن، وأذرعهن بارزات كلها من الكم الياباني (الجابونيز) الذي يبدي ما تحت الإبط لكل ذي عينين، والسيقان مكشوفات لا جوارب تصعد لسترها، ولا ثوب ينزل لتغطيتها، ومعهن أمهن ترتدي هذه الملاءة ذات البرقع الذي لا يستر من الوجه إلا مداخل النفس من الأنف فقط، ويظهر الباقي كله. . . وأسرعت الأم وبناتها إلى حوض الماء يتوضأن، ويمددن أرجلهن لغسلها، فلا يبقى مستوراً إلا. . . الذي لم يكشف. . . ثم يقفن هكذا للصلاة. . . وفي المسجد مشايخ، رأوهن فلم يكلمهن أحد منهم، والخطيب رآهن فلم يعرض لهن، فنزعت (المنظار) وأغمضت عيني، وحاولت أن أنساهن وأتوجه إلى الصلاة، فلم أستطع، لأن صورتهن لا تزال (أقول الحق) أمام عيني. فإذا كن يلحقننا حتى إلى المسجد، فكيف نفر يا قوم منهن؟ وكيف يصنع الشاب العزب ليتقي إغراءهن؟

ألم يخطر على بال أحد من العلماء، والآباء، هذا السؤال؟!

ورجعنا و (المنظار) على عيني، ولكنه أخذ يكذب ويشوه الحقائق، فيريني خياماً من القماش في أول شارع الخديوي اسماعيل، وعليها لوحة تقول: أن هذه الخيام (إدارة تنظيم عمارة المدن). . .

فأقول: ينظمون عمارة المدن، ولا يستطيعون عمارة حجرتين من اللبن والخشب؟ هذا لا يمكن. . . وأهم بطرح المنظار، ثم أذكر أن هذا ممكن جداً في الشرق!

أليس يأمر الناس بالتقوى من غير تقياً، ويدرس البلاغة من ليس بليغاً، ويقود الأمة من يحتاج إلى من يقوده، ويعطي الأشياء فاقدها، ويولي الأمور غير أهلها؟!

وتابع (المنظار) الكذب، حتى إذا وصل إلى دار المفوضية السورية، وهي أفخم من أختها: الأمريكية والروسية!! زاغ (المنظار) عن كل ما في الدار، واستقر على (عقد الإيجار)، فأراني فيه رقم (300) جنيه في الشهر، ثم ذهب بي إلى دمشق، فبصرني بآلاف التلاميذ يزدحمون كل سنة على أبواب المدارس، ثم يرتدون عنها لأنها لا تتسع لهم، وليس عند الوزارة ما تستأجر به دوراً جديدة، لأن أجرة الدار (300) جنيه في السنة! ثم دار بي على المفوضيات السورية في آفاق الأرض ليريني. . .

ولكني أغمضت عيني فلم أنظر، لأن هذا كذب ظاهر، ونحن أعقل من أن تؤثر المظاهر على الجواهر، والتزاويق على الحقائق، والخارجية على المعارف، وثوب العرس على العروس! ونحن أعقل من أن نشتري (كرافته) بخمسة جنيهات، ونمشي بلا سراويل!

وسرت. . . فإذا (المنظار) يريني (كذبة) أشنع وأبشع: إعلانات، في كل مكان، وكل شارع، أن الأخوان المسلمين سيمثلون رواية الهجرة، على مسرح الأزبكية. . .

كذبة قطعاً، وإلا فهل استحالت دعوة الإخوان، وهجرة الرسول، إلى مسرح وتياترو؟ النبي والصديق وعلي؟ أهذه آخرتها؟

جمعية الشبان المسلمين، مثلت مع زوزو نبيل، وسمتها؟؟ ممثلة المسرح الإسلامي! وجماعة الإخوان تنزل الصحابة إلى تياترو الأزبكية. . . فهل تنشر مجلة الأزهر صورة امرأة عارية لتكمل الرواية؟ هل يوضع في جامع الكيخيا أوركسترا أفرنجية، وفي مسجد الحسين تخت شرقي؟!

لا. . . خذ (منظارك) يا أستاذ محمود. . . حسبي ما رأيت!

(القاهرة)

علي الطنطاوي