مجلة الرسالة/العدد 751/تعقيبات

من ويكي مصدر، المكتبة الحرة

مجلة الرسالة/العدد 751/تعقيبات

ملاحظات: بتاريخ: 24 - 11 - 1947



مكتبة الجاحظ

أهم صديقنا الباحث المحقق الأستاذ عبد السلام هارون تحقيق كتاب الحيوان لأبي عثمان الجاحظ وأخرجه للناس مصححاً مقوماً مكملاً، فلو رآه الجاحظ لقرت به عينه وطابت نفسه وشكر للأستاذ الفاضل هذا الصنيع الذي أحيا به أثراً خالداً، وأسدى به إلى العربية يداً. .

ونشر الكتب وتحقيقها ليس بالأمر الهين، ولكنه عمل يشترك فيه الذوق والفهم، والعلم وسعة الاطلاع، ويقتضي بذل الجهد وطولالبحث والصبر على مراجعة النصوص، وهذا كله قد اجتمع للأستاذ عبد السلام هارون، وتجلى فيما أخرج من كتب قيمة وحقق من أسفار نافعة، وقد أعطى لكتب الجاحظ قدراً كبيراً من عنايته، فهو الآن يعد العدة لإخراج الحلقة الثانية من مكتبة أديب العربية الكبير، وهي كتاب البيان والتبين، وقد راجع الأصول المخطوطة لهذا الكتاب، وكمل مواضع النقص فيه، واستوفى مواقعه الناقصة شرحاً وتعليقاً، وما بقى إلا أن يقدمه إلى أبناء العربية في أجمل حلة من التنسيق والطبع. .

على أن الذي يدعو إلى الغبطة أكثر أنه الآن يهتم بجمع الأصول لرسائل الجاحظ المفقودة، وقد هيأ فعلاً رسالة (حيل اللصوص) لأبي عثمان، وكان الظن بهذه الرسالة أنها ضاعتفي أجواء العصور الخالية، وإنه لجهد نافع، وعمل مشكور.

أن هذا الذي ينهض به الأستاذ هارون لعمل تنوء به الجماعة، ولو نهضت به جامعة أو جماعة لحسبته من مفاخرها الخالدة، ولكنه عمل ينهض به فرد مخلص للعلم وهو صامت صابر، قانع بأنه يؤدي واجبه العلمي، ثم هو لا يظفر من جامعاتنا وهيئاتنا العلمية بكلمة تقدير أو شكر. .

علم وجهل

والعلم والجهل ضدان لا يجتمعان، ولكن محطة الإذاعة المصرية قد استطاعت أن تجمع بينهما في براعة تحسد عليها وتدل على عبقريتها. .

تقدم هذه المحطة إلى المستمعين برامج ثقافية تعرض فيها حياة بعض الشعراء والعلماء ورجال التاريخ، في أسلوب طريف خفيف يحمل الناس على الاستماع إليه والانتفاع به، والمحطة تقصد بهذا تثقيف المستمعين وتزويد الذين لم يطلعوا على التراث العربي بذلك الزاد الخفيف، وهو لا شك قصد حسن تشكر عليه، ولكن الخطر كل الخطر هو ما تتضمنه تلك البرامج من الأخطاء الشنيعة في التاريخ والأدب، وتحريف الوقائع والروايات، فأن ذلك يعكس القصد الذي تهدف إليه محطةالإذاعة بتقديم هذه البرامج، فتكون طريقاً إلى الجهل باسم العلم.

استمعت منذ ليال إلى برنامج قدمته المحطة عن الشاعر العالم إسماعيل حسن بن علي الطفرائي الاصبهاني، فلو أردت أن أنبه على ما وقع في ذلك من أخطاء تاريخية وتحريف للوقائع لاحتاج ذلك إلى صفحات من الرسالة.

فلعل المسئولين في محطة الإذاعة يعنون باستدراك هذا الأمر، وإذا كان ذلك مما يشق عليهم فمن السهل أن يؤلفوا لجنة علمية أدبية لمراجعة هذه البرامج حتى تخرج سليمة من كل تحريف خالية من تلك الأخطاء التي لا تحتمل. .

دعوة متهمة!!:

إنه لشيء طريف، وما أكثر الأشياء الطريفة في هذه الأيام!!

قالوا أن بعض المتخرجين في الجامعة وأساتذتها الشبان قد ألفوا من بينهم جمعية أسموها جمعية أنصار اللغة العامية! وغايتها الدعوة لهذه اللغة باعتبارها لغة الأدب القومي في مصر الحديثة. . ويبرز أعضاء هذه الجمعية دعوتهم بأن الشرق العربي يمر بالمرحلة التي مرت بها أوربا في عصر النهضة حينما تطورت اللهجات الشعبية إلى اللغات الأوربية الحديثة متفرعة كلها عن أصل واحد وهو اللغة اللاتينية!!

فاقرأ يا أخي وتحسر على هذا الثمر الذي أثمرته لنا الجامعة، وعلى هذا التفكير الذي يتحدر من وراء العقول. عقول الشباب المثقف الذي يقال إنه عماد التقدم والنهوض. .

أنا رجل لا أحب أن أخلط مسائل ونظريات الأدب بغيرها من الاتجاهات الأخرى، الاتجاهات التي تتصل بالأغراض والمآرب، ولكني أحب أسأل سؤالاً خفيفاً: لماذا ترتفع الأصوات بالدعوة إلى العامية في هذه الأيام التي ندعوا فيها للجامعة العربية وتوثيق الروابط بين أبناء العروبة وحجتنا ف يذلك أن لغتنا واحدة وتقاليدنا واحدة وقوميتنا واحدة. . .

إنني أسأل هذا السؤال، وإني لأضع يدي على شيء في هذا المجال، ولكني لا أحب أن أصرح به، ورجائي ألا يضطرني القائمون بهذه الدعوة المريبة المتهمة إلى التصريح والإفصاح. . .

على أن أدع هذه الناحية جانباًن وأسأل أولئك (الجامعيين): ما تلك العامية التي يريدونها لغة قومية لمصر؟ وفي مصر عشرات من اللهجات العامية التي لا تلتقي في كثير من الأحيان، حتى إنه ليصعب على أبناء الوجه البحري التفاهم مع أبناء مصر العليا، ثم ماذا يصنعون في رسم الكلمات ونطق الحروف ونحن نجد مثلاً حرف (القاف) ينطقه أبناء الصعيد جيما، وأبناء بعض المديريات الشمالية (قافا) وفي بعض المديريات الأخرى (كافاً) وفي القاهرة والمدن ينطقونه (همزة)؟!

ومن يدري؟ لعل وراء هذه الدعوة دعوة أخرى، ولعل (الجامعيون) يطلعون علينا بعد ذلك بالدعوة إلى استقلال كل مديرية من مديريات مصر بعاميتها وبقوميتها. . ألم أقل لك إنه شيء طريق!!

الجامعات في سائر بلاد العالم تخرج شباباً مثقفاً مهذباً يعمل لتثقيف العقول وتنوير الأذهان والسمو بها إلى أعلى، وجامعتنا تخرج شباباً ينحدرون من أعلى إلى أسفل، ويودون بجدع الأنف أن لو استطاعوا السير في الطريق على رءوسهم وأقدامهم إلى السماء ليوجهوا إليهم الأنظار. . .

حافظ. . ومكبث:

قال صديقنا الأستاذ دريني خشبة في مقال كتبه عن شوقي والمسرح في مجلة (الكتاب).

(. . . وكان لحافظ إبراهيم بدوات يحن فيها إلى المسرح وتشف عما كان يتمناه من استطاعة النظم له. وإلا فما الذي أغراه مثلاً بترجمة تلك القطعة الرائعة من نظم شكسبير، والتي يخاطب فيها مكبث خنجره قبل أن يغتال ابن عمه دنكان، والتي يقول في مطلعها:

كأني أرى في الليل نصلا مجداً ... يطير بكلتا صفحتيه شرار

تقلبه للعين كف خفية ... ففيه خفون نارة وقرار

وهي ترجمة جيدة تدل على حسن فهم حافظ لروح شكسبير.)

والحق أن حافظاً لم ينظم هذه المقطوعة المتداولة في وصف خنجر مكبث فحسب، بل إنه ترجم الرواية جميعها، ترجمها نثراً وشعراً، وبذل في ذلك مجهوداً كبيراًن وكان يعدها للتمثيل، ولكنها فقدت منه، وقد ظل حافظ رحمه الله يتحسر عليها إلى آخر حياته. .

ومما يذكر أن المرحوم سليم سركيس نشر صفحات من هذه الترجمة في مجلته التي كان يصدرها باسم (سركيس)، وقد كتب في العدد الذي صدر بتاريخ 15 فبراير سنة 1906 يقول: (عرب حافظ إبراهيم الشاعر الكبير رواية ما كبث مكلفاً بذلك من الشيخ سلامة حجازي ليمثلها جوقه، فاخترت أن أكون السابق إلى نشر شذرات من التعريب دلالة على إجادة المعرب وبياناً للغة هذه الرواية التي ستكون أفضل الروايات المصرية لغة). . . ثم أورد بعد ذلك نحو صفحتين من ذلك التعريب.

وقد عنيت من قديم بجمع كل ما نشر من الشذرات من تلك الترجمة التي تعد أروع آثار حافظ الأدبية، ولعلي أستطيع في فرصة قريبة أن أقدمها إلى قراء الرسالة. . .

ومما يذكر بهذه المناسبة أن الشاعر الكبير خليل مطران بك قد ترجم رواية مكبث وستمثلها الفرقة المصرية في هذا الموسم ولا شك أن شاعر القطرين قد عوض الدب العربي بهذه الترجمة ما خسره بضياع ترجمة حافظ. .

(الجاحظ)